تصويب برمجة الإذاعات وضبطها على موجة أصالة الأنغام

هنا نص المحاضرة التي ألقاها الزميل المذيع والناقد الفني محمد حجازي، في المؤتمر الموسيقي حول تأثير الاذاعة على مسار الموسيقى، وذلك في جامعة الروح القدس في الكسليك - لبنان.

حجازي: المال الإعلاني غالباً ما يكون دعماً لطارئين على الموسيقى والفن

سلاماً وتحية

سلام الموسيقى، وتحية عبر أثير هوائيات الإذاعة.

أيها الحضور الكريم سيدات وسادة.. في كل مناسبة يتحدث سادة الأنغام، وحملة الأقلام، عن سوء أحوال الموسيقى العربية، والكلام يطال دائماً أهل المهنة، بما يعني أن المتسببين في داء الموسيقى، هم أنفسهم دواؤها، يطرحون أفكاراً ولا يعملون بموجبها، يقولون رأياً ويفعلون عكسه ميدانياً.

لا نريد محاباة أي طرف في هذه القضية الحساسة والمصيرية، فإذا كان سهلاً تحميل أهل الموسيقى المسؤولية عما آلت إليه من تراجع وتذبذب في جماهيريتها، فالأجدى توجيه معظم السهام إلى وسائل الإعلام المختلفة، وما دمنا في إطار التصويب على الإذاعة، فالأمر يختصر الكثير من الوقت والجهد وحتى المناورة، كون لبنان تبث فيه أكثر من سبعمئة إذاعة متنوعة الضخامة، وقدرة البث، وحجم المكتبات الموسيقية، وحتى الأهداف التي وجدت من أجلها، وهي في الغالب تجارية، وهذه ليست تهمة فأي مشروع من حقه أن يربح لكي يصرف على أصحابه ليدعم إستمرارهم،لكن أحداً لا يبرر لأي منهم أن تذهب الأمور كلها معه صوب البزنس، حيث علّة الفن وأساس خرابه، فمن يدفع أكثر يتم الترويج لموسيقاه أكثر، من دون الأخذ بعين الإعتبار مستوى وقيمة الأنغام التي يتضمنها هذا المصنّف الموسيقي.

نعم المال الإعلاني سواء جاء من الفنان نفسه أم من الشركة التي تنتج له، غالباً ما يكون دعماً لطارئين على الموسيقى والفن، بيدهم المال الذي يعتمدونه لترويج سلعتهم، وليس مهماً هنا أن يعجب هذا النتاج صاحب الإذاعة، أو يلقى إعجاباً أورفضاً من ناقد أو أكثر- على ندرة وجودهم-، أو حتى الجمهور، الذي سيعلق لاحقاً في شباك الإصغاء الإختياري لأن الأغلبية في الوسط على هذا النهج، بل كل الهم أن يرضى حامل صفة الفن عن غير جدارة بالترويج لإنتاجه، ومرة بعد مرة تصبح المسألة روتينية والكل يسمع ولا يصغي والدنيا تسير إلى الوراء.

دور الإذاعات

هذه مشكلة كبيرة. فالمسألة متعلقة أصلاً بالتنسيق، بمعنى أن القيّم على هذه المهمة يفترض أن يمتلك خلفية كافية من المعرفة لكي يميّز بين الجيد والسيء، وأن يُلم بالكثير من المعلومات عن الموسيقى وتاريخها وأنواعها ومبدعيها، بحيث لا يظلم كبيراً أو يرفع صغيراً، لكن الحاصل أن الفوضى عارمة في هذا السياق ، وما يُبث يُعتبر جزءاً من علامات الآخرة في عُمر الموسيقى ، نعم ودونما تردد، من يبثون الموسيقى هم الذين يقتلونها، فغالباً ما تغيب مؤلفات ذات قيمة ووزن إذا لم يطلبها معد برامج فاهم من المكتبة، وهي حالة نادرة لا يمكن الركون إليها على أنها أحد الحلول، أبداً، فإذا أردنا الإستفادة من الإذاعات في معرض تحسين صورة الموسيقى العربية في برمجتها، لا بأس من فرض تعاون بين المرجعيات الموسيقية المحترمة والإذاعات من خلال التنسيق فيما بين الطرفين خدمة لبرمجة تعيد لموسيقانا العربية قيمتها وصورتها المبهجة والمبدعة، كأن يتناصف الطرفان في الإختيار لما سيُبث على أثير هذه الإذاعة أوتلك، وهذا لا يحد من حرية هذه الهوائيات الخاصة بل يُصوّب برمجتها فقط ويضعها على سكة صحيحة من التعاطي مع صورة أصيلة ومؤثرة لموسيقانا يجب توظيفها حيث يجب وكما يليق بها .

