هل يتحدّث الجزائريون اللغة العربية؟

لايزال المشارقة يشتكون من عدم قدرتهم على التواصل مع المغاربة لاستحالة فَهْم "لغتهم". فهل حقاً الأمر ذلك؟

لايزال المشارقة يشتكون من عدم قدرتهم على التواصل مع المغاربة عموماً، والجزائريين منهم على وجه الخصوص، لاستحالة فَهْم "لغتهم". ويتم ترديد سرديّات عن تحدّثهم بالفرنسية أو بالأمازيغية، فهل حقاً الأمر ذلك؟

الإجابة عن هذا السؤال تُحيلنا إلى إطلالة، مُبسّطة، على علاقة اللهجات العربية باللغة الفُصحى وعلى أهم التأثيرات وكذا المُميِّزات التي تختصّ بها اللّهجة الجزائرية.

اللّهجات العربية واللغة الفُصحى

إبن خلدون

ينتشر بين عامّة العرب القول بأن اللغة الفُصحى كانت في العصور الإسلامية والجاهلية، لغة للتواصل. هذه المُغالطة ينفيها العديد من الباحثين العرب، من العصر الحديث، الذين درسوا وأرّخوا للتطوّر التاريخي للغة العربية كالمؤرّخ العراقي جواد علي، أو من القدماء كإبن خلدون وأبي منصور الثعالبي وغيرهما، أو ما تنقله لنا كتب التراث عن "لغات القبائل العربية" والفروق في النطق والصياغات اللغوية بينها أو بين لغة أهل المدن والبدو في عراق العصر العباسي مثلاً.

الثابت أن اللغة الفُصحى التي نعرفها والتي كُتِبَ بها الشعر الجاهلي، ثم أضحت "لغة معيارية" في العصور الإسلامية، فرضت نفسها بسبب ما تمتّعت به قريش في جزيرة العرب من مكانة دينية وتجارية.

ومِمّا يُنقل لنا عن تلك الفروق "كسكسة" بني أسد وهي إبدال الكاف سيناً أو "كشكشة" حِميَر وهي إبدال الكاف شيناً ..الخ .

كما أن ما يُميّز لهجات عربية حالية في نطق بعض الكلمات كقول بعض العرب اليوم "انطيني "بدل "أعطيني"، نجدها في لغة عرب اليمن وقد قرأوا مثلاً الآية "إِنّا أنْطَيْنَاكَ الكَوْثَرْ".

من الطبيعي أن ينقل "عرب الفتح" بقبائلهم المختلفة، لغاتهم إلى المغرب (الذي كان يسكنه البربر) والأندلس في القرن الثامن ميلادي، فما هي أهم التأثيرات التي شكّلت في النهاية "اللغة المحكية" التي يتواصل بها الجزائريون اليوم؟

اللهجة الجزائرية بين التأثير الهلالي والأندلسي

اللهجة الجزائرية بين التأثير الهلالي والأندلسي

وصلت الدولة الفاطمية التي قامت على عصبية قبيلة "كتامة"(مع حلفائها من صنهاجة) البربرية في شرق الجزائر إلى ذروة قوّتها في عهد المُعزّ لدين الله الذي عزّز طموحه في توسيع "خلافته" بنقل عاصمة دولته إلى القاهرة التي اختطّها بعد السيطرة على مصر سنة 968 م وأخلف بلكين بن زيري الصنهاجي على حُكم المنطقة.

لكن أحفاده تملّكهم الطموح بالاستقلال عن الحُكم الفاطمي في مصر ولمّا لم يكن بإمكان الفاطميين إرسال جيوش لإخضاع التمرّد، قرّروا فتح المجال أمام قبائل بني هلال وبني سليم للهجرة إلى بلاد المغرب - تونس والجزائر ابتداءً من 1052 م- التي استقرّت في سهول وهضاب وصحاري الجزائر (والمغرب عموماً) بعد أن أصبح لها دور كبير في مسار الأحداث التاريخية للمنطقة ككل.

