النشر بعد الموت.. مسألة أخلاقية أم "حق" للقراء؟

نثير في هذا التحقيق مسألة النشر بعد الموت، وتعقيداته الأخلاقية، و"حق" القراء في اكتشاف تحف أدبية لم تكن لتبصر النور لولا جرأة البعض على مخالفة وصايا أصحابها.

  • النشر بعد الموت.. مسألة أخلاقية أم "حق" للقراء؟
    فرانز كافكا وماكس برود

لعل مُراجعة بسيطة لقائمة الأعمال الأدبية التي نُشرت بعد وفاة أصحابها ستُحيلنا إلى نقص فادح فيما لو لم يُكتب لتلك الأعمال أن ترى النور، ومن ذلك على سبيل المثال: الأجزاء السبعة لرواية الفرنسي مارسيل بروست "البحث عن الزمن المفقود"، و"اعترافات المحتال فيليكس كرول" لتوماس مان، وأيضاً رواية "البحّار" لهرمان ملفيل التي أشاد بها النقاد البريطانيون بوصفها «تحفة»، وأصبحت من الأعمال المهمة في الأدب الأميركي، واقتُبست للمسرح والأوبرا والسينما، ورواية "مُحضِّر الأرواح" بأجزائها الثلاثة لفريدريك شيلر التي استقطبت جمهوراً فاق جمهور أي عمل آخر لشيلر أثناء حياته، وأعمال أخرى لميشيل فوكو، وفيرجينيا وولف، وهمنغواي، وشاتوبريان، وفرانز كافكا، وفرانسواز ساغان، وغيرهم.

تعقيد أخلاقي

  • النشر بعد الموت.. مسألة أخلاقية أم "حق" للقراء؟
    كافكا

لكن تبقى قضية "النشر بعد الموت" من أكثر القضايا الأخلاقية تعقيداً، كما يرى البروفيسور دافيد بونين David Boonin في كتابه "خطأ فادح: أخلاقيات الأذى ما بعد الموت" (Dead Wrong: the ethics of posthumous harm)، وذلك لأثرها المديد على حياة المؤلّف ذاتها، قبل وفاته وبعدها، خاصةً إن كانت على هيئة مُذكَّرات، ومَكْمَنُ الصعوبة يأتي ليس فقط من رضوخ الورثة أو الأصدقاء أو المحرّرين لرغبة الكاتب أو معارضتها فقط، وإنما من القدرة الناجمة عن ذاك القرار في تغيير ملامح شخصية المؤلّف نفسها، زيادتها وضوحاً أو تعزيز ضبابيتها ورُبَّما سوادها، وفي الوقت ذاته إما منحها حافزاً نقدياً جديداً أو إطفاء لهيب حضورها الماضي. 

كل ذلك وغيره يضع أصحاب قرار "النشر بعد موت المؤلّف" ضمن ما أسماه البعض «كابوساً أخلاقياً»، تماماً كالذي وقع فيه الصحافي التشيكي ماكس برود إثر رسالة له من صديقه فرانز كافكا وهو على فراش الموت بمرض السل بعد أن أحرق معظم كتاباته التي طالتها نوبة يأسه، وجاء فيها: «عزيزي ماكس، كل شيء أتركه في طريقي من المذكرات والمخطوطات والرسائل الخاصة بي والتي جاءتني من الآخرين، الرسومات، وغير ذلك... يجب أن تُحرق بالكامل ولا يقرأها أحد». 

لكن برود بحكم صداقتهما الصافية أخبر كافكا أنه لن يطيعه، وهو الذي لم يُفرِّط ولو لمرة واحدة بأصغر قصاصة كتبها صديقه، ولا حتى بطاقة بريدية، ومن دون قرار برود  لم نكن لنعرف شيئاً عن «الأعمال القصصية غير المكتملة» لرائد الكتابة الكابوسية، ولن يكون باستطاعتنا قراءة "أميركا" و"القلعة" وحتى "المحاكمة" التي صنع منها أورسون ويلز فيلماً بالعنوان ذاته.

