السودانيون يهجرون "حبيب الشعب".. لصالح العدس!

من 3 وجبات يومياً إلى وجبتين، وأطعمة غريبة ستكون نتائجها الصحية كارثية.. ما هو شكل موائد السودانيين بعد الأزمة الاقتصادية؟

  • السودانيون يهجرون
    سودانيون ينتظرون أدوارهم أمام أحد المخابز 

تتبدّى أبرز انعكاسات الأزمة الاقتصادية في السودان في تغييراتٍ كبيرةٍ طالت موائد الأهالي على مستويي النوع والكمّ، علاوة على ظهور أنماط غذائية تقشّفية في بلدٍ موصوف بأنه سلّة غذاء الوطن العربي.

ويعاني السودان اليوم نسبة تضخّم عالية تصل إلى 412%، الأمر الذي ترتّب عليه ارتفاع قياسي في أسعار السِلع والخدمات، بينما لا يزال متوسّط الأجور يتراوح بين 10 و40 ألف جنيه شهرياً.

يحدث ذلك في وقتٍ تنتهج الحكومة الانتقالية سياسات اقتصادية تشمل خفض سعر العملة المحلية (1 دولار يساوي 448 جنيهاً)، ورفع الدعم عن سلع رئيسة بالكامل (الوقود) أو بصورة جزئية (طحين الخبز)، ما يُفاقم صعوبات الحصول على الغذاء بأسعار مناسبة.

إزاء هذه الظروف، تقلّصت الوجبات لدى غالبيّة الأسر المحلية إلى وجبتين في اليوم عوضاً عن 3 وجبات، من أجل خفض النفقات.

في حديثها مع الميادين الثقافية، تقول تهاني معتصم، وهي ربّة أسرة (38 عاماً)، إن الظروف الاقتصادية اضطرتها إلى تقليص الوجبات إلى "إفطار وغداء".

وأضافت: "استعضنا عن وجبة العشاء بغداء مُتأخّر بعد السادسة مساءً، بعد عودة الزوج والأبناء من العمل والجامعات على التوالي".

وتؤكّد تهاني أن قاعدة الوجبتين لا يتمّ كسرها إلا في حالاتٍ نادرة، كاستثناء مَن هم دون سن العاشرة (ولد وبنت)، بإعداد وجبة غداء مُصغَّرة يومياً، أو عند حلول ضيوف بصورةٍ مُفاجئة.

ومن ضمن الإجراءات التقشّفية التي تلجأ إليها تهاني وعدد من الأسر، هو التشديد في "نظام تموين الزوج والأبناء القاصدين أعمالهم والجامعات بساندوتشات منزلية الصُنع".

تقول تهاني إن هذا الأمر كان يقابل بالرفض من قبل الزوج في بادئ الأمر، لكن مع زيادة تكاليف الوجبات في المطاعم والمحال التجارية إلى قرابة 500 جنيه في الحد الأدنى، قَبِل زوجها وبقيّة أفراد الأسرة بحلّ الطعام المنزلي.

أبرز الغائبين

  • وجبات محلية في طريقها للسوق
    وجبات محلية في طريقها إلى السوق

تعدّ اللحوم (الحمراء والبيضاء)، والفواكه بأنواعها المختلفة، والألبان ومشتقّاتها، من أبرز الأصناف التي غيّبتها الأزمة الاقتصادية عن موائد السودانيين.

ويتراوح سعر كيلوغرام اللحوم الحمراء (ضأن وبقر) بين 2 و2.4 ألف جنيه على التوالي، فيما يبلغ سعر كيلوغرام اللحوم البيضاء ألفين جنيه للدجاج و1.5 جنيه للسمك.

بالنسبة إلى الفواكه، يصل سعر كيلوغرام الموز الذي كان يُعرَف شعبياً بأنه "فاكهة الفقراء" إلى 400 جنيه، وسعر "دستة" المانغو إلى 4 آلاف جنيه، وسعر "دستة" البرتقال المصري إلى 1.5 ألف جنيه، بينما يصل سعر البرتقال المحلي إلى 700 جنيه.

وفي ما يخصّ الألبان ومُشتقّاتها، يصل سعر رطل اللبن الحليب إلى 150 جنيهاً، وكيلوغرام الجبنة البيضاء إلى 1.2 ألف جنيه، بينما يصل سعر كيلوغرام السمن إلى 2.5 ألف جنيه.

ولم يستثن الغلاء سوق الخضراوات، إذ يصل سعر كل من كيلوغرام الطماطم والبطاطس إلى 600 جنيه، والباذنجان إلى 500 جنيه، وتشكيلة السلطة الخضراء بكميّة صغيرة إلى 300 جنيه.

ويمثّل توفير الخبز مشكلة شائكة جداً للأُسر، حيث يتراصّ العشرات أمام المخابز التي توفّر الخبز المدعوم (خليط من القمح والذُرة) بسعر 5 جنيهات للقطعة، بزنة 60 غراماً، بينما تقلّ الصفوف في المخابز التجارية التي تبيع قطعة الخبز بالوزن نفسه بـ20 جنيهاً.

