هل تخلى المثقفون العرب عن فلسطين؟

هل تخلى المثقفون العرب عن فلسطين؟ هذا السؤال وغيره طرحته الميادين الثقافية على أربعة من كبار كتّاب المغرب العربي، من بينهم واسيني الأعرج.. وهذه كانت إجاباتهم!

  • لوحة للفنان الفلسطيني سليمان منصور
    لوحة للفنان الفلسطيني سليمان منصور

تجعلنا الأحداث الأخيرة في القدس نُدير أعناقنا، للنظر من جديد إلى القضية الفلسطينية، تلك القضية الجوهرية في الراهِن العربي، التي يبدو أنّ الحياة الجديدة وتحوّلاتها جعلت الكثير منا ينسى ويتناسى أمرها. ثمّة احتلال واضح، غير أن الغبار الكثير يجعلنا لا نمعن النظر كما كنّا. ثمة حقوق مهضومة ورغبة كبيرة في إبادة الحقيقة ومحو التاريخ. ما يقع اليوم في القدس يجعلنا نطرح الأسئلة التي كنا قد نسيناها أو تناسيناها، ولعلّ أبرزها في سياقنا الثقافي هو هذا السؤال الجارِح: هل تخلَّى المُثقَّفون العرب عن فلسطين؟

وجَّهنا هذا السؤال، ومعه تلك الأسئلة التي تتبادر إلى أذهاننا وتبطّن مشاعرنا كلما ذكرنا إسم فلسطين، إلى أربعة من كبار كُتّاب المغرب العربي وهذه كانت إجاباتهم.

واسيني الأعرج: (روائي وأكاديمي جزائري، حاصل على جائزتي كتارا والشيخ زايد للآداب)

فلسطين تجعلنا نعيد النظر في كل القيم

  • هل تخلى المثقفون العرب عن فلسطين؟
    واسيني الأعرج

أعتقد أنَّ القضية الفلسطينية اليوم على الرّغم من تخلّي الجزء الأكبر من العرب، إذ لم تعد تعني لهم الشيء الكثير، كقضيّةٍ مركزيةٍ في حياتهم وفي استمرارهم أيضاً وفي وجودهم، تظلُّ هذه القضيّة مقياساً حرارياً؛ أوّلاً للتضامن الإنساني، وأيضاً للحقّ بمعناه الأدقّ. 

من خلال قضيّة فلسطين نعيد النظر اليوم في كل القِيَم: قِيَم الحداثة، قِيَم الحق، قِيَم العدالة، قِيَم الحق في الحياة، قِيَم العَيْش مع بعض. فلسطين وضعت كل القِيَم على الحافّة، وباتت في دائرة التساؤل، لأن الحَداثة تعني بأن البشرية يجب أن تذهب دوماً إلى الأمام، وأنَّ أيّ تَقَهْقر لن يمسَّ منطقة أو جهة ولكنه يمسُّ البشرية بكاملها.

الحق يعني أيضاً أن تنزع بؤر التوتّر، وأن تبحث عن الحلول الإنسانية السلمية المُمكنة. العيش مع بعض أيضاً ممكن، لكن هذا يجب أن يُسبَقَ باعتراف الآخر بحقّه في العيش؛ يعني لا يوجد حق أحادي ثم نفرضه على الناس الآخرين، الحق في العيش أن أحترمك وأحترم دينك، أن أحترم خصوصيّاتك وثقافتك، أن أحترم بُعدك الحَضاري والإنساني، وبالمقابل أنت أيضاً عليك أن تحترم حقوقي الأساسية، عندما تكون الحقوق العادية والتي هي حقّ العيش، وحق الوجود في الأرض وحقّ الإقامة في المكان. 

كلها حقوق غير متوافرة، فكيف يُطلَب من الفلسطيني أو الإنسان عموماً العيش مع بعض والتفاهم مع بعض؟ كيف يمكن للبشرية أن تتقدَّم باحترامها للقوانين الدولية التي تصدرها هي بنفسها وتراها في مكانٍ آخر غير مُحترمة؟ بل يتمّ تخطّيها بالغطرسة والقوَّة العسكرية والجبروت، لهذا أنا أقول -عندما نتحدَّث عن القضية الفلسطينية- صحيح أنها تهمُّ شعباً بكامله وجد نفسه في 1948 خارج دائراته الطبيعية في المُخيّمات، في هذا سنطرح سؤالاً: أين هي الإنسانية وأين هو الحق؟ 

محمد الأشعري: (شاعر وروائي مغربي، وزير سابق للثقافة وحاصل على جائزة البوكر للرواية العربية).

