ما جدوى الكتابة الأدبية في زمن الخراب؟

ما جدوى الكتابة الأدبية في أزمنة الخراب؟ طرحت الميادين الثقافية هذا السؤال على شعراء وكُتّاب من دول عربية.. وهذه كانت أجوبتهم.

  • ما جدوى الكتابة الأدبية في زمن الخراب؟
    ما جدوى الكتابة الأدبية في زمن الخراب؟ (J. L. Manuel)

"يضع حَجَراً فوق الآخر/ إنه لا يبني بيتاً/ كلمات/ كلمات مُنفرِدة/ ليست قصيدة"، هي القصيدة رقم 24 من مجموعة يانيس ريتسوس الشعرية الأخيرة قبل رحيله. إنه يكتب ولا يدري إذا كانت كلماته ستؤلِّف قصيدة أو ستبني بيتاً أو سيكون لها أثر. يريد فقط أن يُخرج الأسى الذي في داخله من الأشياء والحياة والوجود.

وفي وقتٍ فَقَدَ الوقت معناه، وتكاثر الشعور بالعدمية واللاجدوى نجد كتَّاباً يكتبون من دون أن يعرفوا لماذا يواصلون فعل ذلك؟ قد يكون فعلاً مُرتبطاً بحمولة الحياة الزائِدة في ذواتهم، وقد يقفون بمواجهة الموت، موت الأدب، ويواجهون الخيبات والتضييق والشِللية التي حرمت الأدب معناه. 

أمام كل الوقائع التي نحياها يطرح بعضنا سؤالاً قد لا يبدو جديداً، لكنه دائم الحضور في ظلّ الأزمات الكُبرى التي تختبر البشرية فظاعاتها. السؤال يقول: ما جدوى الكتابة الأدبية في أزمنة الخراب؟ هل ما زال الأدب قادِراً ومؤثّراً في التغيير كما في السابق؟ 

هذه الأسئلة وسواها نطرحها على أنفسنا دائماً، ومن المكان الذي لم يعد فيه مَن يحتفي حقيقةً بالإبداع، فطرحناها في الميادين الثقافية على عددٍ من الشعراء والكُتَّاب العرب، وكان لكلّ منهم رؤيته عن جدوى الكتابة وما تبقَّى من دورها. وهذه كانت أجوبتهم.

خالد المعالي

  • ما جدوى الكتابة الأدبية في زمن الخراب؟
    ما جدوى الكتابة الأدبية في زمن الخراب؟

يُخبرنا الشاعر والناشِر العراقي خالد المعالي عن الكتابة بوصفها فعل شخصي بَحْت قائلاً: "الكتابة بالنسبة إلى الكاتب لا علاقة لها بالتأثير الحاصل الذي يحصل الآن البارحة أو الآن أو غداً، الكتابة بالنسبة إلى الكاتب شيء مصيري وشخصي تماماً. الكاتب لا ينتظر أن يرى آثار كتاباته على القُرَّاء أو في المجتمع إنه يؤدّي رسالته ككاتبٍ لا أكثر.. نكتب الشعر لأننا نعتقد أن هذه هي الطريقة الوحيدة للتعبير عمّا هو شخصي وعمّا نريد أن نقوله الآن. عما نريد أن نُغنّيه، أن نتركه كوصيّةٍ، كتلك الرسالة في القنينة المُغْلَقة التي يتركها البحَّار حينما تضيق به السُبُل ويشعر أنه مواجه الموت لا محالة". 

