سناء موسى تحيي "التراويد": ما زلنا نملك الحكاية

سناء موسى، فنانة فلسطينية ملتزمة، تبحث اليوم في التراث الغنائي الفلسطيني معيدة إحياء "التراويد". حاورتها الميادين الثقافية حول مشروعها الفني والثقافي الجديد، وهذا ما قالته.

في برنامج "ترويدة" الذي يُعرَض على "قناة فلسطين" تُطلِع الفنّانة الفلسطينية سناء موسى الجمهور العربي والعالمي على قالب التراويد. تبحث الطبيبة والمُثقّفة الشابة مع المُتخصّصين والمُثقّفين في جذورها وتاريخها وسياقاتها الاجتماعية والإنسانية والفلسفية والأنثروبولوجية، وفي تلاقُح الثقافات الذي عُبِّر عنه في هذه القوالب والذي تمّ على أرض فلسطين. 

أجرت الميادين الثقافية هذا الحوار مع موسيقية جادّة توغِل في التفكُّر في إمكان واحتمال إعادة قَوْلَبة الترويدة وعَصْرَنَتها، وتتأمّل في أمورٍ وأسئلةٍ مفتوحة، وصولاً إلى حوار الحضارات والثقافات. 

وإذا ما كان بمقدور الفن الجديد الذي يكتسي ميزة جمع الناس أن يجترح رؤيا منجِّية ومنقذة راهناً. تخوض سناء موسى غمار المشروع البحثي في التراث منذ العام 2005. جزء من رسالة النساء التي وثّقتْها مع الكثير منهن عكستْها في أسطوانتها التي صدرت عام 2010. الدكتورة والباحثة في عِلم الدماغ جذبتها في التراث والغناء "فكرة البحث والقصّة ما وراء الأغنية، وما يُبقيها في الفن حتى الآن قصّة شعبها الصامد على أرضه، وقصّة كل البشر وصوتهم".  وهنا نصّ الحوار معها. 

***

قدَّمتِ في الحلقة الأولى التراويد التي كانت تُغنَّى في وداع العروس والأغنية المُشفّرة (الملالاة) على مستوى أغاني الحرب والثورة وأغاني الحب، عِلماً بأنّ التراويد تنتشر في بلاد الشام عموماً. إلى أيّ مدى لا تزال هذه التراويد تنتقل بالمُشافهة في ظلّ انتشار الأغنية الفلسطينية والعربية الحديثة؟ وهل تفكّرين مع أصدقائك الفنانين في إبراز التراويد ضمن قوالب أوسع تحتضن التراث من أجل تقديمه في صيغة تخاطب الأجيال الجديدة؟

التراويد التي تُغنّى في سهرة العروس وللعروس ما زالت تروَّد حتى الآن بشكلٍ كبير. جزءٌ كبير منها وصلَنا من خلال جدّاتنا وأمّهاتنا لأنّ طقس الزواج ما زال مستمراً. رغم تغيُّر شكله وعَصْرَنته، فإنه ما زال قائماً على اعتباره طقساً يكتسي أهميةً كبيرة جداً في مجتمعنا، لا الفلسطينيّ فحسب بل العربيّ عموماً. أغانيه ما زالت مستمرة، وبما أنّ العَصْرَنة داخَلَتْهُ فإنّ بعض الطقوس قد حُذِفَ وبالتالي اختفت أغاني هذه الطقوس من المشهد الثقافي وعن الممارسة اليومية أيضاً.

هناك جزء هامّ من التراويد التي تُعرَف بـ"التراويد المُشفَّرة" أي التي تحتوي على مقاطع مضافة لتصعيب فَهْم الكلمات، إمّا لإيصال رسالة سرّية غير مفهومة لدى المحتلّ تُبعَث من النساء إلى الثوّار أو رسائل الحب المُشفَّرة بسبب الخَجَل الذي كان والتكتّم على الحب في مجتمعنا وأظنّ بأنه ما زال مستمراً نوعاً ما حتى الآن.

أغاني الحب المُشفَّرة وأغاني الثورة "الملالاة" لم تنتقل بشكل كبير ونعرف منها نماذجَ محدودةً جداً فقط، والسبب يكمن في صعوبة فَهْم والتقاط كلماتها. لذلك فهذا نادر جداً على مستوى هذا القالب.