هذه الروايات الثلاث التي كانت الأنصع في تحديد سمة كتابات كافكا، و«تأثر بها كل من ألبير كامو في "الطاعون" و"الغريب"، وغراهام غرين في "وزارة الخوف"، وركس وارنر في "المطار"، وسوزان سونتاغ في "حكاية صندوق الموت"، وغيرهم ممن اقتبس مواضيع كافكا وأسلوبه»، ما يجعلنا نُثمِّن ما قام به برود، لا سيما أنه بمحافظته على تلك الأعمال أكمل صورة كافكا كنموذج أمثل عن «الكاتب الذي سلّم نفسه لكل القوى القادرة على تدمير الإنسان، من دون أية محاولة منه لإعاقة طريقها بالوعي»، بحسب رونالد غراي في دراسته التي حملت إسم صاحب "المسخ"، ولعل طلب كافكا من ماكس بحرق كل آثاره الكتابية يصبّ في الخانة ذاتها، بحيث كان صديقه الصحافي هو ذاك الوعي بطريقة ما. 

مُذكِّرات العبث بالمستقبل

  • النشر بعد الموت.. مسألة أخلاقية أم "حق" للقراء؟
    مارسيل بروست

يقول الباحث بليك موريسون Blake Morrison في مقال له نشرته صحيفة الغارديان بعنوان "عالياً في الدخان.. هل على رغبات الكتاب المتوفّين أن تُطاع؟": «الحرص ومحاولة فعل الصواب تجاه نشر أعمال الكتّاب المتوفين، قد يكون رهيباً، وهو كابوس أخلاقي حقيقي، وإذا كان الكاتب مشهوراً بما فيه الكفاية، فستكون هناك سيرة ذاتية للتعامل معها». هذه النقطة الأخيرة دفعت الكثير من الكُتَّاب لأن يؤكِّدوا على محرّريهم التنفيذيين بأنه «لا سيرة ذاتية»، ومنهم جورج أورويل وويستن هيو أودن لكن رجاءهما ظلّ من دون جدوى، وكان الحل لتفادي «سيرة ذاتية غير صحيحة» هو كتابة نسخة "أصلية" قبل الوفاة كما فعل الشاعر والروائي الإنكليزي توماس هاردي، وكما فعل أيضاً الكاتب الفرنسي فرنسوا رينيه أوغست دي شاتوبريان في كتابه الشهير "مذكرات من وراء القبر" الذي يعتبره النُّقاد واحداً من أهم كتب المذكرات باللغة الفرنسية، جنباً إلى جنب مع "اعترافات" جان جاك روسو.

كما أن هناك من يرى فيه الكتاب الذي يُقرأ أكثر من أيّ كتاب في تاريخ الأدب الفرنسي، إذا استثنينا "البؤساء" لفيكتور هوغو. ورغم رغبة شاتوبريان بأن تُنشَر مُذكَّراته بعد وفاته، وعلى أساس ذلك باعها للناشر بمبلغ ضخم، لكن هذا لم يتحقّق إلا جزئياً، إذ إن الناشر راح يبيع فصولاً من المذكرات إثر فصول، وهكذا قُرئ بعض من تلك المذكرات المؤلّفة من أربعة أجزاء خلال حياة صاحبها، لكن ذلك لم يمنع النُّقاد في ما بعد من القول بأن «مذكرات من وراء القبر هو الكتاب الذي رفع فيه شاتوبريان التاريخ إلى مستوى الكتابة الدينية»، ولعل في ذلك تأكيد على مقولة الباحث موريسون بأن «قدرة المؤلّفين على ممارسة نفوذهم من وراء القبر ليست خيالاً؛ فتجاوزهم الماضي لا يمنعهم من العبث بمستقبلهم».

اكتشاف «معجزة»

  • النشر بعد الموت.. مسألة أخلاقية أم "حق" للقراء؟
    فرجينيا وولف

الأمر ذاته ينطبق على الروائية الفرنسية فرانسواز ساغان، التي صدمت منذ شهرين تقريباً الأوساط الأدبية بعد 15 عاماً على وفاتها، بعدما عثر إبنها دوني ويستهوف بالصدفة بين أكوام الرسائل والوثائق والمخطوطات على رواية غير مكتملة بين أوراق والدته بعنوان "زوايا القلب الأربعة"، وبعدما استشار مُحرِّرَها جان مارك روبيرت أخبره بأن «هذا النص سيعطي صورة سيّئة عن أمه»،  لكن بعد فترة وجيزة توفى جان، فأعاد ويستهوف النظر في النص وقرّر دفعه للنشر بعد أن «أدخل بعض التعديلات الطفيفة عليه من دون أن يمس أسلوب والدته أو لهجتها»، بحسب تصريحه لصحيفة اللوموند، وتوصيفه للرواية بأنها «ساحرة وساغانية ومغامرة لا تصدّق»، كما كتب في مقدِّمة الرواية مبيناً أن اكتشاف المخطوطة في أحد الأدراج كان بمثابة الـ«معجزة» وسط سلسلة من المعارك القانونية على ممتلكات والدته، التي قال فيها: «تم الاستيلاء على ممتلكات ساغان أو بيعها أو منحها أو اقتنائها بطرق مشكوك فيها».