وعن دور الكاتِب الذي كان له أثر في المجتمع سابقاً يُضيف المعالي: "أما المشاركة في التغيير فهي أمر متروك لكل كاتب، طريقة مُشاركته في التغيير أو عدم المُشاركة، فليس كل مَن ادَّعى المُشاركة قد شارك فعلاً وليس كل مَن فعل العكس لم يشارك. النصّ الأدبي الذي ولِدَ البارحة أو الذي يولَد الآن أو الذي سيولَد غداً هو نصّ مُعبِّر عمّا حدث أو عما سيحدث أو عمّا كان، وبالتالي لا يمكننا أبداً أن نُقيِّد هذه المُشاركة ونقول عليه كذا وكذا، هذه أشياء افتراضية. لكل مُثقَّف أو كاتِب طريقته في التعبير أو المُشاركة كل هذه الأشياء ضرورية وعلينا أن نتقبَّلها هناك مَن يبحث عن المشاركة حتى لو كانت بأكثر طُرقها السطحية وهناك مَن يبحث عن العُمق. علينا ألا ننسى أن الدكاكين الصحفية التي افْتُتِحت وهي لا علاقة لها بمهنة الصحافة كما هي مفهومة بشكلٍ عام، هناك دكاكين افْتُتِحَت هنا وهناك وحتى المنفى العربي في أوروبا قد تمّ تزويره بافتتاح دكاكين مُشابِهة للدكاكين الموجودة هنا أو هناك بحيث لا نشعر بأن المُثقَّف قد نجا من فكرة الاستيعاب السُلطوي لصوته". 

أسعد الجبوري

  • ما جدوى الكتابة الأدبية في زمن الخراب؟
    ما جدوى الكتابة الأدبية في زمن الخراب؟

ومن العراق أيضاً يُفكِّك الروائي والشاعر أسعد الجبوري الحكاية الأدبية العربية اليوم: "يمكن تحويل الشعر إلى طاقة، بمعزل عن تحرير أدوات اللغة، وجعلها أكثر قابلية لتصفية خصوم المُخيّلة. كل ذلك لا يحدث قبل رَدْع التشابُه والاستنساخ وعمليات التحايُل على النصوص الأمّ. فالشعرُ ليس سريراً للنوم، بل هو مجالٌ مغناطيسي لتكوين العلاقات ما بين مُغْرَمي اللعب بكُرات النصوص. كذلك الرواية، فهي لا تعني تراكُم معارِف وتزايُد خبرات في التخيّل، بقَدْر ما على الروائي أن يكون "مكنسيان" يمتلك مجموعة آلات تستطيع التحكّم بتفكيك براغي الأمراض الجوانيّة المُستعصية للوجود البشري. وإذا كانت الكتابة نوعاً من الشَغَف أو الاحتراق الوجداني في أغلب تجلّيات العمل الأدبي، فإنها اليوم لم تعثُرعلى ما يمكن أن تحفر أفكارها عليه، لا وَرَقاً ولا جلوداً ولا صخوراً كما كانت العادة في العصر المسماري. كتابات الساعة الراهِنة مسامير تكاد تُدَقّ بالفراغ، وليس لها من الأصوات إلا ما يؤتمن على ذلك الصوت الذي تنطق به النملة، عِلماً أن الأخيرة تنتظم في طوابير عمل لبناء حياة، مثلما تعتمد أسلوباً أمنياً للحفاظ على ما تؤلِّفه في بيوتها تحت الأرض أو فوق التُراب".

ويُضيف الجبوري: "في كل كتابةٍ خيط دم سواء أكان رفيعاً أمْ سميكاً، ولكنه في كل الأحوال يحمل جينات فكرية أو شعرية أو أدبية فنية أو فلسفية، تجتمعُ فيها الناس وتتفرَّق. تتحابَب أو تتقاتل. تتساكَن أو تتباعَد. فما من لغةٍ إلا ولها شعوب برقميات لتوثيق بنيات المشاعر والأحداث والطقوس والمراثي والعادات والفنون والجِراح واللاهوتيات والغرام، مثلما ما من شعوبٍ إلا ولها لغات تتعاظم فيها الآمال والهواجِس والنظريات والابتكارات والأحلام والمعارِف والآلام والأغاني والخُرافات وأهل الجنّ والجنون. من هنا، فإن حوامِل اللغات من البشر- كتابةً وقراءةً - هم الحقول الخصبة لتفاعُلات النصوص، بهم ترفع المؤلَّفاتُ رؤوسها لتتفاعل مع الهواء الطَلْق، فتكتسب الطاقات لتُعطي القُرَّاء الأوكسجين، أو تُصاب اللغةُ تلك بالضمور والانكماش، فتتصحَّر ولا تمنح الآخر غير الريح والرمال وسِلال المُهْملات". 

