فيروز وفلسطين والقدس.. استشراف من الماضي للراهن

كان الرَحابنة، بحبّهم لفلسطين، كما كل العرب يومئذ، يتابعون أخبارها عبر الإذاعات. 

  • فلسطين والقدس في الفن الرحباني (هنادي بدر)
    فلسطين والقدس في الفن الرحباني (هنادي بدر)

المقدسيون يتقدّمون نحو القدس، وهدير أصواتهم يُسْمَعُ في كل صوب وناحية. يتردَّد صوت سفيرة النجوم "فيروز" مُحيية ذكريات النكبة، وواصِفة مآسيها، ولكن قبل ذلك كله مُتنبّئة بما يجري اليوم وما تقوم به المقاومة من نضالاتٍ بين غزَّة الصامِدة  والضفة المُنْتَفِضة، والداخل المُتفاعِل واللدّ التي تتحرَّر من المستوطنين، فتعود فلسطين لتحتلّ صدارة الأحداث العالمية. تهدّد الكيان في مصيره وتقضي على الحلم الإسرائيلي وفق ما بناه الإسرائيليون في مُخيّلتهم. 

أعتق وأبرز الأغنيات التي وضعها الرَحابنة مواكبة لنكبة 1948، أغنية "راجعون"، ومن مقاطعها الأخيرة ما يتوافق مع ما يجري اليوم من تطوّرات ميدانية.

في مقطع أخير من الأغنية، نداء الأمس البعيد يتردَّد صداه اليوم:

بلادي أطلّي قليلاً فإنّنا راجعون

في هَدْأة السكون في رَهْبة الحصون

أصحابنا على الطريق الرَّحب يهتفون

في الأمطار راجعون في الإعصار راجعون

في الشموس في الرياح في الحقول في البِطاح

راجعون راجعون راجعون

وفي مقطعٍ من الأغنية تتردَّد تذكارات تلك البلاد الجميلة، وروح الحياة الهانِئة التي كانت تعيش، رغم استحالة التواصُل معها بعد وقوعها في براثِن الاحتلال:

زهر التلال

في البال دنيا

ترابها الشمس

الحب والقدس

في البال

رغم المحال

وتعود الأغنية لتندب روح العصر الاستعماري المُتوحِّش الذي لم يترك للإنسانية مطرحاً للحياة، لكن فلسطين باقية في البال:

العدل زال واسْودَّ لونُ الظلال

ولم تزل في البال

وفي العديد من اللقاءات التي جرت مع فلسطينيين هُجِّروا من قراهم وبلداتهم، كانت الروايات شبه مُتطابِقة. وهم يروون عملية تهجيرهم تحدَّثوا كيف تركوا منازلهم على وعدٍ من "جيش الإنقاذ العربي" بالعودة السريعة في اليوم التالي، أو بعد أيامٍ قليلة ريثما تكون أجواء الصِدامات مع المستعمر البريطاني، ومع المستوطنين اليهود الذين بدأوا بالتسلّل إلى فلسطين منذ أواسط القرن التاسع عشر، قد هدأت.

وهم يروون قصَّة تهجيرهم، وكيف قضوا لياليهم في بساتين الزيتون، أو في العراء، صورة مأسوية لا يحتملها قلب بشري. بين ليلة وضُحاها، فَقَدَ المئات مساكنهم، وموطنهم، وباتوا مُتشَّردين، فكانت تتردَّد في الذِهن كلمات من أغنية فيروز "راجعون". 

كان الرَحابنة، بحبّهم لفلسطين، كما كل العرب يومئذ، يتابعون أخبارها عبر الإذاعات. 

الأغنية كانت تتردَّد في إذاعات العرب، وخصوصاً في إذاعة بيروت التي تأسَّست سنة 1938، زمن الانتداب الفرنسي، وخصَّصت في الستينيات برامج لفلسطين، والقدس، وكان صوت فيروز يتردَّد وحيداً عن فلسطين، وكانت "راجعون" مُختصراً حيّاً لما كان يجري: 

