بين "الباستيل" و "الجمهورية".. هويَّة فرنسا على المحكّ

غداة تسلُّم ماكرون مقاليد السلطة، استيقظ الفرنسيون على برنامجٍ اقتصادي – مالي يُجرِّدهم من معظم المُكتسبات التي حصلوا عليها بالنضال اليومي في الشارع.

  • بين
    بين "الباستيل" و "الجمهورية".. هويَّة فرنسا على المحكّ

بين ساحتيّ الجمهورية والباستيل في باريس رابطٌ من التضحيات والآلام يُذكِّر كيف هزم الفرنسيون الاستبداد المَلَكي في ثورتهم الشهيرة عام 1789. المعارك العاصِفة والكفاح المرير عبر عقود أنجزا باقةً من الحقوق المدنية والسياسية والإنسانية كرَّسها الدستور، وتحوَّلت إلى تقاليد راسِخة يتغنَّى بها الفرنسيون. 

كل هذا التُراث بات على كفّ عفريت. قد يكون المَلِك المقطوع الرأس لويس الرابع عشر يضحك في سرّه الآن! ها هي الدماء والأجساد المطحونة بالهراوات تعود لتغطّي ساحة سجن الباستيل الذي اقتلعه الثوَّار ذات يوم وهدموه فوق استبداد المَلَكية. وها هي القوانين الجائِرة والقيود توقّع في قصر الأليزيه بدلاً من قصر فرساي. تغيَّر الحاكِم وتغيَّر الشعب، لكن التاريخ يُكرِّر نفسه، ويُطلّ عهدٌ يشي بالظلم ولكن بربطةِ عنقٍ أنيقةٍ في ياقة إيمانويل ماكرون وليس بلآلئ ماري أنطوانيت. 

مع تفاوت الظروف والمعايير والأفكار وموازين القوى، هل ثمة تشابُه بين القرن الثامن عشر والقرن الواحد والعشرين؟ في الأول فجَّر الجوع إلى الخبز والتَوْق إلى الحرية ثورةً عارِمةً قادت المَلك وأركانه إلى المقصلة. في الثاني يُضاف العطش والخوف على الحرية إلى عهد رئيس يوصَف بأنه حامي الأوليغارشية وكبار الأثرياء على حساب الطبقة العاملة والموظَّفين. 

كثيرة هي الملفات المُلْتَهِبة في فرنسا الجمهورية الخامسة. بات السؤال: هل تصمد الجمهورية الخامسة في وجه العاصفة التي تتوسَّع أفقياً وعامودياً؟ الجواب غامِض بالتأكيد، لكن الأكيد أن هناك ما يتغيَّر عميقاً في المجتمع الفرنسي. الفرنسيون غاضبون وميَّالون إلى الإحساس بأنهم مُهمَّشون ومُسْتَبْعَدون. الانقسامات خرجت من القواعد إلى الهياكل المؤسّسة للدولة الفرنسية. تساؤلات الفلاسفة عن مصير الجمهورية تملأ الصحف والمُنتديات. المُثقّفون منقسمون على الهوية والدور. الصراع بين الأكاديميين وأساتذة الجامعات يطال مفهوم الدولة وقِيَم الجمهورية. 

غداة تسلُّم ماكرون مقاليد السلطة، استيقظ الفرنسيون على برنامجٍ اقتصادي – مالي يُجرِّدهم من معظم المُكتسبات التي حصلوا عليها بالنضال اليومي في الشارع. وبينما كانت حركة السترات الصفر المطلبية تقود الغضب في الشوارع وتتحدَّى السلطة، حلّ الوباء في فرنسا وكشف المستور من تعفُّن مؤسَّسات الدولة ولا سيما في القطاع الصحّي. مات فرنسيون في المستشفيات ودور الرعاية للمُسنّين، ولم يستطيعوا الحصول على أقل وسائل الحماية. 

انكشف النظام ومؤسَّساته على عُري مُخيف وفوضى عارِمة، تقاطُعاً مع فشلٍ مُتوقَّعٍ في مُكافحة الإرهاب ومصادره وأسبابه، فيما كانت الإدارة الغامِضة للتوازنات في المجتمع، تتسبَّب بتصدُّع علاقة الفرنسيين ولا سيما المسلمين الفرنسيين بالدولة والمُقارَبات المُغامِرة للحكومة في تسوية اختلال ميزان العدالة والمواطنة بين الفرنسيين. 

هكذا تقف فرنسا - الدولة أمام سؤال جدّي يتعلّق بمُستقبلها وهويّتها، وبما إذا كانت الخضَّات العنيفة التي تحصل ستفرض تصحيحاً للمسار لاستعادة الاستقرار والقِيَم الجمهورية، أمْ أن عهد ماكرون سيواصل نهج الصِدام مع تطلّعات وآمال جزءٍ كبيرٍ من الفرنسيين؟