أُعاني حالياً في إحدى "الترويدات" لفَهْم معانيها وكتابتها وشرحها، واحدة من قوالب "الملالاة" التي تُسمَّى "الرّْوِيليلو". لذلك كان من المهم جداً تسليط الضوء عليها في برنامج "ترويدة" لتستمرّ وتمّت كتابة الكلمات التي حُذِفَت منها "اللام" و"الواو" لنسهّل الفَهْم ولتقريبها إلى الجمهور.

أما بالنسبة إلى تحديث الأغنية التراثية، فهذا سؤالٌ مركزي ومفصلي جداً وهناك نقاشٌ دائم حامي الوطيس حوله.

الجواب يكون في السؤال التالي: "إلى أيّ مدى تحتمل الترويدة ذلك؟". أحياناً لا يمكننا أن نحمّل الأغنية ما لا طاقة لها به. أحياناً يكون لحن الترويدة بسيطاً. إنّ استمرار اللحن منذ آلاف ومئات السنين لأنّ حفظه سهلٌ. أحياناً تعقيد الترويدة يمكن أن يصعّب تناقلها، لكن هناك بالطبع تجارب ناجحة لإعادة قولبة هذه التراويد وتقديمها بشكلٍ عصري وجذّاب بالنسبة للشباب والمتلقّين.

كل شيء متوقّف على الفارق بين ترويدةٍ وأُخرى. كلٌّ منها مثال على حِدة يجب أن يُعالَج على حِدة وأن يتم التعامل معه بشكل خاص لمعرفة إذا ما كان يحتمل إعادة قولبته أم لا.      

هل بإمكانك إطلاعنا على بعض المفاجآت أو المضامين في الحلقات القادمة من البرنامج؟

هناك قصة: فيما كنتُ أبحث عن أغاني مَن فرّوا من الخدمة العسكرية العثمانية عثرتُ على قصيدة لجد جدّي وهو الشاعر الزجلي سعيد العلي، شاعرٌ معروف جداً وكان فارّاً من الخدمة العسكرية وغنّى في الجليل الأعلى أمام صفوة بَيْك الذي التقاه بالصدفة، وقد غنّى أمامه باللغتين التركية والعربية.

من شدّة جمال صوته والكاريزما التي كان يتحلّى بها صَفَحوا عنه وأعفوه من الخدمة العسكرية العثمانية في بدايات عام 1900.

لجأتُ إلى بعض الكُتُب والمراجع وكان أهمّها كتاب سعود الأسدي الذي وثَّق هذه القصة: أغاني من الجليل. المفاجأة الأخرى والمحور المهمّ في البرنامج بعض القوالب الغنائية التي اختفت ولم تعد موجودة الآن في فلسطين للأسف بسبب تغيُّر نمط الحياة، مثلاً أنماط غناءٍ تخصّ البناء العقدي في البيت، ما يخصّ الرجال فقط.

وثمّة أنماط غناء أخرى لم يسمع عنها جيل الشباب وجيل والدي، وهناك العديد من "المُكتَشفات" في البرنامج الذي أتعلّم من تجربته كباحثة، وهي تجربة جميلة جداً بشكلٍ يفوق الطبيعيّ. 

بالمعنى الهايدغري العميق، فإن اللغة ليست مُجرَّد أداة يمتلكها الإنسان إلى جانبِ غيرها من الأدوات، بل إنّها ما يضمن إمكان الموجود وسط الوجود. لذلك قال درويش "أنا لغتي"، وأناه تحوي فلسطين أيضاً وليس فقط أناه كفرد وكإنسان. غنّت السيّدة فيروز في قصيدة الأخوين رحباني "سنرجع يوماً: بأنَّ البلابلَ لمّا تَزَلْ هناكَ تعيشُ بأشعارِنا". هل التراث الذين تصونونه يقتصر على تراث الأمس البعيد أم أنه يشتمل على التراث الحيّ؟ 

ما نقدّمه في "ترويدة" قديماً. بعض الأغاني يعود إلى مئات السنوات وثمّة الكثير من الكلمات الكنعانية في بعض الطقوس. بعض هذه الأغاني جديدٌ مثل "طلّت البارودة" منذ وقت الثورة ضدّ الاحتلال والاستعمار البريطاني في أرض فلسطين.

