الغتيـري للميادين نت: الكاتب الذي لا ينطلق من بيئته يُضيّع الكثير

هو روائي أغنى الساحة الأدبية المغربية برواياته وقصصه منذ تسعينيات القرن الماضي، وهو من الكتّاب الجادين والمواظبين على تطوير آليات الكتابة الإبداعية لديهم، تشهد على ذلك إنتاجاته التي بلغت خمسة وعشرين مؤلّفاً. إنه مصطفى الغتيري الذي استضافته الصفحة الثقافية في الميادين نت عبر هذا الحوار الذي أجراه معه ميلود لقـاح.

الغتيـري للميادين نت: المُبدع الذي لا ينطلق من بيئته يُضيّع الكثير

بعد تجاربَ روائيةٍ حاولتْ تشكيل المشهد الروائي المغربي بداية من الجيل المؤسّس (التهامي الوزاني وبعده عبد الكريم غلاب وعزيز الحبابي ومبارك ربيع...) وجيل السبعينيات الذي ارتبط بما هو سياسي واجتماعي (زفزاف وشكري .... ) وموجة التجريب الروائي في الثمانينيات (أحمد المديني وعز الدين التازي...) ظهر جيلك الذي ضمّ عدداً من الروائيين الذين لفتوا انتباه القرّاء والنقّاد. بمَ تتميز تجربة جيلك عن التجارب السابقة؟

عرفت الرواية المغربية تراكماً ملحوظاً، انطلق مع خمسينيات القرن الماضي برواية "الزاوية" للتهامي الوزاني وما زال مستمراً إلى اليوم، وقد تميّزت كل فترة كما جاء في سؤالك بمميّزات خاصة، لا داعي لإعادة ذكرها، لنركّز على ما يميّز الجيل الذي أنتمي إليه، ولعلّ أهم ما يلفت الانتباه بالنسبة لهذا الجيل، هو العدد الملحوظ للروائيين الذين يساهمون في إغناء المتن الروائي وهو عدد في تنامٍ مستمر، ما جعل عدد الروايات المُنتجة كبيراً نسبياً.

ثم يلاحظ كذلك استقطاب الفن الروائي لأدباء من أجناسٍ أخرى كالشعر والنقد مثلاً، أما على مستوى تكنيك الكتابة، فيمكن أن نسجّل عودة الروائيين إلى حضن الحكاية، فبعد أن أجهزت مرحلة التجريب على هذا المكوّن الأساسي في العمل الروائي، مقابل الاهتمام باللغة وتشذير الزمان، استطاع الروائيون الجدُد توظيف الحكاية في روايتهم ولعلّ هذا ما جعلها تتصالح نسبياً مع القارئ الذي أدّت موجة التجريب إلى نفوره من الرواية.

الغتيـري للميادين نت: المُبدع الذي لا ينطلق من بيئته يُضيّع الكثير

في كل بلد عربي تقريباً روائيون تجاوز صيتهم أقطارهم، وفرضوا أسماءهم بقوّة في الساحة العربية (نجيب محفوظ، حنا مينه، واسيني الأعرج،  الطاهر وطار، إبراهيم الكوني، الحبيب السالمي، حيدر حيدر، إبراهيم أصلان، يوسف القعيد، صنع الله إبراهيم، عبد الرحمن منيف ....) وهذا ما لا ينطبق على الروائيين المغاربة. ما هو في نظرك سبب فتور صيت الرواية المغربية على المستوى العربي؟

رغم أن المقارنة صعبة ولا تستقيم كلياً، يبقى هذا الكلام نسبياً جداً، فلا أحد مثلاً ينكر شيوع إسم محمّد برادة مثلاً وبنسالم حميش وأحمد المديني كروائيين مغاربة لهم حضور عربي قوّي. كما أن هناك أسماء لفتت الانتباه في المدّة الأخيرة، خاصة تلك التي فازت بجوائز مشرقية أو على الأقل حضرت في قوائمها الطويلة والقصيرة.

