محنة الصحافة الثقافية في المغرب

تعيش الصحافة الثقافية في المغرب محنة مركَّبة.. ما هي أسبابها؟

  • محنة الصحافة الثقافية في المغرب
    محنة الصحافة الثقافية في المغرب

ظهرت الصحافة الثقافية في المغرب مُتأخّرة جداً، قياساً مع بلدان المشرق العربي التي انطلقت فيها بوادر الصحافة الأدبية مع مُنتصف القرن التاسع عشر. ففي سنة 1859 ستشرع جريدة لبنانية كان اسمها "حديقة الأخبار" في نشر أجزاء مُتعاقبة من رواية خليل الخوري "وي. إذن لست بإفرنجي" التي يرى البعض أنها أول رواية في تاريخ العرب.

كان هذا أول دخول على ما يبدو للأدب إلى الصحافة، قبل أن يُطلق سليم البستاني مجلة "الجنان" بداية سبعينات القرن التاسع عشر. هذا التقليد اللافت لنشر روايات مُتسلسلة انتعش في تلك الفترة ثم اختفى لاحقاً، وربما الجريدة الوحيدة التي عادت إليه في عهدنا هي "أخبار الأدب" المصرية.

سيظهر أول ملحق ثقافي في الصحافة المغربية سنة 1969، في جريدة "العلَم" التابعة لحزب الاستقلال. بعده سيظهر ملحق ثانٍ في جريدة "المحرّر" التي ستحمل لاحقاً اسم الحزب الذي يصدرها "الاتحاد الاشتراكي"، وكان هذان الملحقان مفتوحين بالأساس لمثقّفي الحزبين، ومُنفتحين أيضاً على غير المنتمين. ستظهر لاحقاً ملاحق ثقافية في جرائد حزبية أقلّ مقروئيّة، أما الصفحات الثقافية فظلّت ضعيفة، تركّز إما على الأخبار أو إبداعات الشباب. إذ لم يكن هناك، في الغالب، من قسمٍ ثقافي في الجرائد المغربية، بل محرّر وحيد يوكَل إليه تدبير ما يتعلّق بالإعلام الثقافي في البلد.

مع بداية الألفية الجديدة ظهرت الصحافة المستقلّة وعرف انتعاشها انتعاشاً أيضاً في الصحافة الثقافية: "الصحيفة"، "الأيام"، "المساء"، "أخبار اليوم"، "الأخبار"، "الجريدة الأولى". لكن بعد أقلّ من عقدين عرفت هذه الحركية تراجعاً، وما يشبه الإنقراض، بانحسار وتوقّف الصحافة الورقية أو انخفاض نِسَب مبيعاتها. في الصحافة العربية في المغرب تحضر الآن ملاحق ثقافية قليلة جداً. "العَلَم" و"الاتحاد" مازالا يواصلان الصدور لكن بقرَّاء أقل، "المساء" و"الأخبار" تصدران ملحقاً أسبوعياً لكن بشكلٍ يركِّز على تعاون مَن يكتب فيهما. جريدة "أخبار اليوم" توقّفت، وتوقّف معها كل شيء.

بالرغم من وجود طاقات فردية هائلة في الصحافة الثقافية في المغرب، إلا أن المجال لا يتّسم بأيّ طابع تحفيزي، يمكن أن يجعله نشطاً وحيوياً ومُنتجاً. فالجرائد وبعدها المواقع الصحافية في المغرب لا تدفع أيّ بدل مادي لكُتّاب المقالات في القسم الثقافي، ما جعل المسألة "النضالية" في النشر تختفي، حيث قام كُتّاب الأعمدة ومقالات الرأي ومراجعات الكُتب بالهجرة نحو صحف ومواقع خارج المغرب، تدفع بدلاً مادياً لإسهاماتهم. بالمقابل لا يوجد مراسلون من خارج المغرب للصحافة الثقافية الوطنية، بينما تغصّ الصحافة العربية بالمراسلين المغاربة، والمواضيع المكتوبة عن المغرب الثقافي تملأ الصحافة اللبنانية والخليجية والصحافة العربية في المهجر.