ونتيجة لتضخّم الأسعار، غابت أصناف كثيرة عن المائدة المحلية، من شاكلة اللحوم والسلطة والحلويات، كما غاب طقس تناول شاي الحليب عند الأمسيات.

أطعمة بديلة

  • بليلة عدسية
    بليلة عدسية

تراجع الفول المصري من كونه "حبيب الشعب" لصالح العدس والبليلة العدسية (اللوبيا الهندية)، وذلك بعد موجة الارتفاع الكبيرة التي طالت أسعاره أخيراً.

وتُباع أقلّ كميّة من الفول المطهو بـ200 جنيه، فيما يصل سعر طبق الفول الجاهز في بعض محال بيع الأطعمة إلى أكثر من 500 جنيه.

حتى تجمّعات العمال والطلاب حول صحن "البوش"، وهو طبق مكوَّن بشكلٍ رئيس من خلاصة ماء الفول المطهو، والرغيف بكميات كبيرة، والجبن وزيت السمسم، في طريقها إلى الاندثار، عقب الزيادات الكبيرة في الأسعار، إذ تصل مساهمة الفرد في الحد الأدنى إلى 300 جنيه، وذلك ضمن مجموعة تضمّ 5 أفراد.

ولم يكن بدعاً أن تتحوَّل بعض الأُسر والتجمّعات إلى العدس (600 جنيه للكيلوغرام)، لكون إعداده لا يُكلِّف كثيراً، فهو لا يحتاج سوى إلى النار والماء وقليل من البهار.

ولكنَّ أزمة وجبة العدس تتمثّل بصعوبة الحصول على كميات كافية من الأرغفة، إذ يتناوله معظم السودانيين كإدام، وليس كحساء، كما درجت الكثير من المجتمعات.

وتتصدّر وجبة البليلة العدسية حالياً قائمة المأكولات السودانية لدى قطاع الطلاب والعمال، لسعرها المعقول نسبياً (300 إلى 350 للطلب الواحد)، إلى جانب أنها تؤكَل عادة بالملعقة. وفي حال الجوع الشديد، يمكن تناولها مع بعض الأرغفة.

وتُباع البليلة العدسية في أسواق الأطعمة الشعبية. ويتخيّر الغالبيّة في أكلها مع شرائح البصل والزيت وبعض البهار، بينما يفضّل آخرون أكلها بإضافة السُكر إليها.

أثناء ذلك، صار إفطار بعض السودانيين عبارة عن كوب من الشاي الكُشَري (50 جنيهاً للكوب) مع رغيف خبز أو بسكويت محلي الصنع (60 جنيهاً للعبوة).

أكلات غريبة

عادت طبخات مثل الفاصوليا والبامية والملوخية.. لتتصدَّر وجبة الغداء في البيوت السودانية، لكونها لا تكلّف كثيراً من المال، ويمكن تخزينها في البرادات وتناولها لأيام عدّة.

وتحوَّلت الكثير من السيّدات إلى إعداد رقائق "الكسرة" التقليدية المصنوعة من الذُرة، لتحلّ مقام الرغيف الغالي الثمن.

وفي ظلّ ارتفاع أسعار اللحوم، ظهرت وحدة قياس جديدة باسم "نصف ربع"، وهي تعادل تقريباً 1/8 كيلوغرام من اللحم، إضافة إلى "المعضمة"، وهي شراء كميات من العظم لطهوه كحساء.

ويشتهر عدد من الأسواق الشعبية الطرفية بوجبات غريبة، مثل "الجراد المشوي" وأكباد الدجاج وقلبه، بينما تعدّ وجبة "غمّس" الأكثر غرابة على الإطلاق.

"غمّس" عبارة عن حساء لحوم متنوّعة (غير معروفة المصدر عادة) تُضاف إليها الصلصة والتوابل بكثرة. وتكمُن الغرابة في أن تناولها يتمّ مقابل دفع رسم قدره 20 جنيهاً مقابل كل رغيف تستخدمه كغموس في الوعاء الكبير، قبل أن تغادر لتفسح المجال لقادمٍ جديد.

حول النتائج الصحية لهذه الأزمة، تحدثت الميادين الثقافية إلى خبير التغذية محمّد سعيد، فقال إنَّ "تأثيرات الأزمة الاقتصادية ستؤدّي إلى زيادة حال الفقر في الموائد السودانية، ما يترتّب عليه مستقبلاً نتائج وخيمة تتمثّل بمشكلات النمو عند الأطفال، وزيادة فتك الأمراض بالبالغين، جرّاء ضعف تناولهم حصصاً مُتوازنة من العناصر الغذائية"، مُستدلاً بمشكلات الغدّة الدرقية التي يعانيها السودانيون - حتى قبل الأزمة - جرّاء عدم تزوّدهم باليود المُتركّز في السمك بشكلٍ رئيس.

حتى الآن، كلما ساءت ظروف الاقتصاد، حملت غريزة البقاء السودانيين على التكيّف مع الأوضاع الجديدة بخلق بيئاتهم وأنماطهم المعيشية الخاصة، لكن إلى متى يستمر ذلك؟ سؤال يجيب عنه مقبل الأيام.