هذا بالإضافة إلى أن دور النشر المشرقية تقبل بكثافة على نشر الرواية المغربية وهذا ما لم يكن متاحاً سابقاً، كما أن المتن الروائي المغربي حاضر في الدراسات النقدية العربية. بمعنى أن الصورة ليست سوداوية تماماً، ربما يعود عدم بروز الأسماء المغربية إعلامياً إلى قصور كبير في الإعلام المغربي الذي لم ينجح في خلق وسيلة اتصال مؤثّرة سمعية أو بصرية أو مكتوبة، لذا ما زلنا نحتاج إلى الإعلام العربي المشرقي لتسليط الأضواء على الأدباء المغاربة، فللأسف حتى المغاربة لا يعرفون أدباءهم فأحرى أن يعرفهم المشارقة، فالإعلام عندنا مشغول بأمور أخرى وهو أبعد ما يكون عن النجاعة والكفاءة والمسؤولية التاريخية والوطنية المنوطة به.

الغتيـري للميادين نت: المُبدع الذي لا ينطلق من بيئته يُضيّع الكثير

لعلّك أغزر إنتاجاً بين كتّاب جيلك. ما الذي يُميّز تجربتك عن تجاربهم؟

لا أدّعي أبداً أنني أتميّز عن روائيي الجيل الذي أنتمي إليه، ولكنني أتكامل معهم في محاولة رسم لوحة الفن الروائي المغربي خلال الألفية الثالثة، من خلال وطء قارات تخييلية لم تطأها أقدام من سبقونا من المبدعين.

أعتبر بهذه المناسبة الكمّ غير مؤثّر وحاسم في مسيرة أيّ كاتب، فالإضافة التي يحقّقها الكاتب هي الفيصل، وهذا ما يمكن للنقّاد أن يُجيبوا عنه، فإن تحقّق لي بعض ذلك فذلك ما أطمح إليه، وإن لم يتحقّق فيبقى لي شرف المحاولة.

في تجربتي الروائية حاولت أن أكون متنوّعاً على مستوى الثيمات والتقنيات، فقد حاولت التعبير روائياً عن موضوعات مختلفة انطلاقاً من الاهتمام بالمكوّن النفسي للشخصية المغربية ومروراً بالمكوّن الإفريقي والأمازيغي للهوية المغربية، كما اشتغلت على الأسطورة المغربية والخرافة والتصوّف ومشاكل الشباب والهجرة والمرأة المغربية تجاه معضلة الطلاق على الخصوص.

كما كتبت الرواية البوليسية والرواية التاريخية والرواية الاجتماعية. أما على مستوى التكنيك فحاولت أن تكون روايتي متنوّعة في هذا البُعد كذلك، فكتبت رواية تعدّد الأصوات في "على ضفاف البحيرة" ورواية "تيار الوعي" في رواية "رجال وكلاب" ورواية الحكاية التراثية في "الأطلسي التائه" والميتارواية في "ليلة إفريقية" و"إبن السماء"، ورواية داخل رواية وتقنية دمى البابوشكا الروسية كما سمّاها الناقد السوري أحمد جاسم الحسين في قراءته لروايتي ليلة إفريقية.

الغتيـري للميادين نت: المُبدع الذي لا ينطلق من بيئته يُضيّع الكثير

تحرّكك إلى الكتابة في أغلب رواياتك نزعة مغربية (تراتيل أمازيغية - الأطلسي التائه - حسناء إمْزورَنْ – عائشة القدّيسة)، ما وراء ذلك؟

أؤمن دوماً بأن المُبدع الذي لا ينطلق من البيئة التي يعيش فيها ويستثمرها في كتاباته يُضيّع على نفسه الكثير، لهذا تجد أغلب رواياتي تنطلق من البيئة المغربية ثم تتّسع الدائرة تدريجاً لتشمل ما هو عربي وإفريقي وعالمي، فباعتباري إنساناً ينتمي إلى هذه البقعة من الأرض وإلى شعب مُحدّد يهمني أكثر الانشغال بهموم هذه البقعة وهذا الشعب.

كما أنني حين أقرأ لروائيين من دولٍ أخرى ألاحظ هذا الاهتمام لإبراز مؤهّلات الوطن الذي ينتمون إليه، فحفّزني ذلك لتسليط الضوء على ما يتميّز به وطني خاصة في ما يتعلق بتعدّد مكوّنات هويته الذي يُعتبر غنى وقوّة إن حَسُنَ استثماره، كما ركّزت على تراثنا المحلي من خلال استثمار أساطيره وإبراز رجالاته كما فعلت بالنسبة لأبي يعزى الهسكوري في رواية الأطلسي التائه.