ثم تلاحقت بعد ذلك هجرات لقبائل عربية أخرى كالطرود وعدوان في القرن 14 م فكان لاستقرارها التأثير الأكبر على انتشار لغة هذه القبائل العربية، باختلافاتها في البلاد، التي كان يغلب عليها اللسان البربري (الأمازيغي) بمختلف أشكاله، الزّناتية والصنهاجية.

فاللهجة الجزائرية اليوم هي من تفرّعات لهجات قبائل بني هلال (بني رياح في شرق البلاد، وبني عامر بن زغبة في غربها) وبني سليم في منطقة "الزّاب" في الجنوب الشرقي ولهجات قبائل الطرود وعدوان في منطقة وادي سوف المحاذية للجنوب التونسي، بالإضافة إلى لهجة عرب المعقل اليمانية في أقصى غرب البلاد على الحدود مع المغرب الأقصى.

إذاً فاختلاف اللهجة في الجزائر راجع بالدرجة الأولى إلى اختلاف أصولها القبلية. تَتَبًّع الأصول القبلية هذه، يمكن أن يُفسّر لنا وجود كلمات قد لا يتصوّر المرء أن يجدها في غير بيئته المحلية في مناطق عربية بعيدة ، ككلمة "اخزر" بمعنى "أنظر"، والتي ينطقها البعض من العراقييّن، وأيّ تفسير يمكن أن يُقَدًّم في هذا الصدد، غير استيطان بعض بطون قبائل بني هلال للجنوب العراقي.

إلّا أن اللهجة الجزائرية ينطبق عليها أيضاً الاختلاف التقليدي بين لغة الحضر ولغة البدو كما هي حال نطق حرف القاف حيث ينقل لنا إبن خلدون في مقدّمته أنّ "القاف الفصيحة" هي ميزة أهل المدن فيما استعمل عرب البادية "القاف البدوية". ويرجع إبن خلدون اختلاف نطق القاف بينهم -"من أعلى الحنك هو لغة الأمصار، والنطق بها ممّا يلي الكاف هي لغة البدو"- إلى اختلاف الأصول في لغة العرب منذ القدم، فيرى أن "القاف البدوية" متوارثة بينهم كما "القاف الفصيحة" التي نطق بها أهل المدن. فكثير من "عرب الفتح" سكنوا الأمصار.

المُلاحظ هنا أن ما كتبه إبن خلدون لا يزال صالحاً إلى اليوم، ولم تمتاز أية منطقة في الجزائر ب"القاف المهموزة" سوى مدينة تلمسان في غرب البلاد. لكن التأثير اللساني الأندلسي على اللهجة الجزائرية ظاهر بدوره في المناطق التي استوطنها الأندلسيون بعد سقوط مدنهم المبكر (قرطبة 1236 م ،إشبيلية 1248م إلى غرناطة في 1492 م )، كالبليدة وتلمسان وقسنطينة ...الخ في "القاف الفصيحة" كما في "الامالة" و"التصغير" وهي بعض من خصائص اللسان الأندلسي.

ومن بين المميّزات التي تختصّ بها اللهجة الجزائرية هي عدم نطق الهمزة كأن يُقال "راني مريض" بدل "أراني مريض" أو "الرّاي" بدل "الرّأْي". وعلى الأرجح هذا ما جعل المغاربة يُفضِّلون رواية ورش لقراءة القرآن التي تمتاز بهمزة الوصل، بدل همزة القطع عند حفص، وأيضاً تسْكين أول حرف من الكلمة بحيث يكفي أن نُسقط هذه "القاعدة" حتى يُصبح نطق الكثير من الكلمات مُماثلاً لنطقها المشرقي مثل: بحر، سماء، لحم.

يبقى أن نؤكّد على أن غياب تبادل الإنتاج الفنّي والتواصل، هو من الأسباب الرئيسة لهذه "القطيعة اللغوية" بين لهجات المشرق والمغرب العربيين.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]