لماذا نكتب الرواية؟

دوافعُ الإنسان نحو الكتابة كثيرة ... تعالوا نتعرف إليها.

عندما يقرّر الكاتب البدء بإنشاء الرواية يضع أمامه القصّة، الشخصيات، الإعداد، الموضوع، السيناريوهات، الجُمَل وإخراج أول بضعة آلاف من الكلمات، في حال من التدفّق اللغوي من خلال قوّة داخلية قاهِرة، وصولاً إلى دليل البقاء على قيد الحياة، ومن هنا ينبثق السؤال، لماذا نكتب الرواية؟ ما المُغري في كتابتها؟ وكيف يُمكن أن تؤثّر في مناحي الحياة المختلفة؟

حُفرة الأرنب

الكتابةُ الحكيمة تعني الخبرة المُتراكمة في صنع حُفر الأرانب[1]، أي وأعني انتقالِ شخص ما من حال  إلى حال أخرى "بشكل مثير" يشير إلى التغيير أو الدخول في عالم آخر.

وعملية كتابة الرواية أشبه بالسقوط ثم العودة من هذه الحفر، بمسار استكشافي طويل ومتفرّع، في مناقشة لأحداثٍ مختلفة، تعبّر عن الإنسان، بالإضافة إلى إعطاء الفرصة في ابتكار شيء سامٍ لإنقاذ الحياة، أو حتى البحث عن الأجوبة لتساؤلات لا تنتهي بشأن كلّ شيء (غامِض)، للوصول إلى الهدف الحقيقي من السّعي للطبيعة الحقيقية للواقع.

لماذا نكتب الرواية؟

ولا يمكن إنكار وجود دوافع خفيّة لدى الإنسان في النجاة من الموت، ومنها الخلود، فالكتابة تحقّق تلك الرغبة الفكرية في حال الوعي الشّديد بالكينونة وسّيرورة الزمن، وتصنع تحقيقاً للذات وأرشيفاً للحياة والتأريخ ، أو حتى ما يُعرَف بالسيرة الذاتية.

وتمثل كتابة الرواية عملية دموية، تستنزف الوقت وتطارد الكاتب في أحلك ساعات الليل، مثل "الخوض في نوبة طويلة من الأمراض المؤلمة، في صراع رهيب ومرهق"، كما يقول الروائي الإنكليزي جورج أورويل[2].

ومما لاشك فيه فإن الرواية من أكثر ألوان الأدب تفضيلاً للقرّاء، لأنها على تماسٍ مباشرٍ مع الحياة البشرية، فكل ورقة بيضاء تُكتَب هي بمثابة ولادة جديدة. ولكن هل هذا يكفي للإجابة عن السؤال؟

بالطبع لا .. فهناك عدّة دوافع ممكنة:

الأول: الرغبة في أن يكون الكاتب ذكياً وأن يُذكر بعد الموت من خلال خلق نوع من الأرشيف لمجموعة من الأحداث والحيوات، شاهداً يتوافق مع طبيعة الرواية بشكل فني وموضوعي وبما يعجز التأريخ في التعبير عنه.

الثاني: مواجهة العالم، بفتح التابوهات الدينية والسياسية والاجتماعية، والخوض في نقاش جدلي، يحرّض وعي القارئ نحو القضايا المهمّة المطروحة، والدفع في اتّجاه معيّن؛ لتغيير أفكار الآخَرين حول نوع المجتمع الذي ينبغي عليهم السّعي نحوه.

الثالث: الاستمتاع بالكلمات واللغة، والإبداع في خلق النثر الجيّد والقصّة الجيّدة، مثل الميل إلى الشعور بنشوة الهدوء، ورائحة العطر المُنبثقة من الورد.

الرابع: نشر المبادئ والقِيَم وبثّ الأمل وإنقاذ الحياة مراراً وتكراراً، مثل شظايا ضوء فضية تتسربل من بين الظلام، ذلك الوميض الذي يُضيء الطريق الأكثر عتمة وبؤساً.

الخامس: العزلة، واستعادة المشاعر المدفونة، وتحرير الأحاسيس من المنفى، والتعبير عما يجول في الأفكار، والغوص في الإحلام، واستذكار ما فُقِد.

السادس: التعبير عن الآخرين، وفتح الأبواب المُغلَقة أمامهم، من خلال المشاركة في تجربة يشعر المرء أنها قيّمة، أو الخوض في تجاربهم الحياتية .. إلخ.

دوافعُ الإنسان نحو الكتابة كثيرة، ويتبيّن أنها أكثر مما نظنّ، كما وتختلف من كاتبٍ إلى آخر، عِوضاً عن كونها متحوّلة بحسب المرحلة التي يمرّ بها الكاتب نفسه.