نتحدّث عن سنة 1930 وما بعدها، وبالتالي هذا الطقس كان يرافق هذه الثورة. بما أنّ حياتنا مستمرة فبعض تُراثنا يعود إلى عشرات السنين وبعضه يعود إلى مئات السنين. ما يختفي من التُراث عادةً يكون بإختفاء الطقس فتختفي الأغنية.

طالما أنّ الثورة موجودة نجد الكتابات والأغاني الثورية منذ زمن الاحتلال البريطاني، ومن الحرب ضدّ الاستحواذ الصهيوني وعصاباته الإرهابية... وقد تبدّى الخوف في كتابات الناس وتعبيرهم عن أنفسهم من أن تُسرَق فلسطين، وكان ثمة إحساس بأنّ هناك مصيبة "في الطريق"، قرار التقسيم وضَّح للفلسطينيين أنّ هناك مؤامرة حقيقية تدعو إلى القلق في فلسطين منذ أُولى الهجرات الصهيونية إلى أرض فلسطين ومن أوّل المؤتمرات التي عُقِدَت عام 1880 وحتى في ما بعد، كان هناك ما يُعبِّر عن قلقٍ وتخوّفٍ لدى الناس من فُقدان بيوتهم وأرضهم. 

أما بالنسبة إلى المَوْسَقَة، لتأويل أو لتحريك اللحن وإضافة آلات موسيقية، فهناك طُرُق عدّة تتعلّق بالرؤية. كل لحن قابلٌ للمَوْسَقة وإعادة قَوْلَبته وإظهاره بحلّةٍ جديدة وتقديمه في اتجاهات عدَّة ليكتسي كل مرة ثوباً مختلفاً وليتجلّى بجمالٍ جديد وليخاطب كل مرّة فئة عُمرية مختلفة وجيلاً مختلفاً وشريحة مختلفة من الجمهور.  

تؤدّين بصوتك التراث وأنت فنّانة معروفة. إلى أيّ مدى يستبطن هذا الصوت في هدوئه وتركيزه وتمحوراته صرخة الروح لإشباعها؟

  • سناء موسى
    سناء موسى

هذا الهدوء يصرخ أحياناً. هذا الصوت الحسّاس كأنه يتكسّر في بعض الأحيان وفيه البُحَّة القوية وأحياناً يحاول إيصال صرخة معيّنة تسيطر على هواجسي وقلبي وعلى حال معيّنة.

وبما أن التُراث شفَّافٌ وجميل إلى هذا الحدّ، لذلك أراني مُتعلِّقة ببرنامج "ترويدة" حيث سنحت الفرصة لأتحدَّث عن الأنماط التُراثية المختلفة... فكرة البرنامج: إذا كان الزَجَل الفلسطيني غير المنقطع عن فضائه العربي موجوداً في لبنان وسوريا وبلاد الشام عموماً وفي المغرب العربي، إذا كان هذا الزَجَل الذي يضمّ من القوالب والأنماط حوالى 20، وهناك عشرات القوالب الغنائية المختلفة المُتميِّزة التي تميِّز طقوساً ومراحلَ مختلفة... هناك مقولة قوية جداً وهي أنّ الشعب لكي يصنع هذا الكمّ من الأغاني يجب أن تكون قد مرَّت فترة على وجوده في أرضه، ما يُبيِّن مدى امتداد الجذور الفلسطينية وكمْ هي ضارِبة في عُمق الأرض، أرض كنعان.

بالعودة إلى جوهر السؤال، الصوت اللطيف هذا أحياناً يُعبِّر عن هذا العُمق وعن هذا الوَجَع الموجود في قصّتنا.

ماذا يمكن أن تقدّمي بعد هذا البرنامج، سواء على الصعيد الإعلاميّ أمْ الفنّي الموسيقي؟ ما هي أحلامك على الصعيدين الفنّي والثقافي تحديداً على اعتبارك مُثقّفة وفنّانة فلسطينية صاحبة مشروع؟ هل تجدين نفسك معنية بحوار الحضارات والثقافات؟

  • صورة من عرس فلسطيني تقليدي
    صورة من عرس فلسطيني تقليدي

هدفي يتمثل في شقَّين: الشق الأوّل هو تعريف أبناء شعبي بحكايتهم الخاصة وجزءٌ منهم يعرفها، والجزء الآخر من جيل الشباب لا يعرفها.

