في ذكرى اندلاعها: كيف أرخ الساسة والمؤرخون للثورة العرابية؟

تبحث المقالة في آراء المؤرخين في ثورة أحمد عرابي ضد الخديوي توفيق في مصر وأسبابها الحقيقية في مراجعة نقدية للثورة.

أحمد عرابي

 

في مثل هذا اليوم في التاسع من شهر أيلول سبتمبر عام 1881، وفي ساحة قصر عابدين، وقع اللقاء الشهير ما بين الزعيم المصري أحمد عرابي والخديوي توفيق.

ذلك اللقاء كان بمثابة الشرارة التي تسببت في اشتعال الأوضاع السياسية بشكل كبير، حيث تسارعت من بعده الأحداث، حتى آلت في نهايتها لإجهاض المشروع الوطني المصري الوليد بعد قيام القوات الإنجليزية بدخول مصر واحتلالها والاستيلاء على مقدرات الحكم بها.

في هذا المقال، نتناول بعض الوقائع والمحطات الكبرى التي شهدتها الثورة العرابية، لنرى كيف تناولها المؤرخون في كتاباتهم، وكيف علقوا عليها على اختلاف أفكارهم وتوجهاتهم.

 

دوافع الثورة: بين الظروف الواقعية ونظرية المؤامرة

في كتابه "التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر"، يذكر الكاتب الإنجليزي ألفريد سكاون بلنت، أن هناك بعض الشكوك المحيطة بمسألة السبب الرئيس الداعي للمواجهة التي جرت ما بين أحمد عرابي والخديوي توفيق، وهي تلك المواجهة التي اعتاد المؤرخون أن يبدأوا بها تأريخهم لأحداث الثورة، حيث يذكر بلنت أن الأمر لم يُقصد به وقوع الصدام ما بين الجيش المصري والخديوي، بل كان في الحقيقة خطة مُدبرة بمعرفة توفيق نفسه، حتى يتمكن من اقصاء مراكز النفوذ التركية والشركسية المتحكمة في الدولة. ولما كان الخديوي الشاب قد لمس العداء المبطن ما بين المصريين والأتراك في الجيش، فقد عمل على استغلال الوضع لصالحه، فأخبر عرابي ورفاقه على لسان علي فهمي رئيس الآلاي الأول لحرس الخديوي والمقرب من عرابي، بأن رئيس النظار ووزير الجهادية عثمان رفقي يبيتان لهم الكيد، وأنهم إن لم يعملوا على إقصائهما من منصبيهما حاق بهم السوء، ولن يبخل الخديوي بمعاونتهم لأنه يعطف على مطالبهم.

غير أن الكثير من المؤرخين الذين اهتموا بالثورة العرابية، قد وقفوا موقفاً معارضاً من الرواية السابقة، فمثلاً يقول علي الخفيف في كتابه "أحمد عرابي الزعيم المُفترى عليه"، بعد أن يورد رواية المؤرخ الإنجليزي "وكذلك لم أقع على ذكر هذا الذي يُنسب إلى الخديوي فيما تناولته من الكتب التي عُنيت بتفاصيل الحركة العسكرية، ولعل بلنت ينفرد بهذه الرواية...".

ويسوق الخفيف العديد من المسوغات والدوافع الموضوعية التي أدت إلى إشعال فتيل الثورة، فيقول "إن توفيق قد ورث عن سلفه العديد من العوامل التي تؤدي إلى الثورة تلك التي راحت تحدوها وتمهِّد لها أقلام جمال الدين وتلاميذه حتى جاء عهد توفيق فرجفت الراجفة".

ويحاول الخفيف أن يبرز شمولية وتنوع الثورة العرابية، وأنها لم تقتصر على الجانب العسكري فحسب، فيقول "ما كانت الثورة العرابية حركة عسكرية فحسب كما يحلو لكثير من المؤرخين أن يصوروها عن عمد، أو عن غفلة، وأن الذين يفعلون ذلك منهم ليأتون من ضروب الخطأ ما نعجب كيف يحملون على قبوله أنفسهم وعقولهم، وإنما كانت الثورة العرابية إذا أردنا وصفها في جملة هي التقاء الحركتين الوطنية، والعسكرية، واندماجهما، فلما ذهب عرابي إلى الخديوي على رأس جنده في اليوم التاسع من سبتمبر سنة 1881 ذهب يحمل إليه مطالب الجيش ومطالب الأمة معًا، ومن ذلك الوقت صار سلاح الثورة السيف وقد كان سلاحها القلم، أو بعبارة أخرى حارت قيادتها بين السيف والقلم".

 

اللقاء الأكثر شهرة: بين عرابي والخديوي

من أشهر الصور النمطية التي خلفتها لنا الثورة العرابية من ورائها، تلك الصورة التي تبين اللقاء الشهير ما بين عرابي والخديوي توفيق.