على المثقفين العرب أن يخلقوا جبهة دولية لمناصرة فلسطين

  • محمد الأشعري
    محمد الأشعري

أُعبِّر عن ألمي لما يحدث في القدس الشرقية وفلسطين عامة، وعن إحساسي بنوعٍ من الغضب الذي لا قُدرة له على تغيير أيّ شيء. ولا بدّ من أن أُعبِّر كذلك عن أملي في أن نستطيع تغيير شيء.
أريد أن أتحدَّث عن مسألتين في هذا الوقت الذي يعمل فيه الكيان الصهيوني بكل بساطة على إفراغ القدس الشرقية من سكانها من الفلسطينيين، وتعويضهم بالمُستعمرين الاستطانيين تمهيداً لجعل القدس كلها عاصمة لــ "إسرائيل"، كما هو واضح في مشروع الكيان الصهيوني. في الواقع هذا العمل ليس شيئاً استثنائياً ولا طارئا، لأنه يقع في جوهر الاستراتيجية الإسرائيلية؛ إجبار الفلسطينيين على مُغادرة الأرض ومُغادرة منازلهم ومُغادرة فكرة الوطن الفلسطيني بصفةٍ نهائية، وإحلال "إسرائيل" محل كل شيء؛ محلّ الذاكِرة ومحل المستقبل.

لذلك أريد أن أقول أولاً إن هناك واجباً أخلاقياً على الدول العربية التي وقَّعت اتفاقية التطبيع مع "إسرائيل". وهذا الواجب الأخلاقي يقتضي أن يخاطبوا مَن طبَّعوا معها، أن يخاطبوه مباشرة، وأن يجلسوا معه على طاولة مفاوضات حول ضرورة وقف هذا العنف الشرِس وهذا الاستئصال الذي لم يمر مثله في تاريخ البشرية، من واجبهم الأخلاقي تُجاه شعوبهم لأنهم أقدموا على تطبيع العلاقات مع "إسرائيل" وفتح تمثيلية دبلوماسية معها. 

وهذا شيء لم تستقبله الشعوب بانتفاضات عارِمة ولو أنها عاشت مرارته بكل تأكيد. والآن هناك امتحان حقيقي لهذه السياسة التطبيعية؛ أي أنه إذا كان هذا الكيان يريد الصُلح مع الأمَّة العربية ويريد أن يصبح كياناً شرعياً في المنطقة وليس محشوراً في وسط الأمَّة العربية، إذا كان يريد ذلك حقاً فيجب أن يوقِف فوراً هذه المجازر التي يقوم بها، وأن يتخلَّى عن فكرة إفراغ القدس من الفلسطينيين، وجعلها عاصمة لـ "إسرائيل" بشكلٍ كامل. 

هذا الواجب الأخلاقي أظنّ أنه في الوقت نفسه واجب سياسي، إذا كنت أعترف بالكيان الصهيوني وأفتح مع دبلوماسية تمثيلية فلا أقلّ من أن أجابهه وأن أذهب إليه إلى تلك القدس التي يريدها صهيونية وإسرائيلية كاملة، أن أذهب إليه هناك وأطرح معه ضرورة الوقف الفوري لهذه المجازر.

هذا من جهةٍ، من جهةٍ أخرى أتمنَّى أن يستطيع المُثقَّفون العرب بصفةٍ عامةٍ أن يخلقوا كياناً افتراضياً، ويجمعوا من خلاله توقيعات جميع مُثقّفي العالم للمُطالبة بإعطاء الحق للفلسطينيين في دولتهم وفي قدسهم، هذا أقل ما يمكن أن نقوم به، وأتمنَّى أن نستطيع خلق هذه المجموعة الدولية من أجل نُصرة الحق الفلسطيني ولو برفع صوتنا في هذه الفترة الحرِجة التي يمرّ بها الشعب الفلسطيني.

آدم فتحي: (شاعر ومترجم تونسي. حاصل على جائزة سركون بولص للشعر والترجمة)

القضيّة الفلسطينيّة تخلّت عن نوعيّة بائسة من المثقّفين

  • آدم فتحي
    آدم فتحي

ليست القضيّة الفلسطينيّة من تلك القضايا التي يمكن أن يتخلّى عنها الإنسان إذا كان يستحقُّ تسمية إنسان. يكفي ألاّ يتخلّى المُثقّف عن نفسه كإنسانٍ كي لا يتخلّى عن القضيّة الفلسطينيّة. ثمّ إنّها ليست قضيّة المُثقّف العربيّ. وليست قضيّة المُثقّف وحدَه. بل هي قضيّة الإنسان حيثما كان ومهما كان لونه أو فكره، لأنّ ما تمارسه "إسرائيل" إرهابُ دولةٍ وعنصريّة وجرائم حرب وجرائمُ ضدّ الإنسانيّة. 

وإنّ ما حدثَ بين يديْ كتابة هذا الأسطُر، من فظاعة وتنكيل في محاولة تطبيق الخطّة الإسرائيليّة لتهجير الفلسطينيّين من منازلهم بحيّ الشيخ جراح في القدس، ليس مسألة "خصومة عقاريّة"، بل هو مسألة حرب وُجود. لذلك اهتزّ الجميع وتحرَّكوا في القدس وغزَّة ورام الله وفي كل مكان في البلاد العربيّة والعالم.

