المتنبي وأبو فراس الحمداني: نرجسية ومناكفة

كيف كانت العلاقة بين المتنبي وأبو فراس الحمداني؟

  • المتنبي (عن الانترنت)
    المتنبي (عن الانترنت)

ليس بعيداً عن الثغور الشمالية في سوريا حالياً،حيث كانت تدور رحى مواجهة عسكرية طاحنة مع البيزنطيين وقفت الدولة الحمدانية في حلب زمن سيف الدولة سدّاً منيعاً في وجهها، كانت هناك معركة أدبية وصراع تملأه النرجسية، والاعتداد بالنفس، ومحاولة إثبات الذات بين أهمّ شاعرين في عصريهما هما: أبو الطيّب المتنبي شاعر البلاط الأول الذي كوّن مع سيف الدولة أشهر ثنائي في تاريخ الأدب والسياسة، وأبو فراس الحمداني، الأمير الشاعر، وإبن عمّ سيف الدولة.

أدت شخصية المتنبي المتعالية على الآخرين، والتي دفعت منتقديه إلى الحقد عليه وتدبير المؤامرات ضده وتتبع عيوبه وسقطاته، أدّت إلى هلاكه. أما أبو فراس الناشئ في ظلّ نعمة سيف الدولة، إضافة إلى شعره الرقيق وأخلاقه الرفيعة، جعل الأخير يعجب به ويميل إلى إكرامه، ويصطحبه في غزواته ويستخلفه في أعماله.

وجمع بين الشاعرين أنه قورِن بينهما وبين الشاعر امرؤ القيس الذي يعدّ من فحول الشعراء. فقيل "بدأ الشعر بملك وختم بملك"، في إشارة إلى أبي فراس، وقيل أيضاً "بدأ الشعر بكندة وختم بكندة"، كما تورد إيناس زايد في كتابها "الرثاء بين طرفي النقيض".

أبو الطيّب المتنبي

هو أبو الطيّب أحمد بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي، وقيل أحمد بن مرة إبن عبد الجبار، ولِدَ سنة 906م في الكوفة فترعرع في باديتها وحضرها، مكتسباً الصلابة والنزعة البدوية ما جعله يأنف الراحة، ويطمح إلى المعالي، والأدب والعلم، كما يذكر الثعالبي في "المتنبي ما له وما عليه".

لم يكن المتنبي شاعراً وحسب، بل عُرف بطموحه السياسي وشعره الحِكَمي الذي يقول عنه أدونيس في كتابه "الكتاب"، إن "المتنبي كان قارئاً ومطّلعاً على الفلسفة اليونانية التي هداها إليها معلّمه أبو الفضل الحكمي".

والبعض من الدارسين لأدبه يذكر أنه كان داعية إسماعيلياً. كما يذكر سهيل زكار في كتابه "أخبار القرامطة" أنه ارتحل إلى مصر مرتين،الأولى قبل أن يصبح شاعراً مشهوراً كداعية إسماعيلي، وأنه كان صاحب مشروع سياسي هدفه تأسيس إمارة قرمطية. أخفى المتنبي هدفه كما يقول في أحد قصائده:

يقولون لي ما أنت في كل بلدة

وما تبتغي? ما أبتغي جلّ أن يسمّى

كما أخفى المتنبي نسبه الذي بقي إلى اليوم لغزاً عصيّاً على الحلّ. وفيما يورد عبد الغني ملاح في كتابه "المتنبي" أن نسب المتنبي يعود إلى الإمام الحسن العسكري، يرفض طه حسين ذلك معلقاً على مسألة لقبه الذي يروّج أنه ادّعاء صارخ بالنبوّة "إني أتردّد في رفض ما يروى من أنه ادّعى النبوّة وأحدث معجزات، أو زعم إحداثها كما لا أتردّد في رفض هذا السخف أنه زعم أن قرآناً نزل عليه". 

ويتابع عبد الغني ملاح أن الشاعر المعري ألّف كتاباً إسمه "معجز أحمد"، شرح فيه ديوان المتنبي ولم يتطرّق إلى مسألة النسب والإسم، ويقول إن لقبه مشتقّ من النبوّة، وتعني العلوّ والارتفاع والترفّع، بينما تذكر نوال إبراهيم في كتابها "المتوقع واللامتوقع في شعر المتنبي" أن الأخير "كان يعاني عقدة نقص بسبب وضاعة نسبه ومهنة أبيه الذي كان يعمل سقاءً".

