رشفة قهوة مع محمود درويش

"أُريد رائحة القهوة. أريد خمس دقائق. أُريد هدنة لمدة خمس دقائق من أجل القهوة. لم يعد لي من مطلبٍ شخصي غير إعداد فنجان القهوة. بهذا الهوَس حدّدت مهمّتي وهدفي. توثّبتْ حواسي كلُّها في نداءٍ واحدٍ واشرأبّت عطشى نحو غاية واحدة: القهوة".

وددتُ لو أن عطر القهوة أمام نافذة تطلّ على الشارع، مع بُخارٍ يتعالى مثل غيمة تغطّي فنجان القهوة صباحاً، أن يبقى لفترةٍ أطول، كما لو أنني أستعيد كلمات محمود درويش وهو يقول (هي مفتاح النهار ) غير أنني أحبها أكثر مع الأصدقاء في المقهى. كان ارتشافها ببطء يجعل الحوار مُمتعاً ونحن نقلّب بعض الآراء حول الكُتب والقراءات لتصبح المقاهي مفتاحاً للأدب. ولا أريد هنا أن أردّد ما قاله كل من عبد المنعم شميس وجيرار جورج لومير عن أثر المقاهي في الحياة الفكرية والأدبية، لكنني موقِن أن وراء كل ذلك هو الألفة التي تصنعهما القهوة والشاي الساخِن في استدعاءِ ذاكرةٍ لا تتوقّف عن التجلّي في الحوار.

لم أنتظر طويلاً حتى جاء بعض الأصدقاء للحديث عن أزماتنا اليومية كالعادة، ومنها إلى كل هذه المشاعر الثقيلة التي تضعنا بها الأجواء السياسية والاجتماعية. أن يكون الهدوء الذي تمنحه القهوة هو نفسه لحظة التفكير في إيجاد تفسير ما بين رشفةٍ وأخرى، ويبدو أن هذا الهدوء النفسي لطقس القهوة حفَّز شاعراً إنكليزياً مثل روبرت مونتغمري لربط الشعر والكلمات بالقهوة والشارع، في محاولةٍ للتعبيرِ عن قدرةِ المدينةِ على احتضانِ التنوّعِ الثقافي للمجتمعِ بصفتها مساحة حرّة للحياة. كما ساهم العديد من شركات تصنيع القهوة بإقامة مهرجانات خاصة بدعم منتوجها مقابل نصوص شعرية ذات طبيعة أدائية تستعرض طقس الألفة الذي تمنحه القهوة.

في الثقافة العربية بدأت القهوة مع المُتصوّفة الأوائل لأنها تساعدهم على السهر والاستمرار في العبادة. القهوة لصيقة بنشوةِ الليل والكلمات. موطن العزلة والسرحان في الكون. فلا غرابة بعد ذلك أن نرى الشعراء يقرنوها بالخمر ويصفها أبو نواس:

يا خاطبَ القهوةِ الصهباءِ يمهرها               

بالرِّطل يأخذ منها مِـلْـئَـه ذهبا

يا قهوةً حرِّمتْ إلا على رجلٍ                   

أثرى، فأتلف فيها المالَ والنَّـشَـبا

وربما نستطيع القول إن ربط القهوة بالخمرة لم يكن اعتباطياً أبداً. إذ ليس اللون هو الرابط بل فعلها المباشر في جسد الإنسان وعقله. كما أنه مشروب اتّسم بفحولةِ الإنسان العربي وطبيعة صحرائه المفتوحة، وخيمته التي تشبه محيطه البيئي وتفكيره المُجرّد بالوحدانية المُفرطة حد التماهي والانسجام مع الكون.

ربما من أجمل ما كتبه الشاعر الفرنسي جاك بريفير عن القهوة هو قصيدة (إفطار الصباح) عام 1946، والتي يقول فيها:

وضع القهوة

في الكوب

وضع اللبن

في كوب القهوة

وضع السكر

في القهوة باللبن

بالملعقة الصغيرة

قلّب

شرب القهوة باللبن

دون أن يكلّمني

أشعل

سيجارة

صنع دوائر

بالدخان

إنها لحظة عزلة صباحية تقودها نشوة اللذّة بشرب القهوة صباحاً إلى درجة الغيبوبة التي تجعله لا يتحدّث مع حبيبته أو بالأحرى لم يرها قط، فلا غرابة بعد ذلك أن يتحدث شاعر بمكانة محمود درويش عن خصوصيّة القهوة صباحاً وهو يقوم بتحضيرها المسافات تتداخل بينه وبين القهوة:

"كيف أذيع رائحة القهوة في خلاياي، وقذائف البحر تنقضٌّ على واجهة المطبخ المُطلّ على البحر لتنتشر رائحة البارود ومذاق العدم؟صرت أقيس المسافة الزمنية بين قذيفتين، ثانية واحدة .. ثانية واحدة أقصر من المسافة بين الزفير والشهيق، أقصر من المسافة بين دقّتيْ قلب .. ثانية واحدة لا تكفي لأن أقف أمام البوتاغاز المُلاصِق لواجهة الزجاج المُطلّة على البحر .. ثانية واحدة لا تكفي لأن أفتح زجاجة الماء، ثانية واحدة لا تكفي لأن أصبّ الماء في الغلاّية. ثانية واحدة لا تكفي لإشعال عود الثقاب. ولكن ثانية واحدة تكفي لأن أحترق".

هذا الانجراف الكامل لنشوة القهوة وطقسها الفرداني مع ذات الشاعر واحتواء العالم في كلمات، هو ما جعل محمود درويش يُعلن عن حاجته الماسّة لهدنةٍ مع ضدّه ومع نقيضه ومع نفسه أيضاً:

"أُريد رائحة القهوة. أريد خمس دقائق. أُريد هدنة لمدة خمس دقائق من أجل القهوة. لم يعد لي من مطلبٍ شخصي غير إعداد فنجان القهوة. بهذا الهوَس حدّدت مهمّتي وهدفي. توثّبتْ حواسي كلُّها في نداءٍ واحدٍ واشرأبّت عطشى نحو غاية واحدة: القهوة".

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]