ويُكْمِل الجبوري: "راهناً، لم تعد الأسئلة النارية أو الحادَّة عن جدوى الآداب والفنون في حياة العامة، تُثير الصَخَب والاهتمام،لا في خلايا الصحافة والإعلام، ولا عند أغلب البشر ممَّن سممَّت الحروب دماءهم أو أفنتْ الأوبئةُ لحومَهم مُضافاً إليها ثعابين الفاقة وذئاب العَوَز وسياط طُغيان السلطات ولا مُبالاتها بطبقات الشعوب التي أصبحت طبقتين: ذهبية وطينية بعد اختفاء الطبقة اللبنية الوسطى. ظروف المجتمعات العربية الآن، جعلت المُفاضلة ما بين مائدتي الأدب والطعام أمراً أوّلياً وحاسِماً إلى حدٍّ ما. مُفاضلة موجِعة وحسَّاسة ما بين أشكال الحروف وحبَّات القمح، وقَدَّمت بالتالي الرغيف على الكتاب كمسألةٍ مفروغٍ منها على صُعُد يوميات تستمد طاقتها من القمح والشمس أولاً ومن الطحين والماء ثانياً ومن الخبزوالهواء قبل أيّ شيء آخر".

ولا ينسى أسعد الجبوري أن يحكي عن الجوائز التي أضعفت الرواية بدل أن تُعزِّز من دورها "إن تفاقُم الأزمات الأدبية قد حصل قبل انهيار وجه الرغيف واحتراقه، وقبل فُقدان كبسولة الدواء وشراب الترياق. وحدث قبل انتشار الديدان في الدورة الدموية، كان على الشعر تحصين جوهره من التسوّس والاستسهال العَبَثي للكتابة الطارئة المجانيّة التي تأتي من دون تكلفة فكرية أو ذائِقة فنية أو هاجس يتعلّق بالنَبَض الحارّ للجماليات. كذلك الرواية، فهي لم تبلغ مرحلة تأمين الخلاص أو الراحة النفسية للمخلوقات في منازل العرب المُهدَّمة أو تلك التي بنصف سقف. الرواية التي صَغُرَت وتصاغَرت أمام الكوارث والحروب حتى أصبحت أمامها حركات الصليب الأحمر وقوات الطوارئ، أكثر أهميَّة من أية نشاطات أدبية يقوم بها الكُتَّابُ والمؤلِّفون من خلال مؤسَّسات ثقافية باهتة واتحادات فارِغة بطابعٍ سياسي مُغبَّر وأيديولوجي مُثلَّج. كان على الرواية أن تنتشل كُتَّابها ومؤلِّفيها من براثن الجوائز الأدبية المُغرية التي جعلت الغالبية العُظمى من الروائيين العرب حريصين على الكتابة بعقلٍ رقمي مُبَرْمَج حسب الطلب المُقتضى من أنظمة بُلدان تلك الجوائز التي تُثير اللُعاب، وتقمع منسوب الحريات غير المُلزمة التي عادة ما تتنافى ورغبات لجان القرار والتحكيم الخليجية بشكلٍ عام. لقد أخذ الدمُ مكان الحبر الآن. مثلما أصبح الرغيف بديلاً عن الورق على صفحات هذا الجحيم الأرضي في حديقتنا الجوراسية". 