الصورة الشهيرة التي يظهر فيها الزعيم المصري ممتطياً صهوة جواده في إباء وشمم، وقد التف من حوله الجنود المصريون المصممون على استرداد حقوقهم المنهوبة، بينما وقف الخديوي في قبالتهم في غرور مصطنع وإمارات القلق والتوتر تبدو واضحة على ملامحه، مُحاطاً بأتباعه من الإنجليز والفرنسيين من ذوي الميول الاستعمارية والأطماع الكبرى في احتلال مصر ونهب ثرواتها.

تلك الصورة ارتبطت دائماً في عقول المصريين، بالمناظرة التي انعقدت ما بين عرابي والخديوي، والتي بدأت بسؤال الثاني للأول، عن السبب الذي جاء من أجله إلى ساحة قصر عابدين فیجیبه عرابي عندها بثبات وقوة: "جئنا نعرض علیك طلبات الأمة والجيش العادلة"، ثم يُفصّل هذه الطبات في ثلاثة مطالب محددة وهي: إقالة وزارة رياض باشا، وتنفيذ الدستور، ودعوة البرلمان للانعقاد، وزيادة عدد الجیش إلى 18 ألف جندي.

هنا تُظهر الروايات الخديوي وقد رد بعنجهية بأن تلك الطلبات لا حق لكم فيها، وأنه قد ورث ملك ھذه البلاد عن آبائه وأجداده، وأن المصريين ليسوا سوى عبيد إحسانه، فيرد عليه عرابي قائلاً جملته المشهورة:

"لقد خلقنا لله أحراراً، ولم یخلقنا تراثاً وعقاراً، فوالله الذي لا إله إلا ھو إننا سوف

لا نورث ولا نستعبد بعد الیوم".

بتلك الجملة الختامية يُسدل الستار على هذا المشهد الملحمي المؤثّر الذي لطالما داعب مخيلات المصريين، في أوقات الثورات والمحن.

ولكن التحقيق العلمي الجاد، يبيّن أن الصورة السابقة كلها ليس لها أي شاهد تاريخي يؤكد على ثبوتها، وذلك أن المراجع التي تعرضت لأحداث الثورة العرابية، ومنها مذكرات أحمد شفيق باشا وكتاب "البحر الزاخر في علوم دولة الأوائل والأواخر" لمحمود فهمي باشا، تتفق جميعها على إغفال تلك القصة، وعدم الاشارة إليها من قريب أو بعيد، وذلك برغم أن بعض مؤلفي هذه الكتب كانوا من ضمن المشاركين في أحداث تلك الثورة أو من ضمن من عاصروا أحداثها.

 

ولكن من أين أتت تلك القصة إذن؟

في الواقع، إن المصدر التاريخي الوحيد الذي يذكر تلك القصة بكل تفاصيلها، هو مذكرات أحمد عرابي، والمسماة "كشف الستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية المشهورة بالثورة العرابية"، والتي قام عرابي بتدوينها أثناء قضائه فترة المنفى في جزيرة سيلان عقب فشل الثورة. ومن هنا فإنه يحق لنا أن نشكك في تلك القصة وأن نعتبرها من نتاج التخيّلات والأماني التي داهمت عقل الزعيم المنفي في وحدته.

 

هكذا قيّم الزعماء والمفكرون ثورة عرابي

إذا كنا في المقاطع السابقة من تلك المقالة قد عرضنا لبعض الأحداث الخلافية، التي تباينت فيها أراء المؤرخين واعتقاداتهم، فإننا هنا نحاول أن نُعيد قراءة وتقييم الثورة العربية من خلال كتابات بعض الزعماء والمفكرين الذين شارك قسم منهم في بعض أحداثها، وعاصر القسم الأخر منهم مجرياتها وتأثروا بمآلاتها ونتائجها النهائية.

الشيخ محمد عبده، ذلك الشيخ الأزهري الكبير والداعية الإصلاحي البارز، كان قد وقف ضد حركة عرابي في البداية، ولكنه سرعان ما أُقحم في أحداثها، فانضم إلى صف عرابي الذي انتظم فيه حينذاك أغلبية رجال الدين ورجال الطبقة الوسطى والمتعلمين.

عبده، تم نفيه بعد إخفاق الحركة ودخول الإنجليز إلى مصر، ولكنه عاد إلى وطنه بعد توسط عدد من أمراء الأسرة العلوية الحاكمة لدى المندوب السامي البريطاني على مصر حينذاك، اللورد كرومر.

الشيخ الأزهري بعد عودته، اعتاد أن ينتقد عرابي بقسوة في كتبه ومقالاته، وجرّده من كل لبوس للوطنية كان قد اتشح به إبان الثورة، وأظهر حركته كلها على كونها مجرد محاولة للمجد الشخصي ليس إلا.