ويستتبع هذا التدبير إستحداث برامج تُعنى بالموسيقى في إذاعاتنا بما يجعل السميعة والجمهور العادي على بيّنة من ثراء موسيقانا من خلال إختصاصيين لا يرهقوننا بالشروحات الأكاديمية التي تبعث على الملل، بل أن يسمعوننا أكبر قدر من الموسيقى العربية الصافية، الغنية والمتدفقة المشاعر، بتنسيق وإعداد وفهم ممن يعرفون الأنغام ليكون هذا السلوك حاضراً وقادراً على توصيل الثقافة الموسيقية لمن يحتاجها، المشكلة تكمن في التوصيل، وحتى لا تبقى الشمّاعة :" والله هيدا الموجود وعم نسمعو ما تواخذونا" لا .هذا الموجود حالياً نعم لكننا لسنا مجبرين على الإستماع إليه تحت هذه الخانة أبداً، وعلينا سرعة المبادرة إلى تحريك كل المنابر المسؤولة من وزارة الثقافة، والكونسرفاتوار بمن فيه من فنانين محترمين ومميزين، والمجمع العربي للموسيقى، وكليات الموسيقى العديدة في لبنان تتقدمها كلية الموسيقى في جامعة الروح القدس – الكسليك، يجب أن تكون هناك مرجعية موثوقة ترجع إليها الإذاعات، ولا بأس هنا من رفع كامل البرمجة اليومية إلى خبير فاهم ومختص يؤشّر على مواطن القصور في البرمجة وينصح بإعتماد مواد موسيقية أخرى، تُغني وتجعل المادة الجاهزة للبث أكثر توازناً ما بين القديم والحديث، وأكثر مراعاة لمبدأ النوع وليس الكم.

أفق الحل

السؤال هل من أفق لحل ما ، فوري مباشر وغير مُكْلف.. والجواب نعم

لاشيء يمنع من توجيهات تُعطى للإذاعات لكي تتضمن برمجتها نسبة لا تقل عن 65 بالمئة من مواد موسيقية تحافظ على التراث، وتكون منسجمة مع الأصيل من الأنغام قديمة كانت أم حديثة، المهم ألاّ يدخل نشاز على الخط يسيء إلى الموسيقى كفن راق، وكما إستطاع ال "سي دي"، هزيمة "أشرطة الكاسيت" وإلغاءها، كذلك فإن إقتحام مناطق الخطر في حضور الموسيقى، بإمكانه إبعاد الغث، الذي وراءه مجموعة من الجهلة، وإحلال السمين الذي سرعان ما يجد مكانه فسيحاً، وبالتالي تذهب الإذاعات بالموسيقى الراقية إلى آفاق لا يحدها الخيال، فقط علينا أن نتحرك، وتكون عندنا القدرة لقبول الأصالة بكل عناصرها، ولأن الديمقراطية ليست مضمونة النتائج فلا بأس من دخول عنصر الفرض الإلزامي وبموجب مذكرات رسمية جادة وواضحة للفوز بالنتيجة المتوخاة.

الإذاعات لن تقوم بالدور المفيد من دون أوامر وبيانات حاسمة، والمضحك المبكي، أن معظمها يمتلك أكبر أرشيف من هذه الموسيقى، لكنها لا تُدرج على البرمجة إعتقاداً من القيمين عليها بأن الجمهور "مش عايز كدة"، ومن المفارقات أن نستمع إلى نماذج مما يجري، عبر إشادات بالزمن الأصيل، والأيام الخوالي، لكن شيئاً من هذا ىالكلام لا يُطبق، لأنه مناقض للواقع السائد، والكل يجد قلة رغبة في الإندفاع نحوه ومنحه الإهتمام ومباشرة إجراءات التصحيح، إنقاذاً لموسيقى لها جذور غارقة في الأعماق ولا مجال للتقليل من شأنها أو تجاهلها.

والمشكلة التي ستواجه تدابير من هذا النوع هي أن شركات إنتاج ربما إستغنت عن الترويج الإذاعي من دون تأثر لأنها هي أو الفنان نفسه أنشأ موقعاً ألكترونياً يبث عليه أغنياته الكاملة بالقدر الذي يريده غير عابئ بأي إعتراض كان. وهذه تحتاج إلى قوانين تمنعها، أو تُخضعها لسلطة واحدة، بحيث لا يعود متاحاً لأي كان أن يطلق موقعاً له من دون موافقة رسمية مسبقة.ومن هذا المنطلق يصبح الإجتماع الدوري بين القيّمين على الإذاعات مفيد وضروري جداً، لأن مجرد التباحث في الجيد والسيء سيوصل إلى نتيجة، لكن هامشاً من الحرية سيبقى مطلوباً لهذه الهوائيات لكي تحفظ مصادرها من المال شهرياً فالبث العادي لا يجني شيئاً ذي بال، أو يُعتد به.

تصويب برمجة الإذاعات في غاية الأهمية إذا ما إعتمدنا أسلوباً مناسباً لضبط الموجات العاملة على خانة الأصالة والوزن الموسيقي الحديث، وإلاّ فالأمور إلى خراب، والموسيقى ذاهبة إلى مجهول لا أحد يعرف الخروج منه.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]