عندما يزهر الليمون مجتمع علم

تشتهر بلدة القلمون اللبنانية بصناعات تراثية مُتنوّعة منها ماء الزهر والورد ومربّياتها.. تعالوا لنتعرف إلى هذه الصناعة مع كفاح كوسى.

  • كفاح كوسا في مشغله
    كفاح كوسا في مشغله

تشتهر بلدة القلمون الواقعة على بعد خمسة كيلومترات جنوبي مدينة طرابلس اللبنانية بصناعاتٍ تراثيةٍ مُتنوّعة، منها ماء الزهر، وماء الورد، ومربّياتها، ومكبوسات مُتفرِّقة. 

لكن أطيب هذه التراثيات هي مُستَخْرَجات زهر الليمون: ماء الزهر، ومربّى الزهر، الذي تنفرد بلدة القلمون بصناعته.

اقرأ أيضاً: فوائد الليمون الأسود للقلب والأمعاء

اعتمدت البلدة على هذه التراثيات منذ القِدَم كمؤونةٍ للمنازل، وتوارثَ الأبناء حِرَفيات آبائهم، وحتى أواسط القرن الماضي، كانت القلمون بلدة صغيرة، استفادت من عبور الطريق العام بين طرابلس والعاصمة بيروت فيها، فحاولت تقديم عدَّة أصناف مُحبَّبة على قلوب المُسافرين، وراحت تعرضها في محلات مُطلَّة على الطريق.

مع مرور الوقت، نشأت سوق عرضت واجهاتها أصناف التراثيات المُلوَّنة، فكانت البلدة تزدهر بها، ويعبق في أرجائها أريج المُقطّرات المُسَتَخْرَجة من أصناف الزهور، والورود، وخيرات الأرض، فتجذُب العابرين.

بذلك شكَّلت التراثيات مردوداً جيّداً مكَّن الأهالي من تعليم أبنائهم، وإرسالهم إلى جامعات بيروت، خرَّجت أجيالاً واسعة من المُتعلّمين، فاشتهرت ببلدة العِلم، وذلك قبل أن تتحوَّل الطريق العام إلى أوتوستراد يعبر طرف البلدة، ما أثَّر كثيراً على التراثيات، فتراجعت المبيعات، وأقفل الكثير من المحلات، واضطر صنَّاعها إلى التصدير إلى الخارج للحفاظ على استمراريّتهم.

كوسا

  • ورق زَهْر الليمون في السلال
    ورق زَهْر الليمون في السلال
  • غلي المربّى
    غلي المربّى
  • زَهْر الليمون من السِلال إلى التعليب
    زَهْر الليمون من السِلال إلى التعليب

يعمل كفاح كوسا في هذه الصناعات التقليدية منذ أربعين سنة. هو واحد من قلَّةٍ بقيت من الصُنَّاع الذين لا يتعدّون الخمسة حالياً.

يقول كوسا لــ الميادين الثقافية "إن الصناعة التراثية القلمونية تتضمَّن ماء الزهر، وماء الورد، والمُربيات على أنواعها، والمكبوسات، ومصدرها أراضي القلمون سابقاً، لكن بعد توسّع البلدة على حساب البساتين، بات مَن تبقَّى من الصُنَّاع يعتمد على إنتاج الجوار، يُضاف إلى بساتين القلمون التي ضاقت كثيراً".

كميات زهر الليمون التي ما تزال ترفُد الصناعة وتُحييها، مصدرها الرئيسي هو بلدة زكرون البعيدة زهاء خمسة كيلومترات عن القلمون. 

يبدأ قِطاف الزهر في شهر آذار، بحسب كوسا، لكن ما جرى هذا العام هو أن الإزهار حلَّ مُبْكِراً، ربما بسبب دفء الطقس بصورةٍ غير اعتيادية في شهري كانون الأول/ديسمبر وكانون الثاني/يناير حيث يتعذَّر القِطاف، ما عرَّض الموسم للكثير من التَلَف، فارتفع ثمن الزهور مُترافِقاً مع ارتفاع أسعار المواد الأولية خصوصاً السكر، فتسبَّب بخسارة الصناعيين.  