يتأتّى ذلك عن أثر النكبة وانقطاعنا عن سياقنا الطبيعي الذي كنا نعيش فيه في أرض فلسطين. عندما ينقطع الإنسان عن سياقه ينقطع عن ممارسة طقوسه، يشعر بأنه في حال طوارىء، وفي الطوارئ نحن أقلّ مَن مارس طقوسنا، نتخلّى عن طقوسنا ونلجأ إلى مساراتٍ إجبارية في التعامل في هذه الحال.

مَن يملك الحكاية يملك تاريخه ونحن لدينا حكاية وهذه الحكاية إذا لم نعرفها يذهب تاريخنا منّا!

أما على مستوى الشق الثاني المتعلّق بحوار الثقافات، فأقول إنه حتى على مستوى "ترويدة" ذاتها (...) عملياً الفن الفلسطيني غير منقطع وغير منفصل عن سياقه الطبيعي، أي بلاد الشام، لأنه لم يتطوّر وحده، بل تطوّر في سياقه الطبيعي قبل الحدود الوهمية التي رسموها لنا.

عملياً التراويد نجدها في فلسطين ولبنان وبلاد الشام، والموّال عندنا وفي سوريا وفي المسبوع المصري، يكون مختلفاً بعض الشيء لكنه يكون شبيهاً. نجد عندنا العتابا، وفي العراق الـ"أبوفيّا"، والمولَيّا لدينا وفي سوريا، والزجل في فلسطين ولبنان.

هذا اندماجٌ – ويوسف الحسون وهو واحد من أهم شعرائنا الفلسطينيين غنّى له الفنان الراحل وديع الصافي بيت الشعر الشهير "مرقتي مرقة النحلة عَسِلسال، تبسّمتي ومن شفافِك عَسَل سالْ"... كان هذا حواراً طبيعياً بين الثقافات والناس، نحن شعب واحد.

عندما كانوا يزفّون العريس كانوا يقولون: "جبنا بدلتك من عجلون وبعدين رحنا على لبنان وسوريا"، وكانوا يعدّدون المدن لا الدول، فبالنسبة لهم كان هذا الفضاء واحداً. كانوا يذكرون الكرك، السلط، دمشق، حلب، وبيروت، إلخ.

كان يخبرني جدّي أنه يذهب إلى لبنان ويعود عن طريق السفر بالسيارة، وهذا كان محيطهم الطبيعي عملياً.

وُجِدَ الفن لتغيير حياتنا والإضاءة على أهمّ ما نقوم به وعلى تطلّعاتنا وأفكارنا وأحساسينا. إنه مرآة لدواخلنا. إذا قدّمنا فنّاً ركيكاً ومُستهتراً يقتصر على استقطاب الجمهور، فهذا يعكس طبيعة الفنان الذي يقدّم العمل.

حوار الثقافات ممتعٌ وجميل ويعمّق الأمور ويتيح رؤية القرب بين الناس وإلى أيّ مدى هذه الحدود السياسية هي حدود مفتعلة وليست طبيعية.

حوار الثقافات بيننا وبين العالم بأسره هامّ جداً. في موسيقى الفادو Fado، في بعض كلماتها أشعر كأنهم يتحدّثون عن "سفَر بَرلِكْ".

هناك يتحدّثون عن وداع الرجال الذين خرجوا عبر البحر بحثاً عن الرزق ونجد في أغانينا في "سفر برلك" رجالنا خرجوا عبر البحر: الوداع ذاته والحزن ذاته، الرجال الذين خرجوا للمشاركة في معارك الدولة العثمانية.

كنت أهتم بهذا الجانب قبل اليوم، وكان لديّ مشروع يتمظهر فيه دمج الموسيقى الفلسطينية والفادو، والموسيقى الفلسطينية مع موسيقى الـNordic (شمال أوروبا، السويد، والنرويج وفنلندا). فالموسيقى لغة عالمية لا تقتصر على مكان معين أو حدود معينة. الموسيقى تعكس وجع الإنسان وفرحه وحياته بكل طقوسها. مع إختلاف التفاصيل لكن هذا الشيء مشترك وأحياناً يكون من الجميل تشبيك الجسور بيننا لإيصال هذا الصوت إلى الناس.  

