"الكتّاب التشكيليون".. الذهاب أبعد من النصّ

لا يكتفون بالكتابة ويلجأون إلى الفن التشكيلي كلغة موازية.. تعالوا لنتعرف إلى التجارب التشكيلية لعبد الرحمن منيف وأدونيس ونزيه أبو عفش ومنذر المصري.  

  • عبد الرحمن منيف
    عبد الرحمن منيف

لا يكتفي العديد من الأدباء والشعراء بكتاباتهم في الرواية والشعر والمقال والنقد، بل يلجأون إلى التشكيل كلغةٍ موازيةٍ تُعزِّز اشتغالاتهم الإبداعية في ساحة مُغايرة بأدواتها. ما يُتيح لهم الذهاب أبعد من النصّ، والغَوْص أعمق في الشَّكل واللون والخطوط والتكوين والإيقاع والشفافيات، ضمن توليفات أكثر حسّيّة، ورُبَّما ذات حساسية أكبر في التقاط وجيب الروح المُفكِّرة.

وعلى اختلاف الإمكانيات التشكيلية لأولئك الكُتَّاب إلا أنه ليس من الهَيِّن الفصل بين نِتاجهم في كلا المجالين الإبداعيين، وكأن هناك "توأمة فنية" بين ما يسكبه القلم وبين ما تُفصِح عنه الريشة، بحيث تبقى الذات المُبدِْعة على مسافة واحدة من أُبُوَّتِها للمُنتج الفني، على اختلاف أدواتها ووسائل التعبير في مساحاته الشاسِعة.

إذ يصعب على المُتابع الجَزْم هل "في البدء كانت الكلمة" أم "في البدء كانت الصورة"؟، لا سيما مع تجارب حملت في مضامينها الكثير من الجدل، كلمةً وتصويراً، لخصوصيّتها وقُدرة مُبدعيها على الفرادة وعدم الامتثال للسائِد.

في هذا التحقيق سنتناول أربعة من "الكتَّاب التشكيليين" هم: نزيه أبو عفش، منذر المصري، أدونيس، والراحل عبد الرحمن منيف.  

ردّ الاعتبار للكلمة

  • من سكيتشات عبد الرحمن منيف
    من سكيتشات عبد الرحمن منيف
  • من سكيتشات عبد الرحمن منيف
    من سكيتشات عبد الرحمن منيف
  • من سكيتشات عبد الرحمن منيف
    من سكيتشات عبد الرحمن منيف

يقول عبد الرحمن منيف في كتابه "أدب الصداقة" الذي ضمّ رسائل مُتبادَلة بينه وبين الفنان التشكيلي مروان قصاب باشي: "أعتقد أن الفنان الذي يتعامل بوسائل أخرى غير الكلمات أكثر حرية، وأكثر بؤساً، لأنه يتعامل مع المادة الأولى للحياة، مع اللون أو الكتلة، ولذلك لديه الحق في أن يُعيد تشكيل العالم كما يريد، من دون مثال سابق ومن دون قيود يفرضها الآخرون، إذا استطاع ووصل إلى ما يرضيه، ما يقنعه، فإنه عندئذٍ يكون قد حقّق نموذجاً غير مسبوق، أما البؤس الذي أعنيه فهو كيف يمكن أن يُقيم بين النموذج الذي خلقه والآخرين حواراً، أن يخلق صلة. وهذه المهمة، رغم صعوبتها، أسهل كما يبدو لي، من ردّ الاعتبار إلى الكلمات المُستهلكة والمُقبَّحة".

لعلّ اعتقاد منيف ذاك هو ما جعله يوائم بين عمله الروائي وبين رسم شخوصه، كما تثبت ذلك طبعة خاصة من روايته "سيرة مدينة.. عمّان في الأربعينات"، التي تضمّنت "سكيتشات" لمنيف عن بعض شخوص روايته، بحيث كان كمخرجٍ سينمائي أو مسرحي عندما يضع تصوّراته عن شخوصه تخطيطاً.

