صبّ النحاس بالرمل: حرفة تتعلمها قلة.. وعمل لا يتوقف

تكاد تنقرض لولا أهميتها القصوى في الحياة العامة والصناعات الثقيلة.. تعالوا نتعرف إلى حرفة صبّ النحاس بالرمل؟

 

 محمد نعمان يشرح تحضير القالب
محمد نعمان يشرح تحضير القالب

كادت حرفة "صب النحاس بالرمل" أن تنقرض لولا أهميتها القصوى للحياة العامة، من جهة، وللصناعات الثقيلة، من جهة ثانية.

ورغم الحاجة الملحّة لها على مختلف المستويات والصعد، إلا أن قلة من الحرفيين يختارون امتهانها. أما الذين ساروا في طريقها، الذي يمكن اعتباره نصف شاق، فإنهم لا يتعطلون عن العمل لشدة الطلب عليها، ولا يتوقف مدخولها المقبول نسبياً مقارنة مع بقية الحرف.

الطلب كبير على القلة المتبقية من حرفييها، الذين لا يتجاوزون أصابع اليد، وأصناف الطلبات تغطي مروحة واسعة من الأغراض، التي لا يمكن توفرها لولا "صبها بالرمل". 

اتخذ محمد نعمان مشغلاً له لصب الرمل على مقربة من مرفأ مدينة طرابلس شمالي لبنان، لسبب وحيد، إنه صغير الحجم، متران عرضاً، و5  أمتار عمقاً تنتهي بغرفة صغيرة لا تزيد مساحتها عن 4 أمتار مربعة، وتكلفته، يوم استئجاره، محمولة للطالب المتخرج من "معهد الدكوانة الفني" أواسط سبعينيات القرن الماضي.

ويقول نعمان الممتهن الوحيد لها في مدينة الميناء شمال لبنان، إن إقامته على مقربة من المرفأ كانت مصادفة هامة، "لي، وللمرفأ"، كما جاء في حديثه مع الميادين الثقافية

المستغرب في كلام نعمان ربط صبّ الرمل بحركة المرفأ ورسوّ السفن ونقل البضائع. يتباهى نعمان أنه بتقنيته البسيطة أنقذ عشرات السفن الضخمة من الرسوّ الأبدي، وهي السفن القديمة الصنع، التي باتت صناعتها خارج الخدمة، لكنها تستطيع تلبية حاجات النقل مثل السفن الأحدث.

  •  تحضير القالب للصب
    تحضير القالب للصب
  • قالب جاهز للصب
    قالب جاهز للصب
  • القطع بعد صبها
    القطع بعد صبها

السفن الجديدة لها بدائل متى تعطلت إحدى قطعها المعدنية، لكن السفن العتيقة تفتقد قطع الغيار التي استنزفت، ولم تعد متوافرة، ولم تعد شركاتها تصنع بدائل لها، وهذا ما طالع أحد أصحاب السفن نعماناً به، بعد أن ظلت سفينته متعطلة عن الحركة لسنوات بسبب انكسار إحدى قطعها من دون العثور على بديل.

 يروي نعمان أن صاحب السفينة جاءه مستفهماً عن كيفية العثور على قطعة، لكن نعمان الذي أحب حرفته، ودرسها معمّقاً في المهنية، وبات يتقنها بامتياز، قال له إنه يستطيع تصنيع بديل لها إذا أحضر له صاحب السفينة أجزاء القطعة المكسرة.

القطعة ليست ضخمة، ويمكن نقلها باليد، لكن السفينة لا تستطيع الحركة من دونها. وما هو إلا وقت قليل، حتى عاد صاحب السفينة حاملاً أجزاء القطعة المطلوبة.

لم يمر أكثر من يومين على نعمان، حتى أعاد صب قطعة جديدة متطابقة مع القطعة الأم، وبمعدن وصفه نعمان بأنه "أقوى من السابق".

تم تركيب القطعة في موضعها في السفينة، وأجريت بعض أعمال تشحيم، وتنشيط للسفينة المتوقفة منذ سنوات، وما هي إلا ساعات قليلة حتى عادت الجثة الضخمة للتحرك كتنين مستيقظ من نومه للتوّ.

"بذلك، أنقذت بحرفتي البسيطة هذا الجبل المعدني الراسي في المرفأ منذ سنوات، وببضعة دولارات، وفرت على صاحب السفينة فرطها، وبيع حديدها في سوق إعادة التدوير"، يقول نعمان متباهياً، ويردف: "مع تراكم العمل، كرّت السبحة على مستويات صناعية كبيرة كالسفن، ومتوسطة كالسيارات، وصغيرة كثريات المنازل، وبت لا أستطيع تلبية طلبات الزبائن لكثرتها، وعلى من يريد قطعة عليه ان ينتظرني بضعة أيام".