مصطفى البلكي

  • ما جدوى الكتابة الأدبية في زمن الخراب؟
    ما جدوى الكتابة الأدبية في زمن الخراب؟

تتوافق وجهة نظر الكاتب المصري مصطفى البلكي مع أسعد الجبوري في قراءة المشهد الجوائزي العربي وهو يُنقِّب داخل لحظة الكتابة التي تختلف من كاتبٍ إلى آخر: "لماذا أكتب؟ سؤال تتعدَّد إجاباته، وبالنسبة لي هي شُرفة يطلّ منها الروائي ليطلب خلاصه، والخلاص هنا، قد يكون من خلال صناعة السعادة لنفسه أولاً، فحينما ينعزل المُبْدِع، يحذف ما حوله، ويُغْرِق نفسه في عالمٍ يوجده أو عالمٍ اختاره ليكتبه. وفي زمن الوَجع، يصبح على الروائي مهّمة خَلْق ما يناسبه، ولا تكون الرواية التي يُقدِّمها ناجحة إلا من خلال طريقته، أي لا يهمّ نقل ما يدور، بل نقل كيف حدث ما حدث، من خلال خَلْق حياة تُخالف الواقع في صورته، وبناء عالِم ثالث نِتاج تزاوج عالم الخيال وعالم الواقع. لحظة كَسْر الخط الفاصل هي ذاتها لحظة إدراك المُبْدِع بأن اللحظة هي لحظة الولادة، وكما قال أمبرتو إيكو"على المُبْدِع واجب اختراع أكاذيب جيّدة"، هم لا يفعلون شيئاً يُخالِف مَن تسبَّب في وجود ما نعيشه، لكنهم أصدق في نيَّة إعادة تشكيل الواقع في صورةٍ يحلمون بها، ورغم تلك الصورة التي أراها، أو التي ترسِّخ لنفسها، إلا أن الروائيين الآن في مرحلة هجرة إلى الماضي، سنجد أن الجميع، أو معظمهم، هاجر إلى الخلف، ليس طمعاً في النظر في التاريخ ومعرفة العِبرة وقراءة الحاضر من خلاله، بل لأنه أصبح المُفتاح السحري لأغلب الجوائز، فالنهايات غالباً معروفة، والنهايات المُستقيمة لا تُتْعِب الكاتب ولا القارئ، لكنها قد تكون غريبة لأنها جاءت طبقاً لقواعد وقتها".

ويشعر البلكي بالأسى لأنه يُقيم في هذا الزمن حيث لا تقدير للعمل الأدبي ولا معنى للقضايا الكُبرى: "كلما عدت إلى الوراء أجدني أحسد الروَّاد، لقد وجدوا في زمن الصراعات والكفاح والبحث عن هويةٍ ثقافيةٍ تحميهم، حياة أخرى، كانت سنداً لهم وهم ينهلون من ثقافات الشعوب التي سبقتنا، هم أوجدوا القضايا، فحصلوا على سَبْقِ أفضلية نشر النور، أعطوا للحياة قيمة، تلك القيمة وجدناها ولم نشارك في تكوينها، وهذه القيمة أظنّ أنها هي التي يبحث عنها كل مُبْدِع في زمنٍ لم يعد للقضايا الكُبرى أيّ وجود في الكتابات، سواء في حياة الفريق الذي هاجر إلى الماضي، أو في حياة مَن هاجر إلى الداخل، وعكف على نفسه، يُعيد تدوير ما فيها، وما يستطيع أن يطوِّعه ليكتب حكاياتٍ مليئةٍ بالتشويق، وينسى أنه لكي يوجِد الجديد عليه أن يفهم المُعطيات التي أوجدت الواقع الذي ينتمي إليه".

وينتهي مصطفى البلكي مُتفائلاً: "ستظلّ الكلمة السلاح الأقوى القادِر على تغيير العقول، وزَرْع المفاهيم، وفي هذا الزمان، تتزايد نسبة القراءة، ربما في مجالات بعينها كروايات الرُعب، لدى شرائح بعينها، وهي قفزةٌ إلى الأمام، يجب أن يتمَّ البناء عليها من خلال التعامُل مع الكتاب من باب أنه جزء مهم في تنمية الإنسان".