أما المُميَّز في تلك الرسوم التي جاءت بالحبر الأسود وبخطٍ سريعٍ واحدٍ غير مُنقطع، فكان عفويّتها وإظهارها ما أضمره السرد عن المكان وطبيعة الشخصيات، بحيث جاءت بمثابة سردٍ موازٍ أهم ما فيه أنه منفلت من ضوابط النصّ المكتوب.

كما أنه عاطفي ومباشر وغير مُنظّم، لأنه أقرب إلى لا وعي الكاتب، أو كما تقول الباحثة سونيار ميشار الأتاسي: "إن الرسوم في الطبعة الخاصة تشكّل رواية بحد ذاتها، ونقطة انطلاق لذكريات وقصص بقيت مُخبَّأة في النصّ، ولذلك لا يمكن اعتبار هذه الرسوم مُجرَّد "شخبطات" من غير معنى لكاتبٍ كبير، كونها بمثابة سكيتشات تجريبية تلتقط صورة عن الأشخاص والأماكن في عمّان كما تستحضرها الذاكرة بشكلٍ عفوي". 

ولعلّ هَوَس منيف بالفن هو ما جعله يُجرِّب في ميدان إبداعي آخر ليس بعيداً عن اهتمامه. إذ لطالما أضاء الكثير من الجوانب في لوحات مروان قصاب باشي ونذير نبعة وفاتح المدرس وجبر علوان... لم يلتفت إليها النقّاد التشكيليون، رغم أنه لم يدَّع مرةً أنه ناقد ولا فنان تشكيلي، لكنها بقيت بحثاً عن مكامِن جديدة للبَوْح، ومساحات أخرى يستطيع من خلالها الإضافة على ما يكتب.  

تُكمِل قصائدي

  • أدونيس
    أدونيس
  • من رقيمات أدونيس
    من رقيمات أدونيس

أدونيس أيضاً معروفٌ برُقَيْمَاتِه التي يجمع فيها الكلمات مع الأشكال والخطوط والمواد المختلفة، صانعاً من كل منها قصيدة بشكلٍ من الأشكال، تُفَرِّغ الكلمات من شحناتها القديمة وتُحمِّلها دلالات جديدة. كما أنها تُعطي قيمة للأشياء المهملة (أخشاب،حصى، أوراق مهملة، قطع قماش قديم، خيوط، قطع من الحديد الصدئ،...) التي لا يخطر على بال أحد استخدامها ضمن لوحة.

ورغم اختلاف العناصر المُستخدمة بين القصيدة والرّقيمة عند صاحب "الثابت والمتحوِّل"، إلا أن ثمة تكاملاً بينهما، يقول عنه أدونيس في حوارٍ قديمٍ أجراه معه شاكر نوري بعنوان "أدونيس.. لغتان في لغة واحدة": "هذا ما شجّعني باعتباره نوعاً من التكامل في الإبداع الكتابي والإبداع التشكيلي. واكتشفت بعد أن أمضيت في هذا المجال فترة من الزمن، أن قصيدتي في الأساس قائمة أيضاً على نوع من التشكيل، أي يلعب فيها التخطيط والهندسة والعناصر الآتية من خارج الكلام دوراً أساسياً. وهذا ما زاد من قناعتي أن عملي في الرقائم يكمل قصائدي، لا سيما أنني لا أميِّز بين الصورة والكلمة.. لأن الشعر موجود في كل الفنون، وإن كان الشعر نوعاً من الدخول إلى النفس، فالرُّقَيمة هي نوع من الخروج منها، ومن هنا يتكامل العالمان". 

وفي اشتغالات صاحب "ورّاق يبيع كتب النجوم" التشكيلية تبقى الصورة الفنية شريكة لهويّته الإبداعية، كأنها جزء منه، طبيعةً ومُخيلةً.

