الصناعات اليدوية في سوريا.. فن يقاوم الاندثار

رغم التطور التكنولوجي لا تزال الصناعات التقليدية والحرف اليدوية حيةّ في الساحل السوري، وأصحابها يخرجون لنا تحفاً فنية تعيش طويلاً.  

  • الصناعات اليدوية في سوريا .. فن يقاوم الاندثار

صناعاتٌ تقليديةٌ مُتنوّعةٌ ومهاراتٌ وحِرَفٌ يدويةٌ يتميَّز بها الساحل السوري منذ سنين طويلة. أبدع سكان هذه المنطقة بتسخير الطبيعة وخيراتها واستثمار مواردها للانتفاع بها كَسْباً للقُمة العيش وتلبية لمُستلزمات حياتهم اليومية. 

هكذا تميَّزت قرى المحافظات السورية بحِرَفٍ يدويةٍ ارتبطت بتُراث وتاريخ الريف الساحلي، ورغم تطوّر التكنولوجيا والصناعات المُتنوِّعة إلا أن هذا النوع من الصناعات الفنية ما زال مُحافِظاً على وجوده ومنها صناعة القَصَب التي تزدهر في القرى المجاورة للأنهار. 

مُحافِظاً على استخدام أدوات بدائية بسيطة، يستكمل العمّ أبو علي محمَّد بلول من عين شقاق مهنة الأسرة في صناعة القَصَب منذ ما يُقارِب ال 35 عاماً، ويقول للميادين الثقافية: "اشتغل وابني وأزرع وأحصد لنأكل من إنتاج بلدي"، راوياً لنا رحلته الطويلة مع القَصَب وكيف تعلَّم تطويعها لينسج منها السلال بأنواعها وأشكالها المختلفة. 

  • الصناعات اليدوية

 

الخير وفير والعمل مستمر، بحسب بلول الذي يُضيف: "العمل جيّد، ليلاً نهاراً وصيفاً شتاء. العملُ دائمٌ ومستمرٌ ويكفينا مادياً ولا يُحيجنا لأحد، فهذه المهنة قديمة جداً وأصبحت من التُراثيات القديمة في منطقتنا. صناعة القَصَب والعمل به تعني لي الذهب الصافي لأنها شيء قديم ومُريح للفكر والعقل والإنسان، فأيّ شخصٍ يمنحها من فكره يأخذ نتيجة عالية جداً، والله يُعطيه كثيراً لأنها تُراث يجب المحافظة عليها".

علاقة خاصة تربط ديمة بلول بوالدها الذي ورثت عنه المهنة وتعلّمتها منذ ما يُقارِب الخمس سنوات لتطوّرها بلمساتٍ أنثويةٍ لفتاةٍ عشرينيّةٍ أحبَّت عملها وأعطته من وقتها. هكذا أصبح "لُقمة عيشي وعيش أولادي" كما تقول ديمة وتردف: "أعمل في هذه المهنة لأنها تُراثية قديمة وأنا أحبّها .. والدي علَّمني وبها أصبحت أكسب الرزق لي ولأولادي. تعلَّقت بها وأصبحت صديقتي في أوقات فراغي وتعني لي الكثير، العمل فيها جميلٌ ونظيفٌ ومُريح".

  • الصناعات اليدوية في سوريا .. فن يقاوم الاندثار
    الصناعات اليدوية في سوريا .. فن يقاوم الاندثار

يُستخدَم القَصَب لصناعة العديد من الأدوات ومنها صناعة "السانون" الذي يُعتًبر من أهم حافظات الأواني الزجاجية الكبيرة وقواعد مقالي الفخّار والمكبّة المُستخدَمة لحفظ الطعام.

ومن أعواد الريحان يُصنَع "القفير" المُخصَّص لوضع الزيتون والحنطة، والسلَّة أو الكيلة  "القرطل" لقطف الزيتون والتين والعنب، بالإضافة إلى "المخبزة" التي تُستخدَم لحفظ خبز التنّور أو الصاج.