تعدّدت أغراض المتنبي الشعرية سواء بالفخر والحماسة والمدح والهجاء والغزل، إلا أن شعره مرتكز أكثر من شاعر سواه حول نفسه وعظمتها إلى حدّ الزهوّ والخيلاء والجنون. وتقول إبراهيم إن "احتضان الذات الشاعرة نفسها والارتقاء بها تحوّل إلى مركب علوّ وعظمة". فقد تجاوز المتنبي كل التوقّعات في مديح نفسه، واحتقار سواها حيث يقول: 

إن أكن معجباً فعجب جميل 

لم ير فوق نفسه من مزيد

أنا ترب الندى ورب القوافي

وصمام العدا وغيظ الحسود 

وأيضاً:

فكل ما خلق الله وما لم يخلق 

محتقر في همتي كشعرة في مفرقي

أو: 

واقفاً تحت أخمص قدر نفسي

واقفاً تحت أخمصيَّ الأنامُ

ويرافق هذا الإعجاب بالذات شعور مزمن بالغربة، وغضب عارم من نشأته التي يعتبرها دون مواهبه ومكانة نفسه: 

وما أنا منهم بالعيش فيهم 

ولكن معدن الذهاب الرغام

وكذلك:

ما مقامي بأرض نخلة 

كمقام المسيح بين اليهود 

أنا في أمةٍ تداركها الله

غريب كصالح في ثمود

ويذكر للمتنبي بغضه الحكّام العجم الذين استبدّوا بالسلطة من دون العرب، ونقمته على أهل عصره بسبب انشغالهم بالدناءات والمعاش، وقعودهم عن الجهاد كما يورد محمود شاكر في "الموسوعة الأدبية" فنسمع المتنبي يقول: 

وإِنَّما الناسُ بِالمُلوكِ 

وَما تُفلِحُ عُربٌ مُلوكُها عَجَمُ

لا أَدَبٌ عِندَهُم وَلا حَسَبٌ

وَلا عُهودٌ لَهُم وَلا ذِمَمُ

تنقّل المتنبي كثيراً حتى وصل حلب التي أحسن سيف الدولة فيها استقباله فكرّمه وقرّبه وكثر حسّاده وكارهوه. فكان شاعره الأول وكانت قصائد المديح التي نسجها الشاعر في الأمير التي غلبت عليها نرجسيّة المادح على الممدوح. تلك النرجسيّة التي فاقت كل تصوّر لا تسمح لأحد أن يعلو فوقها، أو يتجاوزها، ولا تجعل الصدارة لغيرها، فكان مديح المتنبي لسيف الدولة مديح ملك لملك لا نجد فيه الاستجداء والتعطّف كما يذكر محمود شاكر. 

ويذكر عمر فرّوخ أن المتنبي كان يكره صفة الشاعر لأنها تساويه بغيره من الشعراء الذين عُرِف عنهم التزلّف واستعمال الشعر للتكسّب.

فلم يمدح المتنبي سيف الدولة إلا بقدر ما مدح نفسه وكرّمها وعظّمها. وبعد خلاف ومشاجرة مع إبن خلاويه الذي ضربه فأدماه خرج من حلب بعد أن سكت سيف الدولة ولم يدافع عنه، فذهب إلى الكوفة مدّة قبل أن يذهب إلى شيراز مادحاً حكّامها البويهيين قبل أن يعود ويُقتل علي يد فاتك الأسدي لهجوه قبيلته، كما يذكر إبن خلّكان في كتابه "وفيات الأعيان". إلا أن الثعالبي، يذكر أن المتنبي قتل بمؤامرة دبّرها بنو بويه لما استشعروا خطره سنة 965م.

أبو فراس الحمداني

هو أبو فراس الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان بن حمدون الحمداني،إبن عم ناصر الدولة وسيف الدولة أبي الحمدان، وكنيته أبي فراس وهو من أسماء الأسد. ولِدَ سنة 903م في الموصل، وهناك من يقول إن ولادته كانت في منبج شمال سوريا حالياً، وفقاً لما يذكره حنا فاخوري في "تاريخ الأدب العربي". 