ولهذا تراه "يُهنْدِسُ" لوحاته على المسطرة، ويجعل من كلمات قصائد المُتنبي وأبو العلاء المعري وأبو تمام والنفري وغيرهم أُسُساً جمالية بحتة، يبني فوقها وروده وكولاجاته برهافة من يُثمِّن حتى التُّراب.

وهو يُزيل الصَّدأ في رُقيماته كما يفعل دائماً بلغته الشعرية، ويوازن باستمرار بين إنسيابية الخطّ ورقص اللون، وكأن هناك طبقات مُتعدِّدة في نقش العمل التشكيلي لدى أدونيس، ما يتيح لك قراءة اللوحة. كما أنه مُتمرِّس في جعلك تُشاهد القصيدة. 

رسَّام أيقونات

  • نزيه أبو عفش
    نزيه أبو عفش
  • من لوحات نزيه أبو عفش
    من لوحات نزيه أبو عفش
  • من لوحات نزيه أبو عفش
    من لوحات نزيه أبو عفش

نزيه أبو عفش شاعر في قصيدته ولوحته، وحساسيّته الوجودية هي ذاتها في اللون والكلمة، وإن كانت نصوصه مُفْعَمة بالألم، فإن لوحاته تُعيد خلق ذاك الألم بالحيوية ذاتها، والقُدرة على تعزيز الشاعرية في تكويناته ولو كانت مُجرَّد مجموعة أحجار. كما أنه يتلمَّس في كل ما يراه وجوهاً ينزُّ منها الوَجع، ومع ذلك يحافظ على بهائها ويلفحها بنوعٍ من القداسة، وكأنه لا يرى فيها إلا وجوه قدّيسين، وإن كانت حياته بمُجملها متمحورة حول شخصية المسيح الفادي، فإنه في اشتغالاته التشكيلية أقرب إلى رسَّام أيقونات، يُتقِن تقديس البشر واستنباط أكبر قَدٍر ممكن من إنسانيّتهم التي تظهر بشفافيّاتها المختلفة في لوحاته. حتى أن خطوطه تأتي أقرب إلى رَسْم هالات منها إلى تحديد ملامح، لكثرة اهتمامه بتواشيح النور وتفاسير الظلال. 

وكما ينشغل صاحب "الله قريب من قلبي" بتكثيف صورَه الشعرية ودلالات نصوصه، فإنه يختزل في لوحاته ما استطاع ليُبقي على روح الشكل ونورانيّته. ولذلك يُركِّز على الوجوه بتعبيريتها الفائِقة، وقُدرتها على تخزين المعنى، وتمثُّل الألم، لذا لا نستطيع أن نفصل بين ما يكتبه أبو عفش وبين ما يرسمه. ففي كلا الحالين هو ثاقب الرؤيا وفريد في روحانيةِ وصِدقِ ما يشتغل، مولَعٌ دائماً بتقشير طبقات الألم والظُلمة بغية الوصول إلى جوهر النور والسلام والسكينة، ولو كان ذلك بأَسْرِ البياض الناصِع داخل دائرة سوداء تشعّ بهاءً.

مسودّة دائمة

  • منذر مصري
    منذر مصري
  • من لوحات منذر مصري
    من لوحات منذر مصري
  • من لوحات منذر مصري
    من لوحات منذر مصري
  • من لوحات منذر مصري
    من لوحات منذر مصري

منذر مصري ميَّال بشدَّة إلى الغرابة، ويكره أن يشبه ذاته مرّتين. وإن كانت نتاجات نزيه أبو عفش الشعرية والتشكيلية تقع ضمن "دوائر متَّحدة المركز" كما في دراسة لنادين باخوس، فإن ما يشتغل عليه صاحب "الشاي ليس بطيئاً" هو دوائر بلا مركز واحد.

