"ستّ الحبايب".. أهلاً بكِ في عصر "تيك توك"!

بين نموذجي الأم "الخارقة" والمرأة "الخارقة" التي تروّج لها "السوشال ميديا"، أين أصبحت الأمومة والطفولة؟

  • كاريكاتور بهاء سلمان
    كاريكاتور بهاء سلمان

ربما يشبَّهُ إلينا في هذه الأيّام أنّنا نحتفي بأمّهاتنا في عيدهنّ. نتصوّرُ بأنّنا ما زلنا نحافظ على هذا الحبل الخفيّ الذي نتعلّقُ به من دون أن نعيَ ذلك، ولا فُطامَ منه، لكن اللافت أنّ أساليبنا باتت واحدة في هذا الاحتفال الجماهيري العالمي. صورة باقة حمراء، صورة هديّة، صورة "سيلفي" مع الأم، صور وصور وإعجابات وقلوب حمراء.. من اللاأحد! اللامكان! تأتي باردة، وقعُها إلكترونيٌّ لا أكثر! 

من حيث لا ندري، وعلى حين غفلة ربما، تمّ اختزال تلك المعاني بأكثر ملامحها صدقاً، في صورة تعبر كمثيلاتها عبر فضاء بات مرهقاً في بلادته وعدميّته. في الواقع، هي صور تتميّز بسرعة التواتر والعبور وسهولة التداول والإرسال، غير أنها ليست الحقيقة. أين الحقيقة خلف هذه السيبرانيّة القاتلة والشبكة المعقّدة التي حاكها عنكبوتُ العقل البشريّ في سبيل تسهيل يومياته وصناعة المزيد من المال؟ 

بالإمكان القول إنّ الوعي الإلكتروني المبطّن بإرادة السيطرة على الوعي البشري، استطاعَ إلى حدّ ما تحقيق الانتصار للحياة الرقميّة. هي حرب ما بين البشري إذاً وما فوق البشري. 

أيننا اليوم من غمرة الاحتفاء بعيد الأمّ، وسط عالم أمست فيه العاطفة الإنسانية عرضة للاستثمار في مواقع تحمل عنوان التواصل الاجتماعي، رغم أنها منذ وجدت، ضربت الاجتماع ورسّخت لفكرة الانقطاع عن المجتمع والعزلة والتوحّد العاطفي؟ هل أمسينا في عصر تسويق الأمومة والطفولة من حيث لا نشعر؟ 

تروّج مواقع التواصل نموذجين للمرأة؛ الأول نموذج الأم الخارقة التي لا تظهر إلا قوية وهي تسابق الزمن، والآخر هو نموذج المرأة العاملة الخارقة التي لا تعرف الفشل في حياتها المهنية، ولا يظهر الزوج إلا داعماً لها، ويكون سبباً في نجاحها، لكن صورة الأمومة غائبة عن المشهد.

بعيداً من المعايير الجماليّة التي عاث بها الافتراض خراباً، إذا ما صحّ التعبير، فارتبط تقبّل صورة المرء لنفسه بخيارات "كاذبة" وزائفة بدورها مثل "الفيلتر" و"الفوتوشوب"، فإنّ المعايير الأخلاقيّة كذلك يبدو أنها سقطت في بئر أضحى صعباً الخروج منها والعودة إلى "الأصل" أو "الأصلي".

المثال الأكثر تجلّياً اليوم، صور الأطفال الرضّع حشداً للإعجابات الافتراضية، وليس توثيقاً للّحظة في ألبوم ذكرياتنا الشخصي جداً. هكذا رفع "تيك توك" و"فيسبوك" و"إنستغرام" وغيرها صورة "السوبر ماما" – بتعبير نيتشه - عالياً حتى صارت هي الأصل. 

نشرت إحدى الصحافيّات العرب تحقيقاً أعدّته حول ظاهرتين متناقضتين تبرزان معنى الأمومة في عصر السوشال ميديا. النموذج الأول هو الأم الخارقة التي لا تظهر إلا قوية وهي تسابق الزمن في مراحل زواجها وأمومتها، والنموذج الآخر هو المرأة العاملة الخارقة التي لا تعرف الفشل في حياتها المهنية، ولا يظهر الزوج إلا داعماً لها، ويكون سبباً في نجاحها، لكن صورة الأمومة غائبة عن المشهد.

وترى الدراسة أنّ ظهور هذين النموذجين مرتبط بشدّة بفكرة التسويق. إذاً، تحشد الأم "المسوّقة" لأمومتها جمهوراً مليونيّاً، مقابل أمّ تقوم بدورها بشكل نموذجي لكن لا تسوّق له.