تعود جذور الحمداني إلى قبيلة تغلب، أما نسبه فيشكّل معضلة بين من يقول بأن أخواله من الروم، وآخرون يجعلون أخواله في تميم لأبوين عربيين وفقاً لخليل البويهي في شرحه لديوان أبي فراس. 

ويقول أبو فراس في ذلك:  

إذا خفت من أخوالي الروم خطة

تخوف من أعمامي العرب أربعا

وفي موضع آخر: 

لم تتفرّق بنا خؤول 

في العزّ أخوالنا تميم

توفّى والده وهو في  الثالثة من عمره، فاحتضنه سيف الدولة ووالدته وأكرمهما، ثم تزوّج أخته في ما بعد. وتعلّم في كنفه الفروسية والكتابة محاطاً في قصره الذي يعجّ بالأدباء والعلماء والشعراء. ولما قوي ساعده قرّبه سيف الدولة واستعان به فولاّه منبج وحرّان، وشاركه في الغزوات فعُرِف كفارس عظيم وشاعرٍ يوزّع وقته بين الحرب واللّهو والصيد والشعر، كما يذكر البويهي. 

ويورد عبد المجيد الحر في كتابه "أبو فراس شاعر الوجدانية" أنه وقع في الأسر مرتين، ويذكر أن الروم أكرموا فيه شجاعته فخلّوا له ثيابه وسلاحه. شعر أبي فراس أيضاً لا يخلو من نرجسيّة عالية، وشموخ عظيم، وإن كان مركّباً فهو لا يعلو بنفسه إلا بقدر ما يعلو بقبيلته وآبائه:

لنا خلق الأنام لحشو كأس 

ومزمار وطنبور وعود

فلم يخلق بنو حمدان إلا 

لمجد أو لبأس أو لجود

وكذلك اعتداده بفروسيّته وشجاعته في مقارعة الروم وانتصاره عليهم: 

متى تخلق الأيام مثلي لكم فتى

طويل نجاد السيف رحب المقلد

يطاعن عن أعراضكم بلسانه 

ويضرب عنكم بالحسام المهنّدِ

وقد كتب هذه الأبيات في قصائده الرومية أثناء الأسر مذكّراً ومستعطفاً إبن عمّه لدفع الفدية وتحريره، والتي تظهر فيها النرجسيّة بصورة متعالية، مسهباً في تمجيد نفسه سائلاً قبيلته إنكارياً على سبيل التأكيد بأنه الوحيد الذي يتمتّع بهذه الصفات من دون سواه ويظهر هذا في موضع آخر: 

وأنا الذي فضل الأنام فأصبحوا 

طوعاً له، قسراً بستِ فضائلِ

بصواهل وعوامل وقبائل 

ومكارم ودوابل ومناصلِ 

ورغم مكابدته ضَيْم الأسر وعذاباته إلا أنه لم يجزع ولم يتراجع عن اعتداده الأصيل، بل بقي متمسّكاً باستعلائه وامتلأت نفسه بمظاهر التعظيم والإجلال لذاته مذكّراً بفروسيّته:  

يمنون أن خلوا ثيابي 

على ثيابي من دمائهم حمرُ

رحل أبو فراس بعد خروجه من الأسر بسنة واحدة 356م في قرية صدد، وحمل رأسه إلى إبن أخته أبو المعالي الذي تولّى السلطة خلفاً لأبيه سيف الدولة لاتّهامه بمحاولة الانقلاب عليه وفقاً للدويهي، والذي يذكر أيضاً أن حاجب الأمير واسمه قرغويه أوغر في صدره بأفكار مغلوطة حول نيّته الانقلاب عليه فدفع الأمير بقتل خاله. 

"المناكفة" الأدبية بين المتنبي وأبو فراس

سبق وأن ذكرنا أن المتنبي كان الشاعر الأول في بلاط سيف الدولة، فكان ينشد الشعر جالساً عكس السائد، ما استفزّ غيرة الآخرين وأثار نقمتهم إضافة إلى طبيعة المتنبي المتعالية وتكبّره. ومن بين هؤلاء كان أبو فراس الذي كان يرى في أبو الطيّب بالذي رفعه شعره فوق قدره، ووصفه لسيف الدولة ب"المتشدّق كثير الدلال الذي يعطيه سيف الدولة ثلاثين ألف دينار سنوياً لقاء ثلاث قصائد، ويمكن أن يفرّق مئتي دينار على عشرين شاعراً يأتون بخير من شعره"، كما يورد عمر فروخ.

