بالشعر والرقص.. كيف ينتصر الفن على "الزهايمر"؟

من شاعر أردني فقد ذاكرته لكنه لم ينس قصائده، إلى مسنّة لم تغادر تفاصيل رقصة "بحيرة البجع" ذاكرتها.. كيف انتصرا وغيرهما على "الزهايمر"؟

  • لوحات للفنان وليام أوترمولين حاول فيها رسم نفسه بعد إصابته بمرض الزهايمر بدءاً من العام 1996
    لوحات للفنان وليام أوترمولين حاول فيها رسم نفسه بعد إصابته بمرض الزهايمر بدءاً من العام 1996

الممثّل الأميركي الحاصل على جائزة الأوسكار، جيرمي أيرونز، يقول إن لنا جميعاً آلات سفر عبر الزمن، منها ما يُعيدنا إلى الوراء وتلك يُسمّيها الذاكرة، ومنها ما يدفعنا إلى الأمام ويُسمّيها الأحلام. 

لكن الإنسان في شيخوخته لا يبقى له سوى السفر إلى الماضي، إلى ما حقّقه من أحلام أو ما طاله من خيبات، محاولاً استدعاء صورة حبيبته أو أبناءه، أو ربما صورة أمّه علّها تجد الطفل المُختبئ في داخله.

يبقى الإنسان متّكئاً على ذكرياته، حتى تهاجمه الشيخوخة مصحوبة بوحشٍ كاسرٍ إسمه "الزهايمر" فلا يبقي منه ماض أو مستقبل، ويصبح جسده بلا قوّة وعقله بلا ذاكرة. لكن بعض الكتّاب والفنانين أصابهم "الزهايمر"، فأثبتوا أن شيئاً وحيداً قادر على هزيمته، هو الموهبة الكامنة بداخلهم، أو ربما سر الفن الذي فتنهم في الصِغَر؛ فخبّأوا جزوته بعيداً حتى عن يد المرض الذي يعبث بأعمارهم وذكرياتهم.

شاعر أردني يفقد الذاكرة ويتذكّر قصائده

  • الشاعر الأردني غازي الجمل
    الشاعر الأردني غازي الجمل

مثلاً، الشاعر الأردني غازي الجمل، صاحب دواوين: "دمع اليراع" و"نفح الطّيب" و"قناديل العرش"، وغيرها.. تعرّض في أواخر حياته لحادثٍ أفقده الذاكرة، فأصبح ناسياً لكل شيء، إلا بعض أشعاره، وهو المعروف عنه ثوريّته ووضوح موقفه من القضايا العربية، ولاسيما قصيدته "قف شامخاً" والتي قيلت إبّان الاحتلال الأميركي للعراق.

في فيديو مُتداول على السوشال ميديا، ظهر غازي الجمل راقداً على سريره في إحدى المُستشفيات، حوله مجموعة من أصدقائه يذكّرونه ببعض أبيات قصيدته، بينما هو يكملها بعين شاردة حزينة على حال الوطن العربي.

في البداية قال أحد الجالسين لـ"الجمل": "سمّعنى أشي عندك"، لكنه ظلّ صامتاً للحظات، قبل أن يبدأ أحدهم بشطرة "قف شامخاً مثل المآذن.." ليتّمها الشاعر الأردني المولود في غزَّة عام 1950، قائلاً: "طولاً" ومضيفاً بباقي البيت الشعري "وابعث رصاصك وابلاً سجّيلاً"، وأكمل ببيتٍ آخر قائلاً: "مزّق به زُمَر الغُزاة أذقهم طعم المنون على يدي عزريلا"، فهلّل الجالسون فرحاً.

أيضا أمدّه آخر بأول بيت ليكمله:
"أحرق جثامين البُغاة ورجسها وأنثر على أشلائهم (بترولا)"، 
فليحرقوا كل النخيل بساحنا سنطلّ من فوق النخيل نخيلا
فليهدموا كل المآذن فوقنا نحن المآذن فاسمع التهليلا

توقّف بعدها الشاعر الأردني للحظات، لكنه فجأة تذكّر أحد أبياته، قائلاً: "نحن الذين إذا ولدنا بكرة كنّا على ظهر الخيول أصيلاً"، ورجع بظهره وردّده باكياً.

توفّى غازي الجمل في العام 2010، في إحدى مستشفيات مدينة الزرقاء الأردنية، وأرجعت أسرته سبب الوفاة لتشخيصٍ طبي خاطئ، وذلك بعدما ترك لنا مجموعة من الدواوين الشعرية المهمّة، لكن يبقى موقفه من فَقْدِ الذاكرة واحتفاظه بشعره مثيراً للتساؤل.

وبشأن ذلك قال الدكتور شاكر عبد الحميد، وزير الثقافة المصري الأسبق، في تصريحات لـ الميادين الثقافية، إن الذاكرة كلما ارتبطت بالصورة قاوَمت النسيان، ولما كان الشعر صورة وليس لغة؛ فهو يبقى عالقاً في الذاكرة بخلاف غيره من الفنون الإبداعية. 

وأضاف: "في الشعر أنت تريد أن تقول كلاماً غير المعتاد، ومن هنا تصبح اللغة أداة للتعبير عن الصورة، وحسب رأيي إن أكثر القصائد تأثيراً ما احتشدت بالصوَر، ومن ثم يبقى استدعاؤه من الذاكرة البصرية".