وتذهب الدراسة إلى أنّ ما يهمّ الجمهور هو التسويق، وليس حقيقة الأمر. هكذا تصاغ فكرة "السوبر ماما" في أذهان الناس. وإضافة إلى استعراض حالات عدة مختلفة في نظرتها إلى الموضوع، فإن الكاتبة تقرّ بأنّه أمام تنوع نماذج الأمومة على وسائل التواصل والتسويق لها، يصبح صعباً على الأم اتخاذ النموذج الذي يساعدها في البقاء على صحتها النفسية والجسدية، وتحقيق التوازن المطلوب في دور الأمومة [1]. 

هكذا اصطُنِعَت المعايير والقيم الجمالية والأخلاقية وحتى المفاهيم من أجل التقدّم التكنولوجي والمادي على حساب المنحى الإنساني، فالحضارة في مسار تطوّرها المادّي فقدت الكثير من المعاني الأصيلة، حتى أمست الصور المصطنعة هي الأصل، كما يعبّر جان بودريار، في مجتمعات أًصبحت استهلاكيّة في توجّهاتها ومضامينها. ولا شكّ في أنّ بودريار حلّل فكرة نمط العالم الاستهلاكي من منطلقاته السوسيولوجيّة والدلاليّة في مرحلة ما بعد الحداثة، إذ يطغى الخطاب الاستهلاكي على نظام الأشياء وأنساقها [2]. 

اليوم، نصوّر أبناءنا أكثر ممّا نرعاهم. ربما لا نلتقي بهم إلا في أواخر النهار، لكنّ الصورة التي نشاركها مع عالمنا الافتراضيّ، تقدّمُ انطباعات مضخّمة لجمهور المتابعين، تعكس سعادة  "فوق - واقعية" قد لا تشبه حقيقة علاقتنا بهم.

الدور الأبرز في اختفاء الواقع وطغيان الصورة، يؤديه الإعلام والإعلان والميديا بشكلٍ عام، حيث لم تعد تحاكي مضامين هذه الوسائل مشكلات الإنسان الاجتماعية، ولم تعد تعكس أفراحه وتصوّرها، وإنما أضحت مصدراً لمعان وقيم جديدة مصطنعة تنبجس بشكلٍ متدفّق من هذه الوسائل من دون توقّف.

تحوّل الإنسان هنا إلى متلقٍّ تخترقُ تلك المعاني والمفاهيم المصطنعة وعيَه الإنساني، بكل ما فيها من تخطيط إلكتروني لعقول هدفها استهلاكي محض، فتربك مبادئه وتزيده اضطراباً إزاء عدم شعوره بالرضى والقناعة بواقعه وحقيقته.

الأمر الذي نشهده اليوم من محاولة لخلق نسخٍ متطابقة من صور أطفالنا وزفافنا وأعياد ميلادنا وهدايانا وحبّنا وحياتنا الأكثر خصوصيّة، حيث لا يمثّل ما يقدّمه الإعلام الواقع كما هو، ولا صورة عن الواقع، بل يطرح صورة ولّدها هو عن صورة أخرى هي بدورها مولدة عنه، مما يُفقِد العلاقة بين الدال والمدلول ويكتفي الدال أو الرمز بذاته فيكون هو مرجعيّة نفسه. هكذا يكون اختفاء الحقيقة والواقع، وظهور ما فوق - الواقع [3]. 

إنّ ابتعاد الإنسان شيئاً فشيئاً عن حقيقته وأصله، هو علّة قلقه الوجوديّ، الذي سيعيده لا محالة إلى طرح التساؤلات الكبرى حول الغاية من وجوده. وإن لم نكن قد وصلنا إلى هذه المرحلة، بعد كل ما حاق بنا من تذبذب نتيجة ما تركته "كورونا" من أثر سايكولوجي ووجوديٍّ على وعينا الاجتماعي، فإنّنا نسير بهذا الاتجاه ما دامت الصورة "أخّاذة" بهذا الشكل بالنسبة إلينا، وما دام تقبّلنا لمصطلح "عصر الصورة" أضحى أمراً بديهياً، إن لم نقل لازماً، فنحن لا نعدو كونَنا متلقّينَ هنا، غير أنّ هذا التلقّي المفاهيمي يجعل اندراج تلك المعاني المصطنعة أمراً تلقائياً في منظومة الفرد النفسية والسلوكيّة، حيث يسعى بعد ذلك إلى تحديد طريقة تكيّفه في الحياة والعالم. 