لسعد بن حسين 

  • ما جدوى الكتابة الأدبية في زمن الخراب؟
    ما جدوى الكتابة الأدبية في زمن الخراب؟

من جهته يرى التونسي لسعد بن حسين أن سنة 2020 ستبقى علامة فارِقة في التاريخ الإنساني، وخاصة في التاريخ العربي الحديث، "إلى جانب جائِحة كورونا التي بثَّت الرُعب في القلوب وحكمت على الناس بلزوم بيوتهم والحَذَر من الاختلاط، وأخذت ما أخذت من الأحباب والأصحاب، شهدت البلاد العربية تدهوراً على جميع المُستويات، فسياسياً عمَّ التطرّف والإرهاب واللّهث وراء التطبيع مع الكيان الصهيوني، أما اجتماعياً، فالعرب يعيشون أسوأ مرحلة في تاريخهم من تفشٍ للأمراض والجوع وهروب من الأوطان (العرب رُحَّل العصر الحديث) وارتفاع منسوب الجريمة. أما اقتصادياً فقد تحوَّلت السلطات العربية إلى كائناتٍ مُتسوِّلةٍ لا تقدر على تسيير شؤونها من دون اللجوء الى مُساعدات دول غربية أو مؤسَّسات نقدية عالمية. إنه الخراب الشامل، وإذا أضفنا اليه التدهور الذي نشهده في مجال القِيَم والمبادئ (إذا حلَّ البلاء زال الحياء)، فإننا لا يمكن إلا أن نكون مُتشائمين من المستقبل وعلى جميع الأصعدة، بما فيها الثقافي والأدبي".

ويتابع بن حسين بكثيرٍ من الحُزن: "نسبة طاغية من الشعوب العربية لا تمتلك ثمن تأمين قوت يومها فكيف نُطالبها بشراء الكُتُب أو المُنتجات الإبداعية؟ وحكومات فضح كورونا هشاشة نظامها الصحّي وتردّي مؤسَّساتها التربوية هل ستُفكِّر في الفنون والآداب؟". 

ورغم أن المشهد العام "حالِك الظلام" برأي بن حسين إلا أنه يعتقد أن تبقى للمُبْدعين مساحة للأمل، حتى وإنْ كان مُجرَّد حُلم، "فالحروب السابقة والكوارث الطبيعية والأوبئة والأزمات الاقتصادية لم تمنع المُبْدعين من إنتاج أعمال أدبية وفنية خالِدة إلى اليوم. الفرق البسيط الذي قد يتغيَّر في عصرنا الحديث أنه أمام الفورة الرقمية وتنامي سُلطة الصورة ستسعى الفنون بمختلف مشاربها إلى استغلال هذه الوسيلة الجديدة للترويج لمضامينها، وما يُنْشَر اليوم في الأنترنت وشاشات التلفزيونات والحواسيب والألواح الإلكترونية في حاجةٍ إلى كُتَّاب ومُصمِّمين ورسَّامين وموسيقيين وغيرهم من مُبدعي الجمال". 

ويؤكِّد لسعد بن حسين أن الفنون والآداب تتأثَّر بالواقع وقد تَضْمُر أو يَخْفُت بريقها ولكنها أبداً لن تموت، "لن تموت لأنها تبقى القلعة الأخيرة للدفاع عن القِيَم الإنسانية النبيلة القلعة الأخيرة لبثّ الجمال في فضاءٍ يتصحَّر، القلعة الوحيدة لبثّ الحبّ زمن الكراهية، ولبعث الأمل زمن اليأس ولترميم المعنويات زمن الإحباط. المُبْدِع حيثما وجِدَ ومهما كان عرقه أو جنسه لا يمكن أن يتوقَّف عن الحُلم، وعن الإبداع، لأنه ببساطةٍ لا يمكن أن يكون انتحارياً ويتخلَّى عن حياته، لأن الفن حياته، ولأن الفن هو مانِح الأمل للآخرين للإنسانية في لحظات بؤسِها ويأسِها في لحظات شكِّها وحُزنها".. 