المشكلة تكمُن في مدى ذلك الاهتزار وفي نوعيّة الحركة. ولمّا كان المُثقّف مطروحاً على المحكّ فلنسأل: عن أيّ مُثقّفين نتحدَّث؟ 

إذا كنّا نتحدَّث عن تلك الأقليّة من الأفراد المُكتفين بأنفسهم أو المبثوثين في بعض المؤسّسات فهم "فلسطينيّون بطبعهم". وليس صعباً عليهم أن يتذكَّروا محوريّة القضية الفلسطينيّة ومركزيّتها بالنسبة إلى العرب، والإنسانيّة كافة، لأنّها مسألة قَيَم وأخلاق ودفاعٍ عن إنسانيّة الإنسان. 

وأمّا إذا كنّا نتحدَّث عن "مُثقّفي الفيترينة" في هذه الدكّان أو ذاك وفي هذه المؤسَّسة أو تلك، فهؤلاء لا يبرعون إلاّ في "البيانات الاستنكارية". وهؤلاء لا تحتاج إليهم القضيّة الفلسطينيّة لأنّهم قطعوا صلتهم بها من عُقود.

من ناحية أخرى، قامت أجهزة الإعلام وفئات من المجتمع المدني وقطاعات واسعة من الشعوب العربيّة بعمليّة "استبدال" للمُثقّفين في السنوات الأخيرة. كما عرف مُثقّفون عديدون كيف يُتقنون التعامُل مع أدوات ساحات التواصُل والاتصال الجديدة. وشيئاً فشيئاً تغيَّر مركز الثّقل بفعل التكنولوجيا الرقمية وتغيَّرت هويّة "صُنّاع الرأي العام" كما تغيَّرت مجالات "صناعته". 

في هذا السياق نستطيع القول إنّ القضيّة الفلسطينيّة هي التي تخلّت بدورها عن هذه النوعيّة البائسة الهَرَمة من المُثقّفين. وحسناً فعلت. فهي بذلك تجدِّد نفسها وقادتها وحركيّتها.

سعيد يقطين: (ناقد وأكديمي مغربي. حاصل على جائزة الشيخ زايد وجائزة المغرب الكبرى)

يجب توحيد الصفوف وإرجاء الخلافات

  • سعيد يقطين
    سعيد يقطين

إننا لا نقوم سوى بردود أفعال على الجرائم التي تنتهكها الصهيونية ومستوطنوها في حق الشعب الفلسطيني. وما يجري حالياً في القدس وغزَّة من انتهاكات لا يمكنها إلا أن تثير حفيظة العرب والمسلمين بل والضمير العالمي. كما أن تصدّي المقاومة والشعب للعدوان دليل على حيويّة ودينامية إذا توحَّدت الصفوف، وأُرجِئت الخلافات.

لا أحد يُجادل في أن القضية الفلسطينية تحتلّ مكانة خاصة في قلوب كل العرب والمسلمين. لكن الصراع غير المُتكافئ، والصراعات العربية/ العربية، والفلسطينية/ الفلسطينية، جعلت القضية تحتلّ مكانة دنيا من الاهتمام. وتستغلّ الدولة الصهيونية هذه الأوضاع لممارسة المزيد من الغطرسة والتجبّر على مرأى من الجميع. 

عندما طبَّعت بعض الدول العربية علاقتها مع الدولة الصهيونية أقيمت الدنيا وقعدت، وها هي الحرب على سكان حيّ الشيخ جراح، والقدس وغزَّة تُعيد قيامتها. فلا الدول المُطبّعة يمكنها أن تفعل شيئاً، ولا التي تُزايد بالقضية لقمع شعوبها قادرة على وقف النزيف. وتستمر المأساة ـ المهزلة؟ مَن يتحمَّل مسؤولية استمرار هذا الوضع الكارثي؟ هل يكفي الحديث عن التسامُح، وكتابة نصوص عن الحوار، وتدبيج كتابات حول "تجديد" الخطاب الديني، وجمع التوقيعات،،، في الوقت الذي نجد فيه "إسرائيل" ومستوطنيها يمارسون أبشع السلوكات المُنافية للحوار والتسامُح والتعايُش، ولأبسط حقوق الإنسان، ويقومون بما يدخل في نطاق جرائم الحرب؟

هل يمكن الرِهان على الموقف العالمي والمؤسَّسات الدولية التي تساند "إسرائيل" لفرض السلام العادل؟ تاريخ الصراع يكشف لنا الوقائع التي لا نريد الإنصات إليها. 

القضية الفلسطينية قضية شعب تصدَّى للمشروع الاستيطاني بصمودٍ وبسالةٍ منذ أكثر من 70 عاماً. وحدة هذا الشعب وتوحيد صفوفه هما المدخل الوحيد لفرض حقوق الشعب الفلسطيني.

اعتداءات إسرائيلية متكررة على الفلسطينيين في القدس المحتلة ومحاولة تهجيرهم من منازلهم، استدعت انتفاضة فلسطينية عمت الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتبعها عدوان إسرائيلي على غزة تجابهه المقاومة بالصواريخ التي تشل كيان الاحتلال.