يذهب العديد من المفكرين ونُقاد الأيديولوجيا بصفة خاصة إلى أنه لكي تصبح أي طريقة تفكير سائدة في الواقع، لا بد لها من خلق شبكة مفاهيم كاملة، تستند في تبرير وجودها إلى دوافعنا وقيمنا الإنسانية الأكثر أصالة ورغباتنا الفردية والجماعية. وإذا كانت تلك التبريرات جذابة ومبنية على أسس قوية في التاريخ والعالم، فإنها تتجذّر وتتأصّل تدريجياً في صلب مفهوم الفطرة السليمة والرأي السديد، ولا تعود عرضة للنقد والمساءلة. بالتالي، فإنّ هذه القيم تعوّل على الوقت. بالتدريج، تخلق المعاني الجديدة وليس دفعة واحدة. 

هكذا اقتحمت هذه القيم علاقتنا الخاصّة جداً بأمهاتنا، بعائلاتنا وبأبنائنا، ما قد يشكّل تهديداً حقيقيّاً لمسار سلوكنا اليوميّ تجاه حقيقتنا التي يشكّلها هؤلاء الأفراد في حياتنا وتجاه دورنا في الحياة، وكذلك تقييمنا للوقت الذي نستهلكه في استعراض وعرض هذه الصور في عالم تحكمه الميديا ويتحكّم فيه الافتراض [4]. 

ربما لا يحتاج الطفل اليوم كلّ هذه العيون الزرقاء والقلوب الحمراء المختبئة خلف أزرار وشاشات وضّاءة. ربما هو لا يحتاج إلى أكثر من ذراعين وقلب "حقيقيّ" يراه بعين الواقع.

اليوم، نصوّر أبناءنا أكثر ممّا نرعاهم. ربما لا نلتقي بهم إلا في أواخر النهار، لكنّ الصورة التي نشاركها مع عالمنا الافتراضيّ، تقدّمُ انطباعات مضخّمة لجمهور المتابعين، تعكس سعادة  "فوق - واقعية" قد لا تشبه حقيقة علاقتنا بهم. اليوم، تحتلّ صور "السيلفي" مع أمّهاتنا في عيد الأم حيّزاً كبيراً، ربما أكبر من الوقت الذي نقضيه معهنّ. 

هكذا تعاظمت حاجاتُنا، حتى أمسينا لا نرضى بالحقيقة المحتجبة عن عيون المجاز، لأنّ قانوناً رأسمالياً استهلاكياً يحاولُ كلّ يوم تقويضَ العنصر المعنوي من حياتنا، وإنتاج رغبات جديدة لا يتوقّف دفقها مع سرعة جريان العصر. فلقد أضحت النيوليبراليّة متماهية في حياتنا اليوميّة، حتى إننا لم نعد نعترف بها كتوجّه سياسي، بل إننا نتعامل معها اليوم كمعطى بديهيّ بشكلٍ واضح [5]. 

 في هذا التاريخ، عيد الأم، المتزامن مع أعياد الربيع في مختلف أنحاء العالم، ومع انحسارٍ نسبيّ لسطوةِ جائحة "كورونا"، نحاول مساءلة وعينا الفردي والجماعي. نحاول العودة إلى كلّ ما يرمز إلى الأصل بالنسبة إلينا؛ إلى الأم، إلى الطبيعة التي وجدت لتكون ملكاً للإنسان، وليس للرأسمال، العودة من مجتمع السوق إلى الأصل إلى الحقيقة الأولى، ما قبل كلّ دوامة الزيف ورَسمَلة القيم الزاهية بتموّجاتها. 

ربما لا يحتاج الطفل اليوم كلّ هذه العيون الزرقاء والقلوب الحمراء المختبئة خلف أزرار وشاشاتٍ وضّاءة. ربما هو لا يحتاج إلى أكثر من ذراعينِ وقلبٍ "حقيقيّ" يراه بعين الواقع. وربما لا تحتاج الأمّ اليوم إلى أكثر من التفاتة ومبادرة متواضعة على قدر السِّعةِ والإمكانات، ربما وردة، أو قُبلة حارّة، أو أن نتذوّقَ الطعامَ الذي أعدّته بأنامل المحبّة المطلقة، لنقول بعد ذلك: تسلم إيدك يا ستّ الحبايب!

الهوامش

[1] أمهات السوشيال ميديا.. لماذا أصبحت رعاية الأطفال بطولة؟ إباء أبو طه
[2] المصطنع والاصطناع، جان بودريار، ص 8-21
[3] المصدر السابق نفسه
[4] مجتمع الاستهلاك أو رَسْمَلَة القيم، عبدالإله بلقزيز
[5] أثر النزعة الاستهلاكية في تشكيل المجتمع الحديث، شريف مراد