القدس في الأدب العربي.. لغة الجرح في كلام الرواة

من الرواية إلى القصة القصيرة والشعر.. أي مكانة تشغلها القدس في الأدب العربي؟

  • القدس في الأدب العربي.. لغة الجرح في كلام الرواة (اللوحة للفنان الفلسطيني سليمان منصور)
    القدس في الأدب العربي.. لغة الجرح في كلام الرواة (اللوحة للفنان الفلسطيني سليمان منصور)

"ما أصعب الكتابة عن مدينةٍ هُدمت ثماني عشرة مرةً وأعيد بناؤها إثر كلّ هدم، ويمتدّ عمرها إلى خمسٍ وأربعين قرناً. القدس شيءٌ لا يمكن تصنيفه، وحده الله يمكنه الكتابة عنها". 

بهذه العبارات أوجز الروائي العراقي علي بدر مكابداته حين كتب روايته "مصابيح أورشليم". فالقدس ليست مدينة عادية، لا جغرافياً، ولا دينياً، ولا سياسياً، ولا حتى اجتماعياً، فهي مثقلة بالآلام والحنين المديد والغنى في كل شيء، ما يجعل الإمساك بروحية شوارعها وساحاتها وبيوتها، وحساسية سُكّانها، وتفاصيل كينونتها الضاربة في التاريخ كعاصمة للقداسة، أمراً عصياً على ممكنات السرد. 

لكن كما يعلّل بدر سبب تصديه الروائي بأن "إسرائيل" نشأت كفكرةٍ أدبيّةٍ رومانسيّةٍ نُسجت من الخيال الغربي، وبالتالي يجبُ إعادة كتابتها عن طريق الأدب، وهكذا يتم تكذيبها أيضاً. 

"الرواية هي أفضلُ حربٍ"، من هنا انطلق في "سردياته الكولونيالية" واقتباساته الشائكة، محاولاً الاقتراب من تأريخ جديدة لمدينة المدائن، التي "تكفي الجميع، قلبها واسعٌ ودينها كبير، إيمانُها متعدّد، وأشجارها تغطي كلّ العرايا ومراياها ليست عمياء وحيطانها ليست للبيع" بحسب تعبير واسيني الأعرج في روايته "سوناتا أشباح القدس" التي سرد من خلالها رؤيته لخسارات المدن الفادحة، والقدر الذي يقودنا إلى أن "نتدرب باستمرارٍ على الفقدان، ساعات في اليوم على الأقل مثلما نفعل مع الرياضة، لكي لا نموت قهراً". 

  • القدس في الأدب العربي.. لغة الجرح في كلام الرواة
    القدس في الأدب العربي.. لغة الجرح في كلام الرواة

أما الروائي السوري حسن حميد فقد صنع من لغته الشاعرية في روايته "مدينة الله" قدسه الخاصة، بفضاءات روحانية وعوالم غرائبية تتخلى عن الواقع باتجاه المتخيَّل المشتهى. 

وغير هؤلاء الروائيين الثلاثة ممن لم يعيشوا في القدس، هناك كثيرون بنوا مداميكهم الروائية على بهاء المدينة بعد معايشتها، مثل علاء مهنا في "مقدسية أنا"، ويوسف العيلة في "قصة حب مقدسية"، وسحر خليفة في روايتيها "صورة وأيقونة وعهد قديم" و"أصل وفصل"، وأيضاً رواية "كافر سبت" لعارف الحسيني، و"سوق العطارين" لعزام أبو السعود، و"برج اللقلق" لديمة السمان. 

لكن في جميع سرديات كتاب الداخل والخارج "تبدو مدينة القدس أكبر، بقداستها وسحرها، من أن يلم بها أي عمل روائي" كما يرى الباحث محمد الطحل في دراسته "رواية القدس في الأدب العربي". 

أما في القصة القصيرة فيبدو الواقع أفضل من ناحية توظيف المدينة في السرد، لا سيما لدى بعض الأدباء المقدسيين، فـ"مقهى الباشورة" لخليل السواحري تظهر فيه معرفة القدس بأماكنها وأجوائها وعادات سكانها، وأيضاً محمود شقير في "ظل آخر للمدينة" حيث يبرز المكان كبطل حقيقي إلى جانب الشخصيات.

ومن الذين كتبوا قصَّةَ القُدْس حقاً توفيق فياض وخاصة في سرديته الجميلة "أبو جابر الخليلي"، ومثله عزز أكرم هنية مكانة المدينة في قصصه، ولا سيما التي حملت عنوان مجموعته "عندما أضيء ليل القدس" التي جاءت بعد سبع سنوات من كتابة قصة "بعد الحصار.. قبل الشمس بقليل" التي تنبأ فيها بما جرى للمدينة قبل 20 عاماً.