وأشار عبد الحميد إلى أن الأمر يتعلّق بنوع الذاكرة وزمنها، بمعنى إن كانت بصرية أم غير ذلك، وإن كانت قصيرة المدى أو طويلة المدى، وأيضاً "كلما كان الإبداع مرتبطاً بالذات؛ يبقى تذكّره أيسر عما يكون مرتبطاً بالآخرين".


راقصة قعيدة تتحدّى "الزهايمر" برقصتها

  • بالشعر والرقص.. كيف انتصر الفن على
    مارتا سي غونزاليس

في العام 1967 كانت راقصة البالية الإسبانية مارتا سي غونزاليس تشارك ضمن فرقة "باليه نيويورك" الرقص على المعزوفة الأسطورية "بحيرة البجع" للموسيقار الروسي تشايكوفسكي، وكانت حينها شابة رقيقة تمتلك القدرة على التحكّم في جسدها، تقف على أطراف أصابعها بينما تكاد تلمس السحاب بأصابعها وروحها الشفيفة، مرتدية ثياباً بيضاء وكأنها بجعة برية تقود سرباً حطّ على بحيرة، لكن بوجه أنثوي قادر على أن يأسر قلوب الصيّادين حتى لو كان منهم الأمير الشاب "سيجفرايد".

وحسب رواية "بحيرة البجع" اقترح "بينو" على صديقه الأمير الشاب أن يذهبا في رحلة صيد احتفالا بعيد مولده الـ 21، وعندما وصلا إلى البحيرة حطّ سرب من البجع البري، تقوده فتاة شديدة الجمال، وجهها أبيض مُحاط بريش، ومن ثم تبدو أنثى وبجعة في نفس الوقت، ولما رأته ارتعدت فطمأنها بأن وعدها ألا يصطادها، بل أنه أحبها وتمنّى لو بقيت معه.

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by Jennifer Garner (@jennifer.garner)

حكت الفتاة للأمير الشاب أن الساحر الشرّير فون روتبارت نجح في تحويلها إلى ملكة البجع، فبكت أمّها حزناً عليها حتى خلقت دموعها تلك البحيرة، وأن السحر لن ينفكّ حتى يحبّها شخصاً ويتزوّجها ولا يخونها أبداً، فوقعت الكلمات في قلب الأمير الشاب وقع السهام وأدرك أنه صيدها لا صائدها، وأنه أحبها ولن يفارقها أبداً، وسألها عن مكان الساحر الشرير، فتجسّد الساحر على الجانب الآخر من البحيرة مرتدياً قناع البومة، أمر "أوديت" بالعودة إليه، فمسك الأمير بقوسه وصوّب نحوه سهامه فنال منه؛ وعادت الفتاة إلى طبيعتها وانتهت رواية "بحيرة البجع" بانتصار الحب على السحر.

أدّت مارتا سي غونزاليس رقصة "بحيرة البجع" في ستينات القرن الماضي، فظلّت ذاكرتها محتفظة برقصتها على المسرح، بحركة يدها وخطواتها الخفيفة الساحرة، لكن شيئاً فشيئاً ومع تقدّم العُمر ثقلت خطوتها؛ فتوقّفت عن الرقص، بل وأصبحت قعيدة، بالكاد تحرّك عجلات الكرسي خطوات إلى الأمام أو إلى الخلف، كما أصابت الشيخوخة ما تبقّى من ذكرياتها، ولكن "غونزاليس" ربما تحايلت على مرضها؛ فخبّأت ما تعلّق بالفن في مكانٍ أبعد من يد الزهايمر.

توفّيت "غونزاليس" في العام 2019، وفي الذكرى الأولى لوفاتها، ظهرت ثانية وهي عجوز على كرسيّ متحرّك، في دار رعاية في مدينة فالنسيا في إسبانيا، في مقطع فيديو تداوله روّاد مواقع التواصل، والذي حقّق شهرة عالمية، حيث كان من بين مُتداوليه النجمة جنيفر جارنر.

  • بالشعر والرقص.. كيف انتصر الفن على
    مارتا سي غونزاليس

ظهرت "غونزاليس" في الفيديو مصابة بالزهايمر، يجلس بجانها أحد مُقدّمي الرعاية، واضعاً فوق رأسها سمّاعة تتسرَّب من خلالها المعزوفة الأسطورية، كأحد أساليب العلاج بالموسيقى، والتي ما إن سمعتها حتى حرَّكت يدها، مؤدّية على كرسيّها المُتحرّك رقصتها الشهيرة، ليبدأ الجميع في السؤال عن سحر الفن الذي حرّر الفتاة الصغيرة داخلها، منتصراً على الزهايمر.

استدعاء "غونزاليس" لرقصتها الشهيرة رغم إصابتها الزهايمر؛ جعلنا نتسأل عن مكان الفن من الذاكرة، ليُجيبنا عبد الحميد مفرّقاً بين نوعين من الذاكرة، وهما "النقدية" و"البصرية"، وأيضاً الذاكرة قصيرة المدى والطويلة المدى.

وأكَّد عبد الحميد أن "الزهايمر" عادة ما يقتل الذاكرة قصيرة المدى، بمعنى أن المصاب به ربما ينسى الأيام والساعات القريبة، لكنها يظلّ مُحتفظاً بالذاكرة البعيدة، "فقد لا يتذكّر ما أكله من ساعةٍ في حين لا ينسى أيام دراسته في المرحلة الإبتدائية"، مشيراً إلى أن مناطق الفن من الذاكرة، مثل الموسيقى والتصوير، تقع في غير مناطق الأشياء الأخرى.