 سرجون كرم 

  • ما جدوى الكتابة الأدبية في زمن الخراب؟
    ما جدوى الكتابة الأدبية في زمن الخراب؟

"لقد وصل العالم العربيّ، بالنسبة لي، في خرابه بيديه هو وتآمُره على شعوبه وعلى ذاته والذات الحضاريّة بشكلٍ حصريّ إلى محطّةٍ أضحى من المُستحيل بعدها استشراف أيّة نقطة تحوّل لديه تنقله على الأقلّ إلى الحاضر، لا أقول المستقبل" يقول سرجون كرم ويُضيف: "لدرجةٍ أنّ المرء يطرح السؤال الخفيّ المُخْجِل على نفسه: ما الجدوى في الأساس من هذا العالم الذي يشيد بإنجازاته قبل ألف ومائتي عام على غرار الشعر المنحول ويُلقي بمسؤوليّة خرابه على الاستعمار وأعداء الأمَّة، ولا نرى منه سوى كيانات تفترس أبناءها وتخضعهم بسيف الدين والطائفة والتقاليد". 

ويرى كرم أنّ السؤال عن هذه الجدوى لا ينطبق على كتابة الشعر في زمن الخراب، "إن تأمّلنا النصوص الدينيّة والحكميّة والنصوص الإصلاحيّة الاجتماعيّة من زاويةٍ أدبية، نجد أن غالبيّتها نشأت في زمن الأزمات. فالأزمة تجعل الإنسان عموماً، والإنتاج الإبداعيّ خصوصاً، يُركِّز على الجوهريّ في الحياة. فكلّ صياغة أدبيّة وجماليّة من صورة وفكرة ولوحة ومعزوفة وحكمة شعريّة وحتى دينيّة شعريّة ما هي إلا نوع من رسالة من المستقبل تتحاور مع الخوف لتتخطَّاه وتحاول رَسْم العالم الجميل الذي تتصوّره علَّه يصبح حقيقة قائماً بذاته.  الكتابة فعلُ عَتْق وتحرّر وشفاء، فهي تُشْعرِك من خلال تشغيل مُحرِّكات الرؤيا والإنتاج عبر اللغة بينابيع القوَّة الكامِنة في كل إنسان واستشعار الطاقة الإيجابيّة والتعبير عنها لتبقى ذات استمراريّة في الحياة، وبالتالي التوصّل إلى استقرار هويّة الذات والمُحيط".