  • القدس في الأدب العربي.. لغة الجرح في كلام الرواة
    القدس في الأدب العربي.. لغة الجرح في كلام الرواة
  • القدس في الأدب العربي.. لغة الجرح في كلام الرواة
    القدس في الأدب العربي.. لغة الجرح في كلام الرواة

أما القدس شعرياً، فحظيت بما لم تحظ به مدينة أخرى، ربما لغزارة معانيها في الوجدان العربي، فضلاً عن قداستها، وامتلاكها تاريخياً لمقومات الملحميات الكبرى، والمآسي العظيمة، فهي "لغة الجرح" و"شارة الدم" عند طاهر العنتابي و"عاصمة السماء" في أشعار عز الدين مناصرة، و"البلد الطُّهْرُ" عند خليل مطران، و"المدينة التي تفوح أنبياء" في شعر نزار قباني، وغير ذلك الكثير من الأوصاف والصور الشعرية التي أسطرتها، وجعلت منها "مدينة الشعر" و"عاصمة قصائد الحب والمقاومة والقداسة والألم"، لكنها بعد النكبة عام 1948 تحديداً، أصبحت إضافة لذلك بوصلة الكرامة العربية. فمن منّا لا يتذكر صرخة مظفر النواب حين قال: "بوصلةٌ لا تُشير إلى القُدْسِ مشبوهةٌ، ملعونٌ من يتبعها،..."، في قصيدته "عبد الله الإرهابي"، أو من ينسى عندما عرَّى صاحب "وتريات ليلية" التخاذل والصمت العربيان تجاه قضيتها المحقة بقصيدته الشهيرة التي قال فيها "القدس عروسُ عروبتكم، فلماذا أدخلتهم كل زناة الليل إلى حجرتها، ووقفتم وراء الأبواب تسترقون السمع لصراخات بكارتها،...". 

في الاتجاه ذاته يؤكد سميح القاسم أن القدس هي "بوصلة الجهات" في قصيدته "اسمك القدس"، ويضيف في توصيفها: "لزواريبها نكهة الخبز والمعجزات.. ومآذنها بسملات.. ولأجراسها هيبة الرب في الكائنات، والقباب خشوعُ النَّبيَّيْن في حضرة الله.. قبل الصلاة.. ورنين خطا الأنبياء.. ورجع الصدى بابتهال البلاط صوب آياته البيِّنات.. صورة لانبلاج المدى.. وابتداء الصراط.. أتراها اسمها القدس.. مملكة الأحجيات؟". 

أما محمود درويش ففي حديثه عن القدس، يرى أن الكلمات تنبت فيها كالأعشاب من فم أشعيا النبوي، فيسأل: "كيف يختلف الرواة على كلام الضوء في حجر؟ أَمِنْ حجرٍ شحيح الضوء تندلع الحروب؟"، وينهي قصيدته برفض الموت والانتصار للحياة ولو عبر قصيدة. 

من لم يتذوق طعم المراراة والألم في ما كتبه نزار قباني بقوله: "يا قدس يا منارة الشرائع.. يا طفلة جميلة محروقة الأصابع.. حزينةٌ عيناك يا مدينة البتول.. يا واحة ظليلة مرّ بها الرسول.. حزينةٌ حجارة الشوارع.. حزينة مآذن الجوامع.. يا قدس يا مدينة الأحزان.. يا دمعةً كبيرة تجول في الأجفان.. من يوقف العدوان؟ عليك يا لؤلؤة الأديان.. من ينقذ الإنجيل؟ من ينقذ القرآن؟ من ينقذ الإنسان؟". 

وما هذه التميمة المقدسية التي تحدَّث عنها تميم البرغوثي حين قال في جملة ما قاله: "متى تبصر القدس العتيقة مرة.. فسوف تراها العين حيث تديرها". 

هناك مئات الشعراء ممن بذلوا الكثير من الحبر في الكتابة عن القدس، لدرجة غارت منها اللغة، ولتبقى أكثر الأشعار التي تناولت تلك المدينة بشمولية، بقداستها وأحزان ناسها، بيأسهم وأملهم، وقدرتهم على النصر، هو ما كتبه الأخوان رحباني، بغنائية عالية توَّجها صوت فيروز، وفيها: "عيوننا إليك ترحل كل يوم.. تدور في أروقة المعابد.. تعانق الكنائس القديمة.. وتمسح الحزن عن المساجد...".

 

اعتداءات إسرائيلية متكررة على الفلسطينيين في القدس المحتلة ومحاولة تهجيرهم من منازلهم، استدعت انتفاضة فلسطينية عمت الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتبعها عدوان إسرائيلي على غزة تجابهه المقاومة بالصواريخ التي تشل كيان الاحتلال.