مواجع إيفون الضيعة في "آخر ما قاله لي الله"

الشاعرة المتعبة من الحب والحرب تقايض الموت بالشعر والضحكات الهازئة.

يضمّ ديوان "آخر ما قاله لي الله"، لإيفون الضيعة (مؤسسة وشمة للنشر - تونس)، مجموعة من النصوص المتنوّعة من جهة مواضيعها وصياغتها الشعريّة والإيقاعية، ولكنّها في أغلبها نصوص تنهض وفق تيمات ثلاث: الشعر، ماهيته وغاية الشاعرة منه. الحرب وآثارها النفسية العميقة وجروحها الغائرة في عمق الروح الإنسانية. ثمّ الحبّ والعشق وحضور الذات الشاعرة على اعتبارها جوهراً أنثوياً، يضجّ بالعواطف والانفعالات. ويحيل كلّ ذلك على عدم التقيّد بموضوع واحد، وسعي الشاعرة إلى تنويع المضامين والرؤى.

والتنويع -هنا- طافِح بالدلالات، فالمواضيع لا تتّصل بالذات الشاعرة في خصوصيتها فحسب، بل بالإنسان في مطلقه، لتتولّد أسئلة حارقة تتّصل بأساس الوجود، والحكمة من الحرب و الحياة والموت. وقد أكّدت إيفون الضيعة في أكثر من نصّ شعري أنّها قد واجهت العالم عزلاء إلاّ من استفهامات لا أجوبة لها، وعراء الرّوح الذي يزّينه الإنسان بمساحيق مموّهة خادِعة، وهذا الألم الساكِن في أعماقها وأعماقنا في رحلتنا الشّاقة الطويلة التي نسمّيها الحياة.

إنّ الشاعرة لتبدو مُتعبة من الحُبِّ وخيباته والحرب ومآسيها، لذلك تقايض الموت بحزمة شعر و ضحكات مستخفّة هازئة. تقول في قصيدة "لن أموت بعد الآن":

 

أمسكُ عُمري لأزرعَ مواسم الشّعرِ
في مدينة تحترفُ رَجْمَ الشعراء…
أصافحُ وُجوهاً مرتعشةً
خلفَ ابتساماتٍ من طينٍ تخبّئُ أنيابها…
غلالةُ اللّيلِ المثقوبةِ
ما عادتْ تسترُ عورةَ المرايا،
ولا غداً ملطّخاً بانكسارات النساء،
ولا ظلالاً مفلسةً
تتلاشى فوق ركامٍ من أمجادٍ كاذبة…
أرمّمُ ضحكتي كي أبلِّلَ حلقَ الحُلُم،
فالصُّبحُ باتَ متعباً،
والقلبُ شحيحَ الأمل، قليل العزيمة…
أقايضُ الدمعَ بحُزمةِ شعرٍ،
بقلبِ شاعرٍ مُرهقٍ من الحُبِّ والحرب…
أقايضُ المَوتَ بصَدرِ نبيٍّ
يُحرِّضُ السماء على الجنون…
لن أموتَ بعدَ الآن… (1)

هذا، ونلاحظ أنّه ثمّة خيط خفيّ ينظّم جلّ قصائد الديوان، والمقصود به، نبرة التفجّع والتّأسي والشجن الخفيّة التي لا تعلو إلاّ قليلاً، ولكنّها تنسرب في الغالب بين الألفاظ والمقاطع الشعريّة، وتتبدّى من خلال انتقاءات لغوية مخصوصة، تجلي دلالات الموت والحرب والحب والفقد والخيانات  والغياب، فهذه المعاني مبثوثة تقريباً على امتداد نصوص الديوان.

والشاعرة قد أسقطت في ذلك تجربتها الذاتية في مُعايشة الحرب اللّبنانية التي لا تهدأ إلاّ لتعود من جديد، وإحساسها الخاصّ بوقع الموت، وشبحه المُخيف الذي يُخيّم على الأحياء. والديوان من هذا المنطلق عبارة عن قصيدة مُطوّلة كتبتها إيفون الضيعة للتعبير عمّا عجز الآخرون عن التعبير عنه، لذلك فمُجمل القصائد هي عبارة عن شعور وجداني عامّ، وهي بوّابات للدخول إلى عوالم الأسئلة الحارِقة، ومواجهة صقيع الحياة، ووحشة الحروب والخسارات بمعانيها الحقيقيّة والرمزية، تقول إيفون في قصيدة "أيّ أرض أنا؟":

 

مصابة بالحبّ

مصابة بالحرب

والحرب لم تنته...

هواء

تراب

ماء...

صرت القصيدة

صرت ركام مدن

تخرج من أنّات الذاكرة

والذاكرة محرقة..."

هذا ولا يخلو الديوان من قصائد تتّصل بهموم الذات ومشاغلها، ولتوصيف حالها، تتوسّل الشاعرة بانزياحات اللّغة، تزحزح المعاني عن سياقاتها التقليدية الثابتة، و تشيع في نسيجها فوضى مقصودة وخلاّقة، تقول بشعريّة عالية:

 

بعد كلّ طعنة أتعثّر بحزن فائض

بآثار جميع مَن قتلوني...

تلتصق لغتهم بجسدي

تتغلغل في جلدي...