أما وائل، ابن محمد نعمان، الذي انتظر تخرجه من الجامعة باختصاص هندسة الميكانيك، فتحول للعمل مع والده لتغطية نفقاته الخاصة، ومساعدة والده، لكنه غرق في المهنة وهو يتابع تخصصه. 

الصب

  • وائل نعمان يغرس قطعاً بالرمل
    وائل نعمان يغرس قطعاً بالرمل
  • وائل يصب قطعة
    وائل يصب قطعة
  • صب المعدن الذائب بالقالب
    صب المعدن الذائب بالقالب
  • قطع كهرباء سيارات مصبوبة في القالب
    قطع كهرباء سيارات مصبوبة في القالب

في مرافقة لعملية الصبّ التي يمارسها آل نعمان، تبدأ العملية بإعادة ترتيب الأجزاء المكسرة للقطعة، وإلصاقها بطريقة تأخذ شكلها الأساسي، لكن بدقة، وحرفية متناهيتين، ومتى صارت القطعة جاهزة، يبدأ تحضير الرمل المخصص للصب.

يوضع الرمل في طبقتين منفصلتين لقالب واحد، وتُغرز القطعة المكسرة التي أعيد لصقها بالرمل في طبقة أولى من القالب، وقد توضع أكثر من قطعة مع بعض، فيتم فتح ممرات بينها، ثم تغطي طبقة ثانية الطبقة الأولى، ويجري تحضيرها للصب بفتح فوهة من الأعلى.

بعد التحضير، تفصل الطبقتان، ويتم نزع القطعة، او القطع، المكسرة أو التالفة من موضعها، بعد أن تكون قد اتخذت شكلها في الرمل بصورة متطابقة بالتمام.

يعاد جمع الطبقتين تحضيرا للصب. وفي هذه الأثناء يكون وائل قد بدأ بنفخ الكور (فرن التذويب)، وتشغيله، وهو جرن مكور من الفخار الصلب الذي يستطيع تحمل حرارة عالية، يستخدم فيه زيت الناقلات المستهلك -المحروق، يصل إلى داخل الكور عبر قناة-قسطل من مستوعب للزيت مثبت على سطح المشغل. 

وائل ينفخ الهواء بقوة من منفخ خاص، ويبدأ اللهب بالتأجج، ويتصاعد بصوت هادر، ومريب، ومتى بلغ حرارة يستشعرها المعلم دون ميزان، أدرك أن المعادن التي وضعها في داخل الكور من نحاس وألمنيوم وحديد وزنك وسواها، قد باتت سائلا. يبدأ بتخفيف حرارة الكور حتى تنخفض الشعلة، ويحضر وعاء كملعقة كبيرة بقبضة طويلة، يسحب بواسطتها بعضا من المعدن الذائب، ويصبه فورا في فتحة القالب الذي جهزه، فينساب السائل في الممرات الضيقة بين القطع، بلوغا للفتحة المتطابقة مع القطعة أو القطع المكسرة، ويظل يضيف المعدن الذائب حتى الامتلاء، ثم يترك القالب في أرضه لدقائق قليلة، كافية لإعادة تجمد المعدن السائل.

بعد ذلك، ينزع المعلم الطبقة العليا من القالب، ويترك المعدن المتجمد المدفون في الرمل ليبرد، ويتصلب متخذا شكل القطعة الرديفة، قبل أن ينزعها من الرمل، لمعالجتها، بإزالة الإضافات التي علقت عليها، إن من المعدن عينه، أم من الرمل، ويصقلها بخبرته، لتخرج من يده صالحة لإعادة الاستخدام في الموضع الذي خصص لها.

يصنع نعمان كل الأصناف مهما كانت معقدة، ويذكر أن حرفته تشكل حاجة للصناعة حتى باتت بعض الشركات الكبيرة في أوروبا تنشيء مشغلا في المصنع او قربه لاستخدامه في حاجات لا يمكن تصنيعها في المصانع المتطورة. 

بقي من حرفيي صب الرمل في لبنان محمد نعمان، وابنه وائل في طرابلس، وثلاثة أو أربعة في برج حمود في بيروت، وآخر واحد منهم الأرمني انترانيك وهرديان في الأوزاعي الذي أقفل خطه، ولم يعد يعرف عنه شيء.