ينقل علي الخفيف عن محمد عبده قوله في إحدى مقالاته واصفاً عرابي "إنه لم يكن يطلب إصلاح حكومة أو تغيير رئيسها، فذلك مما كان يكبر على وهمه أن يتعالى إليه، وإنما الذي أحاط بفكره وملك جميع مقاصده هو الخوف على مركزه مع شدة البغضاء لمن كان معه من أمراء الشراكسة والمنافرة من عثمان باشا".

الزعیم مصطفى كامل، والذي حمل لواء الكفاح ضد الإنجليز في مطلع القرن العشرين، كان قد أعلن مراراً وتكراراً أن أحمد عرابي، هو المسؤول الأكبر عن دخول الإنجليز إلى مصر، حيث اعتبر أن حركته الطائشة قد قدمت مسوّغات مناسبة لانقضاض المستعمر البريطاني المتربص، ومما قاله في هذا السياق، ما ورد في مقاله المنشور في جريدة اللواء يوم 28 أيلول سبتمبر 1901م، حيث جاء فيه: "عار أكبر وأشهر من عار، رجل تهور جباناً واندفع جاهلاً وساق أمته إلى مهواة الموت الأدبي والاستعباد الثقیل ثم فرّ هارباً من میادين القتال".

المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي، والذي كان معجباً بالثورة العرابية وأرّخ لأحداثها في كتابه الشيّق "الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي"، كان أول من لقب حركة عرابي بالثورة، حيث أشاد كثيراً بدور عرابي ورفاقه في مواجهة استبداد الخديوي. ولكنه على الرغم من كل تلك الاشادة والإعجاب، وجد نفسه مضطراً في نهاية المطاف لانتقاد أحمد عرابي، بسبب قيامه بالاستسلام للإنجليز، حيث قال الرافعي: "لقد انتقدت في كتابي عن الحركة العرابية ما جري في التل الكبير من تجاوزات وأخذت على عرابي تسليمه سیفه للقائد البريطاني وكنت أتمنى لو أنه استشهد في المعركة، كما أخذت علیه موقفه الضعيف المتخاذل في المحاكمة".

الرافعي أيضاً، أشار في خاتمة كتابه إلى أن أحمد عرابي قد رجع مرة أخرى إلى مصر، بعد أن قدم التماساً ورجاء إلى السلطات الإنجليزية، وأنه لما عاد إلى القاهرة وجد المصريين قد ضاقوا بالاحتلال وسخطوا عليه، وأن عرابي لم يراعِ مشاعرهم، فطفق يتغنى بسياسات المحتل ويبدي إعجابه بأسلوب الحياة الإنجليزي وطرق الإدارة البريطانية.

ومن أهم المواقف التي تبيّن التغيير الكبير الذي طرأ على أفكار عرابي بعد رجوعه من المنفى، أنه قال في حديث لجريدة "المقطم" في عدد الثالث من تشرين الأول - أكتوبر 1901: "إنه لما وصل إلى السويس سأل الذين قابلوه بالسويس من أفراد أسرته: صحيح أن السخرة أُلغيت عندكم؟ فقالوا: نعم صحيح، قلت: والكرباج؟ قالوا: أُبطل من زمن طويل، قلت: وكیف تُحصّل الأموال من الأهالي؟ قالوا: بالحق والعدل، وكل إنسان یعرف ما له وما عليه، فسألتهم وكیف الاستبداد في الأحكام الآن؟ فأجابوا أنه لم یبقَ للاستبداد أثر. فكل شيء مقیّد بقانون ونظام، ولا خوف على محكوم من جور حاكم، لأن كل من له أو عليه قضايا یرفع ظلامته للمحاكم، فشكرت لله لأنه حقق مناي وأراني قبل مماتي ما طالما كنت أتمناه لبلادي، وقد شاء لله أن يُنعم به على وطني لحكمة قضى ألا یتم ذلك على یدي، بل على ید الذين نازلناهم في ساحة القتال وكانوا لنا أعداء فصاروا لمصر خیر الأصدقاء. أما فیما یختص بي فإني لم أجد من الذين قاتلتهم غیر معاملة الكرام الذين یستحق معروفهم الشكر وكرمهم الإكرام فإنهم حفظوا حیاتي من الإعدام ولما بتُ وحیداً بذل قوم منهم المال لمساعدتي فكنت أستعين بمالهم في الدفاع عن نفسي...".

كل تلك الكلمات، التي تتطاير من حروفها مشاعر تشي بمجاملة وتملق المحتل الأجنبي والإشادة بحسن صنيعه، جعلت أكثر الناس يغضبون من قائد الثورة المنتكسة ويحنقون عليه، فهاجمه كل من الرأي العام والصحافة، وهجاه كبار الشعراء، من أمثال صديقه السابق محمود سامي البارودي، وأمير الشعراء أحمد شوقي، حتى تُوفي عرابي في نهاية المطاف حزيناً وحيداً منبوذاً في 11 أيلول سبتمبر 1911، مخلّفاً من ورائه فصلاً جدلياً شائكاً من تاريخ الأمة المصرية الطويل.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]