يقول تولستوي إنّ ميزة الفن الجوهرية تكْمُن في جمْعِ الناس وأنه من وسائل تقدُّم الإنسانية وشوبنهاور يعدّ الموسيقى جوهر الإرادة.. إلى أيّ مدى يمكن للفن في امتداده وصولاً إلى الفن الجديد أن يجترح رؤيا منجّية ومنقذة اليوم؟ 

  • صورة خلال ثورة العام 1936 في فلسطين
    صورة خلال ثورة العام 1936 في فلسطين

الفن الآن يمرّ بأزمة حقيقية ما بين التجارة وجعله سلعة يمكن بيعها وتُلاقي إقبالاً ورواجاً من جهة، وبين الفن الذي وظيفته أن يُغيِّر وأن يسلِّط الضوء على قضايا جوهرية وعميقة من جهةٍ أخرى.

الآن فنّانون كثيرون يقعون في المطبّ. عملياً، هناك محاولة لصناعة نوع فن جديد أو حتى لتأطير الفن، حتى الفن البديل، داخل أُطُر تجارية.

الفنان الذي ينتج أعماله بنفسه، لا سيما إذا كانت المواضيع التي يتناولها حادّة، من الممكن ألا يناسب ذلك بعض الشركات التجارية التي تقوم برعاية حفلات للفنانين... وهذا يُدخِل نوعاً من التغيير في ما يُقدَّم كثقافة حتى يتماشى مع مصلحة الشركة التي تقوم بدعم هذا الفن.

الفن وُجِدَ ليغيّر حياتنا، لا للترفيه فقط. الترفيه مهمّ لكنه لا يمثّل جوهر الفن أو أساسه. لا أستطيع أن أستمتع بأيّ فن بلا عمق وجوهر مع ضرورة إحترامه لي كفنّانة وكمستمعة وكمتلقّية.

نسمع الكثير من النصائح التي تُعطى للفنانين من هذا القَبيل: "إعمِل كذا وبدَّك تلائم ذوق الناس...". بالطبع نحبّ أن نخاطب جيل الشباب وكل فئات المجتمع، لكن الفن بلا جوهر وبلا محور وبلا عمق هو عملياً ركيك ورخيص.

الفن وُجِدَ ليغيّر حياتنا، لا للترفيه فقط. الترفيه مهمّ لكنه لا يمثّل جوهر الفن أو أساسه. لا أستطيع أن أستمتع بأيّ فن بلا عمق وجوهر مع ضرورة إحترامه لي كفنّانة وكمستمعة وكمتلقّية.

إذا لم أشعر بأنّ هذا الفن يحترم ذكائي وهو يقوم فقط على الصورة وعلى استقطابنا وإغرائنا بالمشاهد والصوَر من دون الجوهر – معظمه اليوم بَصَريٌّ – إذا لم أشعر بأنّ ثمة موضوعاً ومحوراً حقيقياً يجذبانني لأستثمر الوقت الثمين (وقد أصبح اليوم سلعة نادرة)، لكي أقوم بالإستماع إلى أغنية معيّنة أو لمشاهدتها... فأنا غير مستعدّة لإضاعة الوقت.

الفن وُجِدَ لتغيير حياتنا والإضاءة على أهمّ ما نقوم به وعلى تطلّعاتنا وأفكارنا وأحساسينا. إنه مرآة لدواخلنا. إذا قدّمنا فنّاً ركيكاً ومُستهتراً هدفه يقتصر على استقطاب الجمهور فهذا يعكس طبيعة الفنان الذي يقدّم العمل.

وإذا قدّمنا عملاً جوهرياً جادّاً يحاول ربطنا بجوهر الفن ومحوره الذي يحاول معالجته، فهذا يخاطب الناس وسيكون بمقدوره أن يُحدِث تغييراً، لا في المشهد الفنيّ فحسب، بل أيضاً في المجتمع بأسره. هنا تكمن أهمّية الفن وخطورته، وهو سلاحٌ ذو حدّين.