العمل

  • تقطير ماء الزهر
    تقطير ماء الزهر
  • زَهْر الليمون على أمّه
    زَهْر الليمون على أمّه
  • زَهْر الليمون قبل القِطاف
    زَهْر الليمون قبل القِطاف

يقطف عاملون يدويّون الزهور عن الأشجار، ويجمعون بعضاً مما تساقط لتوّه، ويقسِّم كوسا الجنى، ويوزّعه على بيوت تعمل نساؤها بسحب الأوراق عن اللبّ.

يلاحظ كوسا أن "العمل يحتاج إلى نساء لأن المرأة أطول بالاً من الرجل، فسحب الأوراق يتمّ زهرة زهرة، وهو عمل يحتاج إلى أناةٍ وصبرٍ، ثم يجري نَخْل الأوراق للإبقاء على الصحيح اللازم". 

تُقسَّم الزهور قسمين: الأول، للتقطير والحصول على ماء الزهر، والثاني، لصناعة مربّى ورق الزهر.

عملية التقطير معروفة، ولا تكتنز أسرارا، حيث تتوافر أوعية مُخصَّصة للتقطير تُعْرَف ب"القطَّارة" او "الكركة" بالعامية، وتُشاهد نحاسياتها معروضة على طريق عام القلمون، بينما يمكن الاعتماد على مُقطَّرات مصنوعة من المعدن الطريّ كــ "الزنك". 

تختلف طريقة التقطير الحالية عن السابق بأنها باتت تعتمد على موقِدة الغاز بينما اعتمدت سابقاً على موقِدة الحطب. 

يُقطِّّر كوسا زهاء أربعة أطنان من ماء الزهر، ويُباع الكيلوغرام منه بما بين ثمانية آلاف وعشرة آلاف ليرة للتصدير بالجُملة، وخمسة عشر ألفاً بالمفرَّق بالقنينة. 

المربَّى

  • كوسا وزَهْر الليمون
    كوسا وزَهْر الليمون
  • سحب الورق من الزَهْر
    سحب الورق من الزَهْر
  • قطَّارة نحاس
    قطَّارة نحاس

بالنسبة إلى مربَّى زهر الليمون، تنفرد القلمون بصناعته. بعد مُعالجة سَحْب الأوراق عن الزهرة، تُجْمَع في أوعية خاصة، ثم تُسْلَق، وتُتْرَك بالماء 12 ساعة للتحلية، ثم تُتْرك في سلال لتجفّ لـــ 12 ساعة أيضاً، وفي هذه الأثناء يتولَّى الصناعي تحريك الأوراق لتجفّ جيّداً، منعاً لتشكّل الفُطريات عليها.

عند المساء، يضع كوسا الأوراق المُحلاّة في مستوعبات واسعة، ويقول: "أنقعها بالسكر، ولا تُطْبَخ فوراً، لأن الورقة تستدير على نفسها، لكن بعد النقع بالسكر، وتركها لفترة، تبقى الورقة بشكلها الطبيعي". 

بعد أسبوع يبدأ الطبخ، وإضافة الصبغة الحمراء المُحبَّبة إليها، وبعد تبريدها، يجري نقلها إلى مستوعبات خاصة بالنقل. 

تعتمد كميّة الإنتاج على توافر الزهور، ويبلغ إنتاج كوسا لهذا العام 7-8 طن من الزهر، ونحو 250 مستوعبا، زِنة كل منها 25 كيلوغراماً.

يُحْتَسَب كيلوغرام مربّى الزهر بـــ 25 ألف ليرة لبنانية، وأكثر طالبيها هم أصحاب معامل حلويات طرابلس الذين يستخدمونها لتزيين أسطح منتوجاتهم من حلويات عربية، وتحليتها، وإذا أحبّوا بيع المربّى، فبسعر30-35 ألف ليرة للكيلوغرام، بحسب كوسا.

تُباع هذه المنتوجات التراثية في لبنان، ويُصدَّر غالبها إلى الخليج، أو أوستراليا، ويُلبِّي كوسا بعض طلبات إفرادية من فرنسا. 

تصنع القلمون أيضاً كميات كبيرة من الأبو صفير (الزفير) الذي يُصنَع في مختلف المناطق اللبنانية، كما المكبوسات المختلفة، والزيتون المرصوص. 

شكا كوسا من غياب دعم صناعته، وبنظره، "لولا التصدير لما بقيت صناعات لبنانية خصوصاً وأن البيع يتمّ بالعملة اللبنانية المُتأثِّرة بالدولار ما يُعرِّض الصُنَّاع لخسارة دائمة غير متوقَّعة".