فيسقط القلب...

متأخّرة أغادر الموت

يخطئني المكان، والوقت أعمى

يختلط الظلّ بالضوء...

كلّما نظرت إلى الموت

حنين بارد يراودني...

وبعيداً عن اللّغة الجنائزية، تؤكّد الشاعرة حزنها، بل إنّها تتماهى مع الحزن حتّى كأنّها هو، تقول:

 

كبرت يا أبتي

وقلبي العاري

أطفأته عتمة الغدر

أنا التي كانت تشتري الكلام بالصبر

تبيع الخيبات بالحبّ

وتقايض الخوف بالعناق

كبرت يا أبي

ومازلت أراهن

على نبيّ يشبهك.

 

وهي في كلّ ذلك، قد كتبت الحزن بالشعر، و الموت بالحياة والجمال، و وشّحته بذكريات الحبّ الجميلة الاستثنائية، حيث يزخر الديوان بالصوَر الشعرية الرومانسية، ما يؤكّد أنّ كتابة الشاعرة عن الحرب تحديداً، كتابة مختلفة.

هذا، ولا يمكن التغاضي عن احتفاء هذا المنجز الشعري واهتمامه بخطاب التّضاد والتقابل، وهو من أهم التقنيات الفنّية الأساسيّة في هذه التجربة الشعرية، من قبيل ثنائيات: الحياة/ الموت، الغياب / الحضور، الواقع / الخيال، الحاضر/ الماضي، الخاصّ/ العامّ...

ولهذه الثنائيات أن تعكس رؤية الشاعرة للعالم، ومستوى وعيها، ودرجة تفاعلها مع الواقعين المادّي والنفسي المحيط بها. كما أنّها علامات دالّة على بنية التوتّر التي يتأسس عليها الخطاب الشعري عند الشاعرة إيفون الضيعة. وتحضر بنية التقابل المشار إليها على شكلين أساسيين: لفظي ودلالي.

ولأنّ الشعر في عمومه تفكير بالصوَر، تتمّ من خلاله ترجمة العواطف والأفكار والمواقف بلغة واصفة وبتقنيات أسلوبية تعيد تشكيل العالم وتشكيل وعينا به، فإنّنا نكاد نسلّم بعد قراءة الديوان بوجود وعي تشكيلي لدى الشاعرة، فقد لاحظنا عناية كبيرة بهذا الجانب، ولعلّ في الصورتين التاليتين ما يُجلي ذلك، تقول في قصيدة "يحدث أن":

 

يحدث أحياناً

أن تصفعك لغة خرساء

فتجفّ حروفك قبل الوضوء

يحدث أحيانا

أن تحرّك يدك البليدة الهواء

لتختلط تلك الجهات الساكنة فيك

فتتركك القبيلة وتهجرك الصحراء

يحدث أحيانا أن تنسى حنجرتك في جوف القصيدة" (5).

وتقول في قصيدة "معركة بكاء":

" بكاء الرجال مالح

والدمع خمر في أقبية العمر...

بكاء الرجال صلاة

والدمع قربان وإكسير آلهة..

قد أراهن بعمري

لأتذوّق دمعة رجل..

 

وبهذا الوعي الفنّي تحوّلت نصوصها الشعرية إلى لوحات فنّية تتقاطع فيها الحركات والحواسّ، مع توظيف ذكيّ للغة شعرية متعدّدة المصادر؛ واقعية ورومانسية وأسطوريّة.

كما أن حضور هذه العناصر التشكيلية عكس أحوال الشاعرة النفسية والوجدانية، حيث تعتبر هذه الآليات التصويرية جسراً فنّياً للدخول إلى العالم الداخلي للشاعرة.

وما خلصنا إليه، أنّ أصواتاً كثيرة تتصادى في ديوان "آخر ما قاله لي الله"، لإيفون الضيعة، كما تتحاور نصوص أدبية ودينية، وفلسفية، وتتناص في ما بينها لتخلق نتاجاً شعريّاً متعدّد الظلال وغنيّاً بالإحالات.

وقد تكاملت عناصر الخلق الشعري التي وجدناها متّصلة بتيمات أساسية، هي عوالم الشعر والحب والحرب، كما تكاملت أدوات الإنشاء الشعري عند صاحبته التي لم تتنازل أبداً عن شروط الأداء الفنّي الرفيع. فقد كانت تبدع وتنشئ، وكانت حريصة على الوفاء لتمثّلها للشعر ولرسالته، فلم تجعل الشعر ترفاً فنيّاً مقصوداً لذاته، كما لم تسخّره تسخيراً انتهازياً، وإنما جعلته نافذة فنية نطلّ من خلالها على آلامنا وهمومنا الذاتية، من دون أن تخمد جذوة الفعل الجمالي.

وأخير، فنصوص هذه المجموعة تتميّز بلغة شفّافة، وأداء شعري رفيع، وما يُحسَب لإيفون الضيعة ، أنّ هذا الديوان ماهو إلاّ ترسيخ لصوتها الذي لا يشبه أحداً و لا يتشبّه بأحد، وتجربتها ذات الخصوصيّة في ابتكار لغة شعرية جديدة تبتعد عمّا يتداوله  الآخرون.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]