الغتيـري للميادين نت: المُبدع الذي لا ينطلق من بيئته يُضيّع الكثير

قلتَ سابقاً إنك "تحلم بنيل جائزة محترمة ". هل مازال الحلم قائماً؟

بطبيعة الحال يسعى كل كاتب إلى نوعٍ من الاعتراف بمجهوداته، وتبقى الجوائز إحدى آليات الاعتراف، ولو أن جائزة القرّاء واهتمامهم تُعدُّ أكبر جائزة للكاتب. نعم ما زال الحلم يداعبني وسيبقى كذلك، ورغم أنني فزت ببعض الجوائز الأدبية وطنياً وعربياً، أتمنّى الإحراز على جائزة في المجال الروائي تتوّج إحدى رواياتي الجديدة. لأن ذلك سيوسّع دائرة الاهتمام بها.

الغتيـري للميادين نت: المُبدع الذي لا ينطلق من بيئته يُضيّع الكثير

أنتجت 25 مؤلّفاً، ولك حضورك في الساحة الإبداعية المغربية، وشكّلت حضوراً مهماً عربياً من خلال النشر في المشرق... ما الذي أبعد عنك هذه "الجائزة المحترمة"؟

أمر الجوائز معقّد وتتداخل فيه أمور عدّة، ومن الصعب الإلمام بها، أتمنّى أن يكتب لاحقاً تاريخ الجوائز أو أدب الجوائز فهو عالم غرائبي يستحق الاهتمام، بالطبع شاركت كباقي الكتّاب في عدد من الجوائز، وما زلت أشارك ودائماً هناك مَن يتطوّع من لجنة تحكيم جائزة ما، ليخبرني بعد مرور وقتٍ على إعلان الجائزة بأن الأمور ليست على ما يرام وطنياً وعربياً.

الغتيـري للميادين نت: المُبدع الذي لا ينطلق من بيئته يُضيّع الكثير

حاولت الاقتراب من عالم الأدب "الساحِر الشائِك" في كتابك (تأمّلات في حرفة الأدب). نودّ أن تحدّث القارئ  -  ولو باختصار - عن مضمون الكتاب.

ألّفتُ الكتاب رغبة مني في فهم عميق للأدب ووظيفته وتقنياته، وركّزت خاصة على ما يتعلّق بتكنيك الكتابة، الذي يُعدّ من أهم القضايا الخلافية في مجال الإبداع الأدبي عموماً، إذ أن أغلب الكُتّاب يتوزّعون إلى فسطاطين كبيرين، أحدهما ينتصر للكتابة التعبيرية، التي تتّخذ من البوح طريقها السالك في الإبداع، مع ما يستتبع ذلك من شكوى وألم، وإطلاق العنان للذات لتنثر عواطفها أو تنظمّها، فيما ينتصر الفسطاط الثاني للكتابة باعتبارها خلقاً، يساهم به الكاتب في إثراء الواقع بعوالم جديدة متخيّلة، بعيداً عن شبح الذات، الذي يترصّد الكتابة و يحدّ من موضوعيّتها وحيادها و بالتالي من توهّجها .

وقد تجنّبت، قدر الإمكان الوثوقية في الأحكام، رغم أنني أعلن أحياناً انتصاري لموقفٍ ما، بَيْدَ أنني عموماَ أتبنّى وأومن بأهم درس يقدمه لنا الأدب، وهو التواضع ونسبية المعرفة، والإيمان بالاختلاف، متمنياً من أعماق قلبي أن أساهم بقدر ولو بسيط في إثارة أو إعادة إثارة قضايا الإبداع التي تهّمنا جميعاً، خدمة لمستقبل الأدب في وطننا العربي من الماء إلى الماء.

الغتيـري للميادين نت: المُبدع الذي لا ينطلق من بيئته يُضيّع الكثير

كيف ترى مستقبل الرواية المغربية؟

بصراحة أنا متفائل جداً بمستقبل الرواية المغربية والعربية، ففي المدّة الأخيرة عرفت الرواية زخماً إبداعياً مشهوداً، وحضرت روايات في الجوائز العربية، وهناك اهتمام نقدي ملحوظ بها خاصة على مستوى الجامعة المغربية، في بحوث الإجازة والماستر والدكتوراه.

فقط أتمنّى أن تولي الدوائر الرسمية أهمية أكبر للأدب عموماً والرواية على الخصوص، فالشعوب تحتاج إلى من يصوغ آمالها وأحلامها وهمومها في كتابات تفخر بها، وليس هناك أفضل من الرواية لفعل ذلك. فالمخيال الروائي أيقونة عالمية تفخر بها الأمم فلِمَ لا يكون أيقونة مغربية كذلك.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]