العزلة.. أو رؤية جديدة للعالم

أن تكون وحيداً؟ أو أن تكون مع الآخرين ووحدك أحياناً؟ إليكم أبرز ثلاث روايات تشرح لنا معنى العزلة وأشكالها.

  • العزلة أو رؤية العالم (Theodore Major)
    العزلة أو رؤية العالم (Theodore Major)

ربما كان هذا العام هو عام العزلة بامتياز، ما جعلنا نهتمّ برؤيتها في الفنون والروايات التي تحدّثت عنها بطريقتها الخاصة. ففي ثلاث روايات صدرت ترجمتها في السنوات الأخيرة، هناك معالجة داخلية لسؤال ما هي العزلة وهل تؤثّر العوامل الخارجية والتحوّلات السياسية لمفهومها؟ إنها ليست فقط أن تكون وحيداً، بل ربما أن تكون مع الآخرين ووحدك أحياناً، حيث تختلف كلّياً عن الوحدة التي تعني الانعزال بشكل سلبي.

"حياة كاملة" لروبرت زيتالر

  • العزلة كرؤية العالم من زاوية أخرى في ثلاث روايات
    العزلة كرؤية العالم من زاوية أخرى في ثلاث روايات
  • العزلة كرؤية العالم من زاوية أخرى في ثلاث روايات
    العزلة كرؤية العالم من زاوية أخرى في ثلاث روايات

في رواية النمساوي روبرت زيتالر (1966) "حياة كاملة" التي صدرت عن "دار التنوير" وترجمتها إلى العربية ليندا حسين، يعطي الكاتب أهميّة كبيرة لحياة أندرياس إيجر التي تدور الرواية حوله، ويظهر بشكل كبير انطواؤه وتعلّقه بالطبيعة، وتمر مراحل حياته أمامنا كشريط طويل. 

لكن الحياة الحديثة ووصول آلات البناء التي دخلت إلى القرية وخرقت بهديرها الهدوء هناك، غيّرت من حياته جوهريّاً. فبدأ العمل في البناء، وتزوّج ماري. لكنّ الانهيار الجليدي وبعده الحرب التي سلبت منه زوجته وعمله، فخسر كل شيء وعاد إلى القرية ليعمل دليلاً سياحياً. ويمضي أيامه الأخيرة في منزله وحيداً مدركاً أن الطبيعة هزمته. 

النهاية التي وضعنا أمامها زيتالر، تجعلنا نسأل ذاك السّؤال البسيط والعادي، لماذا تجعلنا الطبيعة وحيدين؟ وهو سؤال لم يجيب عنه زيتالر إلا بحياة كاملة وهو يريد أن يلقي الضوء على مشاركة الطبيعة لهذه الوحدة وهذه العزلة وكونها شريكة أساسية لعزلتنا التي تحاول الحضارة أن تخدشها وتلوّثها والحرب تهدمها أيضاً.

كانت هذه هي العزلة

  • العزلة كرؤية العالم من زاوية أخرى في ثلاث روايات
    العزلة كرؤية العالم من زاوية أخرى في ثلاث روايات

أما الروائي الإسباني خوان خوسيه مياس (1946)، فيبدأ في روايته: كانت هذه هي العزلة، باقتباس لكافكا من روايته التحوّل: "هل كان يرغب حقيقة في تبديل غرفته المرفّهة المريحة والمكوّنة من أثاث متناسق بصحراء يستطيع من خلالها التحرّك في كل الاتجاهات من دون موانع وأن ينسى في الوقت نفسه، سريعاً وكليّة، ماضيه كإنسان؟".

وهذا يفسّر ما ستقوله الرواية في ما بعد، فهي تلقي أيضاً على شخصيّة محورية هي إلينا، وهي إمرأة في الثالثة والأربعين من عمرها ماتت أمّها حديثاً، وجاء ردّ فعلها بارداً حيث شعرت أن أمّها ماتت منذ زمن بعيد. 

بدأت إلينا تشكّ في زوجها فتقرّر التعاقد مع وكالة استخبارات سرية لتطّلع على كل تحرّكاته. بعد أيام تذهب عند بيت أمّها لتقسّم مع أخيها خوان ومرثيدس الميراث المتواضع التي تركته الأمّ وهناك تجد الشي السحري "مذكّرات الأمّ"، تلك الوريقات التي تساعدها على الإنسلاخ من شخصيّتها لترتدي شخصيّة أمّها. 