  • محنة الصحافة الثقافية في المغرب
    محنة الصحافة الثقافية في المغرب

وهذا يدلّ على أن هناك حركة وانتعاشة في الثقافة المغربية الراهنة، في النقد والفكر والشعر والرواية والقصة والمسرح والتشكيل والموسيقى والسينما. وهذا شيء حقيقي. لكن هذه الحركية غير مواكَبة على المستوى الداخلي. قد  تكون المواكَبة إخبارياً على المواقع وعلى ما تبقّى من صحف، لكن المتابعة النقدية شبه مُنعدمة. كُتُب كثيرة تصدر لا يُكْتَب عنها داخل المغرب.

في أحيانٍ كثيرةٍ ينشر الكاتب المغربي كتابه في لبنان أو مصر أو لندن أو باريس ويكتب عنه كاتب غير مغربي في منبرٍ آخر غير مغربي. النقّاد المغاربة الأكاديميون، في معظمهم، مشغولون بالنظريات والمناهج ولا يواكبون جديد الثقافة. والصحافيون المختصّون في الثقافة يجدون أنفسهم أمام حقول ناضِبة في المغرب، لذلك يلجأون إلى الكتابة في صحفٍ خارج البلاد.

إن المتأمّل في حركية السينما المغربية اليوم، وما تعرفه من ازدهارٍ حقيقي على مستوى الكمّ والكَيْف سيشعر بنوعٍ من الخيبة وهو يبحث في أقسام الصحافة الوطنية عن المواكَبة النقدية والإعلامية لها. الأمر ذاته ينطبق على حقل التشكيل الذي صار أحد أكثر الحقول شساعة وتميّزاً في الثقافة المغربية. أما بخصوص الرواية والشعر فغالباً ما ننتظر أن تهتمّ بهما الصحافة العربية من خارج المغرب. أما المسرح أب الفنون فيبدو ألا أحد يتحدّث عنه اليوم.

  • محنة الصحافة الثقافية في المغرب
    محنة الصحافة الثقافية في المغرب

هل الصحافة الثقافية غائبة إلى هذا الحدّ؟ هل الفجوة بكل هذا الحجم؟ نعم. فهذا الحديث لا يلغي وجود صفحات، هنا وهناك، مازالت تؤمِن بالمسألة الثقافية. لكن الفارِق هائل بين الثقافة المغربية اليوم وصحافتها. الكثير من الأسماء المغربية تحظى بالتقدير من خارج المغرب أكثر من داخله، وما تنتجه هذه الأسماء في مختلف حقول الثقافة لا يحظى بالمتابعة اللازمة في بلدٍ لا يمتلك أية سياسة ثقافية. 

وبخصوص المجلات الثقافية التي كانت رائجة ولها حضور وتأثير في الحياة الثقافية فقد انقرضت تباعاً، ويمكن العودة إلى نهاية الخمسينات لاستحضار مجلة "رسالة الأديب" التي كان يرأس تحريرها محمّد الحبيب، ومجلة "شروق" التي أصدرتها خناتة بنونة مُنتصف الستينيات. في العقدين اللاحقين لتلك الفترة ستعرف الحياة الثقافية رواجاً وانتعاشة كبيرة على مستوى إصدار المجلات.

ونستحضر هنا "الثقافة المغربية" التي كان يُديرها محمّد بنيس و"البديل" التي كان يُديرها بنسالم حميش و"الزمان المغربي" التي كان يرأس تحريرها سعيد علوش، و" الجسور" التي كان يُصدرها عبد الحميد عقار. هذه المجلات الأربع تمّ وقفها بقرارٍ سياسي في الثمانينات. مجلات أخرى توقّفت لأسبابٍ ماديةٍ في الغالب، أو لأسبابٍ غير سياسية بالضرورة، مثل مجلة "أقلام" ومجلة "القصة والمسرح" و"اختلاف" و"أبعاد فكرية" و"أمل" و"الجدل" و"الأزمنة الحديثة" و"اللسان العربي" و"الزمان المغربي" و"الكتاب المغربي" و"لسان الحكمة" و"المناظرة" و"المقدّمة" و"الملتقى" وغيرها من المجلات التي نشطت خلال سنوات السبعينات والثمانينات. 