القلب المضروب

  • النشر بعد الموت.. مسألة أخلاقية أم "حق" للقراء؟
    ارنست همنغواي

لكن بين رأي مُحرّر ساغان الرئيسي العارف وصاحب الخبرة بكل ما كتبته صاحبة "صباح الخير أيها الحزن" وبين توصيف إبنها للرواية المُكتَشفة بعد وفاة كاتبتها، ثمة تناقض كبير، ما جعل الكثير من التساؤلات تدور عن الأسباب التي دفعت ويستهوف إلى نشرها الآن، وهل هي بقلم والدته أم أن له الدور الأكبر في إعادة صوغها طمعاً بالمال والشهرة، وهو ما يمكن تلمُّسه في الكثير من أسئلة الحوارات معه والمُشكِّكة بمرجعية الرواية، لاسيما مع التسريبات بأنها كانت عبارة عن قصتين منفصلتين "الزوايا الأربعة للقلب" و"القلب المضروب" وكانا يُحضَّران ليصبحا سيناريو فيلم، وعليهما الكثير من الشروحات والتصحيحات، وبينهما العديد من الفجوات والنقص الفادح، ما دفع ويستهوف إلى ترميم المخطوط بمساعدة الناشرة صوفي كارنافيل التي تعمل لدى "بلون" مع المحافظة على أكبر سرية ممكنة، ولعل ما يدعم تلك الشكوك هو تأكيد إبن ساغان في ما بعد أنه استغرق الكثير من الوقت لمعرفة أنهما «رواية واحدة» بحسب تصريحه لصحيفة "لوموند". 

أكوام الخبث الأدبية

  • النشر بعد الموت.. مسألة أخلاقية أم "حق" للقراء؟
    هرمان ملفيل

هنا تعلو أصوات النُّقاد في اتهامهم لبعض الأوصياء على ميراث الكتّاب المتوفين بأنهم من أجل انتزاع آخر دولار يُتاح لهم من كتابات لم يكن المؤلّف الميت قد سمح بطباعتها، لا يكفُّون عن البحث في «أكوام الخبث الأدبية» كما وصفها الكاتب إدوين ماكدويل Edwin McDowell في مقال له ضمن "نيويورك تايمز" بعنوان "نشر المخطوطات بشكل كبير"، وذلك على الرغم من الالتزام الأخلاقي والاعتراف بصعوبة وحساسية عمل أولئك الورثة والقائمين على قرار النشر، والذي شرحه إدوارد أسويل مُحرِّر الكاتب توماس وولف بالقول: «إن دراسة كتلة المخطوطات كانت بمثابة حفر موقع طروادة القديمة، حيث أثبتت الأدلّة وجود حضارات بأكملها مدفونة ومنسية على مستويات مختلفة»، بمعنى أنه رغم أن الدوافع الاقتصادية لا يمكن استبعادها مطلقاً من قرار النشر بعد الوفاة، إلا أنه لا يمكن دائماً تلخيص الدوافع بكلمة "المال" ولا حتى الشهرة. 

ففي بعض الأحيان يكون الدافع أخلاقياً بحتاً، وذلك لإحساس مالكي سلطة النشر بالمسؤولية التاريخية والأدبية الناجمة عن قرارهم.

وعلى اختلاف الظروف وحساسية كل موقف، إلا أن على ورثة الأدباء وأصحاب قرار نشر المؤلّفات غير المطبوعة في حياة مؤلّفها، أن يضعوا في حسبانهم أن الأحكام عليهم ستتراوح من عمق الامتنان وحتى الخيانة، فإن عارضوا رغبات المؤلّف، سيتم وصفهم بالخونة، وإن كانوا مخلصين بشكل مفرط، سيدمّرون الأعمال التي تبرّأ منها المؤلّف، لكن في جميع الأحوال لا يمكنهم تجنّب الدور الحسَّاس المُناط بهم، إذ «لديهم خاصية لإدارة مساحة من تاريخ الكلمات» كما يقول بليك موريسون.