حلّ الليل على الفلوات فأين ننام

لا مأوى لا مثوى هل نرقد في الساحات

لا بيتٌ لا صوتٌ وسدىً تمضي الساعات

ذقنا الهَوْل وطفنا الليل بدون طعام

إنْ البرد قَسَا واشتدّ فأين ننام

وبيتنا الحبيب يسكنه غريب

ونحن لاجئون في الخيام

هل ننام؟

لن ننام

ومن الأغاني التي أعطت الآمال الكبيرة بالعودة، والتي ما انفكَّت حيَّة، فاعِلة، مؤثِّرة رغم مرور عقود على وضعها، أغنية "سنرجع" 1956، تُنبىء بشيء مما يجري حالياً: سنرجع مهما يمرّ الزمان وتنأى المسافات ما بيننا. وتشير الكلمات تلميحاً إلى المقاومين "كرفوف الطيور" الذين يضحَّون بأنفسهم من أجل القدس وفلسطين: يعزّ علينا غداً أن تعود رفوف الطيور ونحن هنا.

وتصرّ الأغنية على العودة، والكل في انتظارها، حتى الحساسين والبلابل، والعيون، والينابيع، والوِهاد، والتلال التي ما انفكّ أهلها يزورونها، ويحيونها في أفئدتهم، وعقولهم:

سنرجع خبّرني العندليب غداة التقينا على منحنى

بأن البلابل لمّا تزل هناك تعيش بأشعارنا

وتخلص الأغنية إلى أن الانتظار طال، والتشرّد لم يعد يُحْتَمل، وآن أوان العودة:

فيا قلب كم شرّدتنا رياح تعال سنرجع هيّا بنا

وتبقى زهرة المدائن من أهمّ ما وضِع للقدس في العصر الحديث، وقد جاءت تعبيراً عن  رفض هزيمة 1967، وتستجمع في طيَّاتها حُلم الفلسطيني، لا بل حُلم كل إنسان مُتحرِّر في العالم، ممّن يعتبر القدس محجَّته، وكانت محاولة لإخراج الإنسان العربي من حال الإحباط التي تسبَّبت بها النكسة.

تبدأ الأغنية مُناشدة القدس وواصِفة لها بــ "بمدينة الصلاة" و"بهيّة المساكن"، مؤكِّدة على عدم نسيانها حيث "عيوننا إليك ترحل كل يوم"، جامِعة مشاعر الغالبيّة الساحِقة من البشرية فالعيون تدور بين الكنائس والمساجد، "تُعانق الكنائس القديمة، وتمسح الحزن عن المساجد".

وترى الأغنية الطفل في المغارة، وأمّه مريم وجهان يبكيان

لأجل مَن تشرَّدوا
لأجل أطفالٍ بلا منازل
لأجل مَن دافعَ وأستشهد في المداخل

ولا تقتصر الشهادة على أبواب القدس على مَن استشهدوا في سبيلها، بل تشهد على سقوط العدل العالمي على مداخلها: 
واستشهد السلام في وطن السلام
وسقط العدل على المداخل

وتنذر القصيدة بغضبٍ ساطع، كأنها الوَعد الصادق الذي نرى أفاقه الحيّة اليوم في ما يجري من مُجابهات في فلسطين، وعلى أبواب القدس، وفي المسجد الأقصى، والتضحيات الجِسام التي أبداها المقاومون فداء بلادهم، وعن كل العالم: 

الغضب الساطِع آتٍ 

وأنا كلي إيمان
من كل طريق آتٍ بجياد الرهبة آتٍ

وكوجه الله الغامر آتٍ آتٍ آتٍ

وتتوعَّد أن المقاومة لإقفال المسجد الأقصى ستنجح في ردع المُعتدين:

لن يقفل باب مدينتنا فأنا ذاهبة لأصلّي
سأدقّ على الأبواب وسأفتحها الأبواب
وستغسل يا نهر الأردن وجهي بمياه قُدسيّة
وستمحو يا نهر الأردن آثار القدم الهمجيّة

وتعد بالعاصفة الآتية التي ستهزم وجه القوّة، لأن:

البيت لنا والقدس لنا
وبأيدينا سنعيد بهاء القدس

وتنتهي بوعدٍ قاطع، وقد بات أمراً قائماً:

للقدس سلام آتٍ
للقدس سلام آتٍ آتٍ آتٍ آتٍ.

اعتداءات إسرائيلية متكررة على الفلسطينيين في القدس المحتلة ومحاولة تهجيرهم من منازلهم، استدعت انتفاضة فلسطينية عمت الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتبعها عدوان إسرائيلي على غزة تجابهه المقاومة بالصواريخ التي تشل كيان الاحتلال.