وستستمر بالمقابل المجلات التي تصدرها وزارة الثقافة مثل "المناهل" والثقافة المغربية"، أو المجلات التي تصدرها هيئات ثقافية تبذل جهداً في توفير الإمكانات المادية والأدبية مثل مجلة "آفاق" التي يُصدرها اتحاد كُتّاب المغرب، وهي متوقّفة الآن بشكلٍ مؤقّت على ما يبدو، ولاحقاً مجلة "البيت" التي يُصدرها بيت الشعر في المغرب.

في فترة التسعينيات وجدنا أنفسنا أمام ظاهرة جديدة، وهي إصدار مجلات صغيرة لا تنتظر بالضرورة أن تمرّ عبر المطابع، وقبلها مؤسّسات الترخيص. إذ أصدر عدد من الكُتّاب مطويات منسوخة توزَّع عبر البريد أو من يدٍ إلى يد، ونستحضر هنا نموذج "الغارة الشعرية"، و"المركب الشعري" و"مكائد" و"الدبوس". وكل هذه التجارب اختفت نهائياً، ليبدأ العالم الثقافي في الانتقال بالتدرّج من الورق إلى شاشات الحواسيب. غير أن اختفاء هذه المجلات سينخفض معه بالضرورة منسوب النقاش الثقافي الذي كان مُنصبّاً في الغالب خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات على الأفكار والتصوّرات الثقافية، وعلى تفكيك ومناقشة التجارب الأدبية من الداخل.

مع نهاية التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة، إلى وقتنا الراهن، ستظهر مجلات ثقافية مطبوعة بمجهوداتٍ فردية أو بتكتلٍ جيليّ في أعداد محدودة في الغالب، مثل مجلة "تافوكت" و"مرافئ" و"إسراف 2000" و"مُقاربات" و"الموجة الثقافية" و"الصقيلة" و"طنجة الأدبية" و"مدارات" و"رؤى" و"علامات".

إذا كانت هذه حال الجرائد والمجلات، فحال التلفزيون أشدّ سوءاً. فلن تجد في الغالب أكثر من برنامجٍ ثقافي واحدٍ في كل قناة من قنواتنا الوطنية. وبالتالي لا يتجاوز حضور الثقافة نصف ساعة في الأسبوع. أي بمعدّل خمس دقائق في اليوم داخل تلفزيون يُقدِّم على مدار 24 ساعة في اليوم الكثير من السياسة والدراما. ويمكننا أن نستثني من هذه العتمة الإذاعة الوطنية التي مازالت تؤمِن بأن الثقافة ضرورية وحضورها أساسي في الإعلام. أما الإذاعات الخاصة فهي توجد بعيداً عن كل ثقافة.

وفي الطريق إلى الضوء الذي نبحث عنه، تأسَّست قبل سنتين الرابطة المغربية للصحافة الثقافية برئاسة الصحافي والمتَرْجِِم محمّد جليد، وجاء في بيان التأسيس أن الرابطة تهدف إلى "الترافع عن مكانة الثقافة في الممارسة الإعلامية، وتوسيع حيِّزها في الإعلام العمومي والخاص، والإسهام في تطوير شروط ممارسة الصحافة الثقافية، ومساعدة الصحافي الثقافي على أداء مهامه كلها في أحسن الأحوال".

والحقيقة أن الصحافة الثقافية في المغرب تعيش محنة مركَّبة، يتداخل فيها المادي والأدبي، وعلى كل الجهات التي تشتغل في الحقل الثقافي، أو في الحقل الصحافي، أن تفكّر في إعادة بناء ذلك الجسر الأساسي والمهم الذي يربط الثقافة بصحافتها.