الرواية مرآة الإنسان

قبل عقود كانت التجارب الذاتية والنضالية محور أعمال الروائيين العرب، ومع تطوّر الأحداث والتحوّلات السياسية والاجتماعية الكبيرة والمُتغيّرات الاقتصادية في العالم العربي، تقلّصت المسافة الزمنية بين الحدث والإنتاج الروائي.

وتعتبر الرواية وثيقة اجتماعية تلاقي اهتماماً بترجمتها للإنكليزية وبقيّة اللغات الحيّة، وعاملاً مؤثّراً في حركة المجتمع وتحوّلاته، وبديلاً عن العلوم الإنسانية، كما باتت مدخلاً لفهم المجتمعات العربية وتعقيداتها والمخاضات التي تمّر بها.

فكيف رصدت الرواية هذه التحوّلات؟ وكيف أرّخت للأحداث وتفاصيل الحياة الإنسانية؟

"شرق" عبد الرحمن منيف

"انهالت عليّ آلاف الضربات بالكرابيج والأحذية، ضربوني بأحذيتهم على وجهي المتدلي، قفز واحد منهم على كتفي، كانت يداي مربوطتين وراء ظهري، وضعوا عصا غليظة بين إليتيّ، ضحكوا وأنا أتلوى، بصقوا علي، أحسست بماء ساخن فوق ظهري.. هل كانت دمائي تتفجّر في مكان ما وتترنّح بسخونتها؟ هل قطرات من البول؟ هل كانت شيئا آخر!؟".

النصّ جزء من رواية "شرق المتوسّط" عام 1975 للروائي السعودي عبد الرحمن منيف[3]، جلسة تعذيب من الجحيم المستعر لشخصية البطل، المُعتقل السياسي رجب إسماعيل، في صورة متكاملة الأبعاد، تحكي قصة السّجن في أكبر تجليات لعنة القمع في العالم العربي.

كشفت الرواية بشاعة السجون التي تدمّر الإنسان وتلاحقه بآثاره حتى بعد أن يغادره، وتوضح حال السجين: موقفه ونفسيته وعائلته وماضيه ، مقيّد في حال حادّة بين الحياة والمّوت، في أن يجد نفسه مُكبّلاً بطين الجدران، مقيداً بالظروف والزمن.

يعبّر منيف - في روايته - عن مركزية دور الأمّ في حياة رجب وصموده، وتقول : "الحبس ينتهي، أما الذّل فلا ينتهي، لا تقل شيئاً عن أصدقائك". بهذه الكلمات يتناول السجناء الفلسطينيون (الأبطال) في سجون الاحتلال "الإسرائيلي" رواية "شرق المتوسّط" ليستمدّوا منها القوّة على الصمود والاستمرار.

"خرائط" بثينة عيسى

"نبيع كل شيء، ولا مال لدينا لنشتري أنفسنا، ماذا لو كانت قيمة الإنسان ميتا ًأغلى منه حيّاً؟ مضيق هرمز. خليج فارس، أو الخليج العربي. بئر برقان. بئر زمزم. الهلال الخصيب. فلسطين المحتلة. دلتا سيناء. البحر الأحمر. مضيق باب المندب. من مضيق إلى مضيق.. نبحثُ عن معنى. إذا لم يكن هناك ما يقال .. فلتَقُل ما لا يُقال".

دخلت الروائية الكويتية بثينة العيسى عالم الظلمات والتوحّش، وجغرافيا الرعب في رواية "خرائط التيه"[4]، وأثارت تساؤلات عديدة عن قيمة الإنسان في بعض مناطق العالم، حيث يتحوّل إلى سلعة ومصدر ثروة لشبكات الإتجار بالبشر والجريمة المنظمة الدولية. والقارئ يلهث من خلال شخصيات رسمتها بثينة بين الظلّ والضوء، الحقيقة والوَهْم، لمعرفة مصير "مشاري" الطفل الذي أُختطف من بين يديّ أمّه وأبيه في الحّج، وخاض رحلة العذاب، ليعود إليهما في النهاية، وقد تشوّهت طفولته بالاغتصاب والوجعين الجسدي والروحي.

تسفر الرواية في طرح جريء عن رحلة بحث تقود إلى رحلة بحث أخرى، أعمق، تضع الإنسان أمام معنى الوجود، والتدّين القِشَري، وعلاقات البعض بالآخر، وفي تعريـة للمسكـوت عنـه.

"وردة" صنع الله إبراهيم

عن طريق فتاة عُمانية إسمها "وردة"، يضعنا الروائي المصري صنع الله إبراهيم[5] أمام توثيق زخم بالأحداث والحقائق لجزء من مسارات الثورات، مع التركيز على مصر ولبنان واليمن، وتحديداً في محاولة جمهرة السلطنة العُمانية.