إلى جانب القَصَب والريحان امتهن أبناء الساحل السوري صناعة الفخَّار الذي يُعتَبر من الحِرَف القديمة والتُراثية، والتي دلَّت عليها اللُقى الأثرية المُكْتَشفة في منطقة رأس شمرا في محافظة اللاذقية والتي يعود عُمرها إلى الألف السادس قبل الميلاد.

وفي قائمة الفخّاريات العديد من الأدوات التُراثية القديمة التي تُستخدَم في المطبخ السوري كالمقلي الذي يزيد عُمره عن ثمانية قرون، بالإضافة إلى القدّور التي تُشبه الطناجر والكوز الذي يُستخدَم لحفظ مياه الشرب والصحون والمباخِر الفخّارية. 

  • الصناعات اليدوية في سوريا .. فن يقاوم الاندثار
    الصناعات اليدوية في سوريا .. فن يقاوم الاندثار

العديد من المناطق ارتبطت أسماؤها بالمهنة كناحية الفاخورة التابعة لمنطقة القرداحة في ريف اللاذقية، كما العديد من العائلات الي أصبحت تُكنَّى بها كعائلة طه حمادة الملقّب بأبو محمَّد الفاخوري نسبة إلى مهنته، حيث قصدنا منطقة عرب الملك في بانياس ليُخبرنا تفاصيل أكثر عن ارتباطه وعائلته بالفخَّار. 

ويقول أبو محمَّد: "هذه المهنة أصبحت جزءاً مني. أعيش تفاصيلها بشكلٍ يومي ومستمر منذ أكثر من 58 عاماً"، ويُضيف: "خليطٌ من التُراب والماء والنار هي كل ما أحتاجه لأكسب رزقي ورزق عائلتي. تمرّ القطعة بمراحل عديدة لتتحوَّل من الطين إلى الفخّار وتحتاج إلى بالٍ طويلٍ وصبرٍ وفكرٍ قادرٍ على مُحاكاتها وتحويلها إلى قطعةٍ فنيةٍ بأشكالٍ مختلفة".

يتأسَّف الفاخوري لنُدرة الأيدي العامِلة في مثل هذه المِهَن وقلّة دعم الصناعات اليدوية بالأدوات المناسبة لتطويرها وضمان استمراريّتها قائلاً: "في بلادنا لدينا كل شيء والحمد لله. بلدنا جميلة جداً وغنيّة جداً بكل شيء برجالها وناسها وطيبتها، لكن نفتقر إلى رغبة الشباب في تعلّم مثل هذه المِهَن، بالإضافة إلى عدم دعمنا بأنواعٍ مُعيّنةٍ من التراب الناري الذي يُعدّ ضرورياً للحصول على جودة المُنتَج رغم حصولي على بطاقة حِرَفيّة تخوّلني التزوّد به".

  • الصناعات اليدوية في سوريا .. فن يقاوم الاندثار
    الصناعات اليدوية في سوريا .. فن يقاوم الاندثار

تختصّ أماكن مُعيّنة بتصريف مُنتجات الصناعات اليدوية والتي تعدّ مقصداً للزبائن الراغبين بإضافة تحف فنية إلى منازلهم. 

وتتزايد وتيرة الإقبال على هذا النوع من المُنتجات مؤخّراً كما يقول علي بلول الذي يعمل في المحل الذي أنشأه والده قبل 40 عاماً، وتخصَّص فيه ببيع مُنتجات القَصَب والفخّار. 

ويُضيف إن "هذه الأرض مِعطاءة ولا يجوع مَن يثق بها. إنها مِهَنٌ مُربِحةٌ لتوفّر أدواتها في بلادنا، ولا تحتاج من العامل بها إلا أن يشغّل عقله وفكره ويجتهد بعمله"، وبحسب بلول فإن "هذه المِهَن اليدوية محدودة بعائلاتٍ مُعيّنةٍ ضمن الساحل السوري لأن أغلب الناس تستصعبها وتعتبرها غير نافِعة، على عكس العائلات التي تعمل بها، فهي بالنسبة إليهم مصدر عَيْش وأصبحت جزءاً مهماً من حياتهم ومهنتهم الوحيدة".