ويُثمِّن كرم دور الشاعر أو الكاتب التاريخي في التغيير في العالم العربيّ، "فبرأيي أنّ الأدب لم يكن في أيّ وقتٍ مضى المُسبِّب لحركات التغيير. ليس هناك في العالم حركة أو فكرة إصلاحيّة سياسيّة واجتماعيّة انبثقت من الأدب، بل على العكس. فالأدب هو دائماً الخطّ الأماميّ لحركات التغيير وأفكارها وتصوّراتها، وهو سيفها وقُربانها. فالشاعر كان دائماً الفارِس المُرافِق للآلهة ولأبطال الميثولوجيا في سلامهم وحروبهم. الكتابات الأدبيّة المُعاصِرة في العالم العربي تعيش أزمة اللاجدوى. بغضّ النظر عن لعنة مواقع التواصُل الاجتماعيّ التي أتاحت المجال لبروز "موضة الشاعر" ولإطلاق لقب "شعر" على كلّ نصٍّ لا يدخل أحيانًا تحت باب الخاطِرة، نلاحظ أنّ معظم ما يُكْتَب في الوقت الحالي من شعرٍ هو نِتاج لهذا الخراب، فأكثره نوع من الأنويّة المُفْرَطة الغارِقة في السوداويّة والارتباك الفكريّ وانسداد الأفق. ولكن هناك أيضاً شعر يؤمِن أصحابُه بأنّهم جزء من مشروعٍ إنسانيّ حضاري، ولكنّه ينتظر انطلاق عَجَلة فكرتهم اجتماعيّاً، وسياسيّاًَ بالمعنى الحضاري للكلمة، كي يستبسلوا شعرياً وفنيّاً في سبيلها. هذا النوع من الشعراء هم المُبْدِعون على سطح الخراب، ويتامى في الوقت نفسه وخصوصاً أنّ الحركات اليساريّة والقوميّة الإصلاحيّة، والتي تُعتبر خزّانَ الشعراء، اهترأت وفشلت وغرقت في مشاكلها لدرجةٍ أنّ الشاعر الذي يتّفق معها فكريّاً بات يخجل أن يكون ممثلاً لها أو مُسمّياً عليها. فالشاعر في العالم العربي الآن هو "عاموس" نبيّ العهد القديم كلّ ما لديه هو استشراف خراب أكثر على أمل أن تتحقَّق في النهاية قيامة يؤمِن بها". 

وديع سعادة

  • ما جدوى الكتابة الأدبية في زمن الخراب؟
    ما جدوى الكتابة الأدبية في زمن الخراب؟

أما الشاعر اللبناني وديع سعادة فيودِعُنا كلمات معدودة تطوف بين الألوان الرمادية لواقع الكتابة وبين الضوء: "ماذا تنفع الكلمات أمام هذه الجرَّافات الهائلة التي لا تترك وراءها غير دم ودمع؟! ولكن لا سلاح لدى الشُعراء والأُدباء غير الكلمات يحاولون بها وَقْف هذا الجَرْف، فهل يتخلُّون عن سلاحهم ويستسلمون؟ لا. الشعر والأدب عموماً هما حُلْم تغيير هذا العالم، وهذا الحُلم قد لا يكون سوى وَهْم. هو وَهْم، ولكن علينا أن نحتفظ بهذا الوَهْم، وإلا ماذا سيبقى لنا؟!".

 أيمن حسن
 

  • ما جدوى الكتابة الأدبية في زمن الخراب؟
    ما جدوى الكتابة الأدبية في زمن الخراب؟

يُعَنْوِن أيمن حسن حكايته عن الأمَّة التي لا تقرأ بــ "أنا هنا وهنا أنا" يقول فيها: "إنْ كانت للكتابة ومعها الترجمة جدوى، فما كنتُ كتبتُ ولا ترجمتُ. لا أحبّ الرّبح ولا الجدوى ولا الأموال. مع ذلك، لن أتحدَّث عن القراءة، فكما نعلم جميعاً، أمَّة اقرأ لا تقرأ، وحتى إنْ فعلتْ، فكلّ شيء يسير نحو الاعتراف بأنّ ليس لقراءتها جدوى، بمعنى أنّها لم ولن تفهم حتى وإنْ قرأت. نعم، هذا الكلام خطير وأنا شخصيّاً أعني ما أقول، حتى أنّي أكاد لا أكتب وأنا أكتب ما أكتب، ولا تراني أقرأ إن قرأت ما أكتب. "العالم العربيّ شطرنج وأحجار مُبَعْثرة"، كان يقول العزيز نزار قبّاني، ولكنّي لا أتذوَّق في كلماته غير حلاوة الشعر لا مرارة الخسارة، فلو كان العالم العربيّ حقّا شطرنجاً، لتمكّنتُ بنفسي من ربح المُباراة أو "الطُّرْحْ"، كما يقول الشّطرنجيّون. فإن كان قد لعب العرب دوراً هامّاً في تطوير لعبة الشّطرنج منذ سنين، فلا وجود لهم اليوم على السّاحة. للأسف، لا حضور ولا وجود "لنا" بالأحرى في هذا المجال جماعيّاً وفرديّاً، حضوريّاً وخياليّاً. نحن لم نعد من الهامشيّين، بل صرنا حقّاً غائبين. لسنا ضحايا ولا عَباقرة مُغيَّبين، نحن وحسب أعداء لذواتنا، فربّما حاول العالم تغييب ذكرى الوحيد ألفريد روبرت جيمس المشهور ب "بوبي" فيشر في مجال الشّطرنج، لكنّ عبقريّته ووحدانيّته وربّما توحّده جعلوا منه حالة جماعيّة، إنسانيّة ضارِبة في الإنسانيّة، لا حالة هامشيّة. هو واحد و"نحن" الملايين من الموتى الأحياء الذين لا قيمة ولا ذَكرى لهم إنْ اختفوا عن الوجود".