رواية "وردة" عام 2000 تجعل القارئ في رحلة عاصفة عبر ثلاثة عقود من البطولات والهزائم، الأحلام والآمال، الخيانات وسقوط المبادئ، وتمتد عبر فصولها لتفتح الأبواب أمام إدراك لعنة متوارثة ألا وهي الثورات العربية، وتوهّم الشعوب بالنّصر، حتى تصطدم بأن هناك نوعاً من الخديعة والغش والتزييف.

يمكن القول أن صنع الله ابراهيم مزج بين السياسة والفن الروائي في غالبية أعماله الروائية المتميّزة بحبكة السرد والحكي والتشابك، خاصة في رواية "شرف" ثالث أفضل رواية عربية، ليغدو مؤثّراً في موقفه الرافض للإمبرالية والهيمنة الأميركية والسلطة في أحد أشكالها التعسّفية، وليتعلّم منه القارئ بعض الوجوه النادرة في الواقع العربي المُفجِع.

"دنيا" علوية صبح

علوية صبح

لا يتوقّف الحديث عن السياسة في الرواية العربية حتى نجد زاوية أخرى عن المرأة في مأزق الحرب، فاللبنانية علوية صبح[6]، تحدّثت في روايتها "دنيا" عن المرأة ومُعاناتها خلال الحرب الأهلية – تلك الحرب التي أعادت صوغ لبنان بشراً وثقافة وأمكنة - تتحدّث عن ذاتيّتها وخصوصيّتها الأنثوية، إلى جانب الصراع المرير مع السلطة الذكورية التي تحاول قمعها وإقصاءها من مشهد الحياة.

تقول في استهلال الرواية: "العتمة الجاثية على صدر المدينة ، تزنّر الفضاء والسماء بسوادٍ كثيف". فالمدينة هي بيروت، المساحة العاثرة التي كلّما ودّعت خراباً انتظرت خراباً، والعتمة الجاثية حكاية قامعة مقموعة، إن تحرّرت من كبتها بدا الناس أكثر سوءاً.

من هنا، تأخذنا البطلة "دنيا" إلى بوحٍ عميقٍ عن حكايا النساء، وأوجاعهن الدفينة، الخوف وضياع الحقوق، عن الحاجة للحّب، والبحث عن القوّة، عن واقع أكثر رأفة بهن، بعيداً من النظام الأبوي والزوجي الظالم، إنها دعوة صريحة وواضحة، وصرخة مدوّية لتحرير المرأة من الاضطهاد والقمع.

روايات لم تُكتَب بعد!

غسان كنفاني

يقول غسان كنفاني[7]: "إنّهم يحكمون عليكَ لأنهم لا يعرفونك". فكيف يمكن أن تُعرف إن لم تكن لديك مُخيّلة، كيف يمكن أن تُفهم إن لم تكتب وتوضح ما تريد الوصول إليه في إجابة السؤال الفلسفي عن المعنى.

فكتابة الرواية هي ذلك الشغف الذي تسقط فيه الروح على الأرض، للعيش حقاً، وحلّ الألغاز، وتتبّع مسار البحث الداخلي، وإزاحة الشكّ. فيمكن أن تكتب عن روايات لم تُكتَب بعد، سواء عن نفسك أو عن خلق آخر، أو من أجل تشكيل حياة الآخرين.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]

 

هوامش

[1] - حفرة الأرنب: مصطلح أدبي يقصد به الدخول إلى مكان مجهول بارتباك مثير، مأخوذ من رواية "أليس في بلاد العجائب" عام 1865 لعالم الرياضيات الإنكليزي تشارلز دودسون تحت إسمه المستعار لويس كارول.

[2] - جورج أورويل (1903-1950): صحافي وروائي بريطاني من أشهر رواياته من أدب الديستوبيا – عالم الواقع المرير - رواية 1948.

[3] - عبد الرحمن منيف (1933-2004): خبير اقتصادي وناقد ومن أهم الروائيين العرب في القرن العشرين، اشتهر بمعارضته للامبرالية وعاش خارج السعودية منفيّاً.

[4] - بثينة العيسى (1982): روائية كويتية، مُنِعَت روايتها "خرائط التيه" و "لماذا نكتب" من النشر والبيع في الكويت والسعودية.

[5] - صنع الله إبراهيم (1937): روائي مصري عُرِف بميله للاتجاه اليساري، وتتميّز روايته "اللجنة" بأنها عمل ساخِر من سياسة الانفتاح في عهد السادات كما رفض جائزة الرئيس حسني مبارك.

[6] - علوية صبح (1955): صحافية وروائية لبنانية تُعتَبر من المُدافِعات عن حقوق المرأة.

[7] - غسان كنفاني (1936 – 1972): روائي وقاص وصحافي فلسطيني، يُعدّ من أشهر الكتّاب والصحفيين العرب في القرن العشرين ومن المؤثّرين في الثقافة العربية والفلسطينية.