وبإمكاننا القول بأنها دوائر مُثَلَّثة، أو دوائر مُربَّعة، فهو دؤوب في بحثه عن التَّجدُّد والمُغايرة، وإزاحة اللغة والشَّكل إلى فسحات مواربة، وغير مُستقرَّة، والعيش في تقلُّبات مستمرة. تماماً كما شَرَحَ ذلك في قصيدته "ثعلب بداخل مُشمُشَة": "كنت كل ثلاث ساعات أغيِّر أفكاري، وكل ثلاثة أيام أغيِّر طريقة تفكيري، وكل ثلاثة أشهر أو أقل أغيِّر عقلي".

مصري في رسوماته مُشابه لشعره، مُتبدِّل الاهتمامات، فإنْ رَسَمَ زجاجات خمر، نستلذُّ معه بألوانها وتشكيلاتها، وإن رسم عصافير نطير معه ومعها، وإن خطَّت ريشته أشجاراً نَحَارُ أيهما أجمل لنستظِلّ بها، أو وجوهاً فإننا نخشى من أنيابها ووحشيّتها، أي أن "منذر" قاسٍ بعذوبة، وعذبٌ بقسوة، وأجمل ما فيه أنه صادِقٌ وغزير لدرجة نؤمِن معها بمقولته "أحبك وأنا تراب".

وعند سؤال الميادين الثقافية عن كونه رسَّاماً وشاعراً أوضح: "مرّةً قال عني علي الجندي بأنني رسَّام ولست شاعراً. لكن في الحقيقة ما عَمِلْتُه في الشعر لم أصنعه في الرسم، إذ انحزت إلى الشعر بشكلٍ كلّيّ تقريباً، ومن حين إلى آخر أعود إلى الرسم. أعتقد أن مُقدَّراتي بالرسم أكبر منها في الشعر، إذ تأسّست كرسَّام واشتغلت بالرسم، وأقمت معارض في دمشق وحمص وحلب كرسَّامٍ جيّد. لكن مشروعي في الرسم مُفتَّت كثيراً، رغم أن كثيرين يصدِّقون موهبتي التشكيلية وهم أساتذة مثل يوسف عبدلكي، مصطفى علي، ونزار صابور، وغيرهم. أنا ميَّال إلى الرسم أكثر، لكنني بالمقابل كتبت الكثير من الشعر".

ويضيف مصري: "كشاعرٍ أرسم بشكلٍ مختلف عن رسَّام لا علاقة بالشعر. ولأوضِّح أكثر، مثلاً في لوحات نزيه أبو عفش هناك شعر كثير، أما أنا فمن الصعب أن تجد ضمن رسوماتي شاعرية، لأنك في كثير من الأحيان صعبٌ أن تجدها أيضاً أو ضمن شعري. الشاعرية في رسوماتي مُلغاة بالمُطلَق، رسمي قاسٍ، لأنني رسَّام خَطّ، ورسَّامو الخط تغلب عليهم القسوة دائماً، غير رسَّامي الألوان". 

وعندما نُشاكسه بالسؤال: "إلى متى ستبقى إشكالياً؟" يُجيبنا صاحب "مزهرية على هيئة قبضة يد": "لا تستطيع أن تستمر إلا إذا كنتَ مسودَّة أو بروفا. كل ما هو ناجِز وثابِت ومُكرّس لا شيء بعده. مثلاً كتابي "تجارب ناقصة" هو عمل بدئي لشاعر في بدايته. أشعر أن مثل هذا الشيء يدفعني إلى الأمام، دائماً أريد لنفسي أن أكون مسوَّدة، وأن يتكوَّن إشكال حول شعري، وأريد للناس أن يقولوا إن هذا ليس شعراً، أشعر حينها بانتعاشٍ وأن الأمور ما زالت بخير، وذلك من أجلي وبغية متابعتي لشعري، وفي الرسم أسعى أيضاً لأن أبدأ باستمرار كي لا أنتهي".