وعلى المقلب الآخر يرى محمود شاكر أن المتنبي كان يأخذ على أبي فراس أن مكانته وقربه من الأمير هي من رفعت من قدر شعره ، وإنكاره لأمّه الرومية مكثراً من مديح آبائه، بينما أبو فراس يأخذ على المتنبي إنكاره أصله والإغراق في ذِكر والدته وفقاً لرواية يذكرها المؤرّخ أن جدّة المتنبي طلبت إليه إخفاء نسبه: 

ولو لم تكوني بنت أكرم والد

لكان أباكِ الضخم كونك لي أمّاً

كوّن أبو فراس جبهة مع إبن خلاويه النحوي المشهور ضدّ المتنبي وكان سيف الدولة يشقّ عليه تأخّر المتنبي عنه، فأوعز في طلبه، ولما بلغت الوشاية المتنبي حضر لينشد ميمته الشهيرة على مرأى ومسمع الشعراء وبينهم أبو فراس، وجعل يتظلّم فيها من التقصير في حقّه يقول:

ما لي أكتم حباً قد برى جسدي

وتدّعي حب سيف الدولة الأمم

قد زرته وسيوف الهند مغمّدة

وقد نظرت إليه والسيوف دم

فهمّت الجماعة بالتعدّي عليه في حضرة سيف الدولة لما رأوا إدلاله وإعراض سيف الدولة عنه، فلما وصل في إنشاده إلى قوله:

يا أعدل الناس إلا في معاملتي

فيك الخصام وأنت الخصم والحكمُ

قال أبو فراس قد مسخت قول (دعبل):

ولست أرجو انتصافاً منك ما ذرفت

عيني دموعي وأنت الخصم والحكم

فقال المتنبي:

أعيذها نظرات منك صادقة

أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

فعلم أبو فراس أن المتنبي بعينيه فقال: ومن أنت (يا إبن السقاء) حتى تأخذ أعراض الأمير في مجلسه، فاستمرّ المتنبي في إنشاده ولم يردّ عليه إلى أن قال:

سيعلم الجمع ممن ضمّ مجلسنا

بأنني خير من تسعى به قدم

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صمم

فازداد أبو فراس غيظاً وقال: وقد سرقت هذا من (عمرو بن عروة بن العبد) حيث يقول:

أوضحت من طرق الآداب ما اشتكلت

دهراً وأظهرت إغراباً وإبداعاً

حتى فتحت بإعجاز خصّصت به

للعمى والصمّ إبصاراً وإسماعا

وظلّ المتنبي يواصل إنشاده غير عابئ بما يقال حتى انتهى إلى قوله:

الخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

فقال أبو فراس: وماذا أبقيت للأمير، إذ وضعت نفسك بكل هذا؟ تمدح الأمير بما سرقته من كلام غيرك وتأخذ جوائز الأمير، أما سرقت هذا من (إبن العريان) حيث يقول:

أنا إبن الفلا والطعن والضرب والسرى

وجرد المذاكي والقنا والغواضب

فقال المتنبي:

وما انتفاع أخي الدنيا بناظره

إذا استوت عنده الأنوار والظلم

فقال أبو فراس: وهذا سرقته من قول (معقل العجلي)

إذا لم أميّز بين نور وظلمة

بعيني فالعينان زور وباطل

وعند ذلك ضجر سيف الدولة الحمداني من كثرة مناقشة هذه القصيدة وكثرة دعاويه فيها، فضرب المتنبي بالدواة التي بين يديه فقال المتنبي:

إن كان سَرّكمُ ما قال حاسِدُنا

فما لجرح إذا أرضاكم ألمُ

فقال أبو فراس: وهذا أيضاً أخذتَه من قول (بشّار بن برد)

ولكن سيف الدولة أعجبه بيت المتنبي الأخير فلم يلتفت إلى قول أبي فراس ورضي عن أبي الطيّب المتنبي، وأدناه إليه وقبّل رأسه وأجازه بألف دينار ثم أردفها بأخرى وفقاً لما يذكره الثعالبي.