حاولت إلينا أن تتعرّف على شخصية أمّها عن طريق مذكّراتها، وعقدت معها علاقة تشابه. وأخذت إلينا القرار بكتابة مذكّراتها الشخصية، وتصبح هي الصوت الراوي، وهنا تبدأ بالإنسلاخ عن شخصيّتها، وتبدأ حياتها كإنسانة أخرى، فتّتصل بالمخبر ليبدأ بمراقبتها هي بدل زوجها.

هنا يبدو موضوع العزلة مثيراً للغاية، فقد سرد مياس أزمة البطلة الوجودية وهي العلاقة مع الأمّ والإنسلاخ عنها واكتشاف الذات من جديد. وحين قرّرت البطلة الهروب من الواقع لتكتب مذكّراتها كتبت: "إذن كانت هذه هي العزلة، أن تجدي نفسك فجأة في هذا العالم، كأنك جئت من كوكب آخر، من دون أن تعرفي لماذا طردوك منه". 

ورغم أن الروائي يسرد قصة بطلة واحدة، إلا أن أصوات الراوي تتعدّد، فتارة يتحدّث المؤلّف، وتارة البطلة وأحياناً الأمّ، وهذه إشارة إلى أن الآخر هو جزء من هذه العزلة التي لا يمكن أن تحدث من دون فهمنا للعلاقة مع الآخر وانفصالنا الذاتي عنه وهنا هو الأمّ والزوج.

عزلة صاخبة جداً

  • العزلة كرؤية العالم من زاوية أخرى في ثلاث روايات
    العزلة كرؤية العالم من زاوية أخرى في ثلاث روايات
  • العزلة كرؤية العالم من زاوية أخرى في ثلاث روايات
    العزلة كرؤية العالم من زاوية أخرى في ثلاث روايات

يمعن الكاتب التشيكي بوهوميل هرابال (1914 - 1997) في عزلة أخرى في روايته "عزلة صاخبة جداً" الصادرة ترجمتها عن "دار المتوسّط" لمنير عليمي. 

نشر هرابال هذه الرواية بنفسه، ولم تنشر رسمياً حتى العام 1989 بسبب رقابة الدولة البوليسية وقتها. تروي
"عزلة صاخبة جداً" قصة رجل عجوز أبله يعمل في إتلاف الكتب في براغ، يحفظ ويجمع أعداداً كبيرة من المخطوطات والكتب النادرة والمحظورة من خلال عمله. 

هي حكاية جامع للمعرفة ومهووس ينتصر على الدولة البوليسية، التي أرادت أن تنتصر على المعرفة. ينقل لنا العجوز هانتا انطباعاته عما يمرّ أمامه من المؤلّفات المتنوّعة، كما أن قبو منزله لا يختلف عن بيئة عمله، وأفق علاقاته محدود جداً فهو نادراً ما يتواصل مع الآخرين. 

يصوّر هرابال عزلة الإنسان الصاخبة مع الكتب والفلسفة وكيف تحوّلت الحياة السياسية والحديثة إلى آلة تسحق المعرفة والإنسان وتحوّله إلى إنسان منعزل.

ويركّز الروائي التشيكي على الهوامش الصغيرة في انتقاء مفرداته وتشبيهاته مستخدماً الكائنات المسحوقة في الكون مثل الجرذان والأوراق والرطوبة والعفن.

وهنا يضعنا هرابال أمام أسئلة: لماذا تسحق الإنسان وفرادته وتأمّلاته وعزلته؟ أليست هي آلة السياسة والقمع والسلطة؟ وإلى أيّ حد استطاع العجوز هانتا أن يواجه بعزلته هذا القمع؟ 

هذه الأسئلة وغيرها تعالجها هذه الروايات وروايات أخرى، ولكن لا بدّ من ذكر أن هناك كمّاً هائلاً من القصص والروايات والأفلام واللوحات التي تتأمّل العزلة، التي من دونها لا وجود لفن أو كتابة أو إبداع. أو كما قال الشاعر بورخيس في قصيدة عن العزلة: كم من عزلة في هذا الذهب/ قمر الليالي ليس القمر عينه/الذي شاهده آدم الأول/فقد ملأته قرون السهر الإنساني الطويلة/ بنحيب قديم. انظري فيه /فهو مرآتك. إنها إذن مرآة لرؤية العالم من زاوية أخرى وفهمه بالطريقة التي نفهم فيها أنفسنا.

 

أعلنت منظمة الصحة العالمية في 31 كانون الأول/ديسمبر 2019 تسجيل إصابات بمرض الالتهاب الرئوي (كورونا) في مدينة ووهان الصينية، ولاحقاً بدأ الفيروس باجتياح البلاد مع تسجيل حالات عدة في دول أخرى حول العالم.