ويتساءل أيمن حسن "هل بعد ما كتبتُ للتوّ للكتابة في زمن الكورونا أو كما قال ’الأحمق الأعظم‘، رئيس المجلس، ’الكورونا‘، معنا اليوم أو بالأمس أو بالغد؟"، ويُضيف حسن: "لا، قَطْعاً. سيبقى جبران خالداً بكلماته "زاهداً في ما سيأْتي... ناسياً ما قد مضى"، كما سيبقى الآخرون خالدين بشتائمهم، أو بالأحرى بجهلهم. إذن، ليس لسؤال هولدرلين في عالمنا العربي صدى أو وَقْع ما. نحن غائبون وغيابنا فعل منّا، فنحن لا نقرأ ولا نكتب ولا ننشر، وإن كتبنا فلا نقرأ وإن نشرنا فلا نقرأ كذلك. غيابنا إذن بإمضائنا أو بالأحرى ببصماتنا". 

ويختم الكاتب التونسي "أنا أكتب وأقرأ وأُتَرْجِم لا كعربي، لأنّي عربيّ حتى النّخاع وأحبّ قول ذلك مُعتبراً عروبتي حالاً نفسيّة وجسديّة رائعة وشاذَّة في نفس الوقت، بل كفردٍ يعيش لحظات الإبداع اليوميّة كضحيّةٍ لنفسه قُبالة واقع لا يعترف به في الداخل وفي الخارج إلاّ لنَحْره أو دَحْضِه أو المُتاجرة أو المُساومة به. أنا أفعل ما أفعل كي أتنفَّس وأحيا وأبتسم وأضحك وأحبّ. الكتابة والقراءة والترجمة الهواء أو ربّما النبيذ الذي أتنشّق كي أحيا وألعب دوراً ما في هذه الحياة. وربّما كي أقول ضدّ مَن يريدون وضعي في حال ’كش مات: أنا هنا وهنا أنا‘".

"ساعدتني الكتابة على الاستمرار عندما لم تكن الحياة تقدِّم لي شيئًا، عندما كانت الحياة فيلم رُعب"، يقول تشارلز بوكوفسكي عن الكتابة، ويرى رولان بارت أن الكتابة فعل تاريخي، أما مُبْدِعونا فيكتبون لأنهم كلما أبعدتهم الحياة آلاف الأميال عن الكتابة شعروا أنهم باتوا أكثر اقتراباً منها، ولأننا في عالمٍ عربي يحتاج دوماً إلى مَن ينفخ روحاً حيث الأجساد الميتة، هناك تصير المآسي المجتمعيّة أموراً شخصية، وتتحوَّل الكتابة إلى وطنٍ من نوعٍ آخر، وطنٌ لا يؤلِم ولا يجرح.

أعلنت منظمة الصحة العالمية في 31 كانون الأول/ديسمبر 2019 تسجيل إصابات بمرض الالتهاب الرئوي (كورونا) في مدينة ووهان الصينية، ولاحقاً بدأ الفيروس باجتياح البلاد مع تسجيل حالات عدة في دول أخرى حول العالم.