مارسيل ورامي ... أمسية دافئة في خريف باريسي

انتهت الأمسية، وخبت الأضواء، وسكنت الأوتار، وإذا بصقيع ليل باريس يشد حباله ليذكرنا مجدداً من نحن، ومن أين نحن، وعلى أي أرض نحن.

الخميس 25 تشرين الأول/أكتوبر. يوم عمل كلاسيكي ومساء خريفي يخيم على سماء باريس الصافية بشكل استثنائي مثير للغرابة في هذه الفترة من العام. الحرارة لا تزيد على ست درجات مئوية. الخطوات تتسارع عودةً إلى المنازل، والأيدي تبحث عن مخبأ لها في الجيوب. أما الوشاحات فتتصاعد تدريجياً حاجبةً معها أجزاءً من الوجه والهوية. هو البحث عن الدفء في أكثر أشكاله كلاسيكيةً.

أتاني الوعد بالدفء ذاك المساء على هيئة بطاقة لحضور أمسية لمارسيل ورامي خليفة مع ايميريك وستريتش. لعل "سانتا" وصل مبكراً هذا العام، أو ربما كانت بشائر عيد الشكر، أو عيد جميع القديسين، أو سموها ما شئتم. أوَلم تؤل جميعها إلى ما آلت إليه بفعل العولمة واستحالتنا إلى محض مجتمع استهلاكي يقتات على بقايا أفكار؟

مكان الأمسية: "Théâtre des Bouffes du Nord". ممتاز، فهي لن تكون إذاً كتلك الحفلات الموسيقية الضخمة التي تجري في فراغات شاسعة وأبعاد لا بشرية. دقت الساعة الثامنة والنصف، موعد بدء الأمسية. ما من ستارة لتفتح، بل هو جدار آجري متهالك يصرخ طالباً بعض الصيانة. لكن لا بأس، فهو يشبه بلونه وطبيعته مواقد الشتاء. يدخل مارسيل بوشاحه الأحمر بصحبة رامي وايميريك لاهثين مذعنين لنداء آلاتهم التي سئمت الانتظار، فبين مارسيل وعوده وحدة حال تماماً كتلك التي بين رامي والبيانو. يأخذ كل منهم مكانه. المشهد سوريالي، فبين مارسيل وابنه رامي من الشبه ما يجعل الناظر يخال نفسه أمام مارسيل عام 2018 ومارسيل عام 1982 في اللوحة عينها. إنهما الماضي والحاضر يتماهيان.

لم تكد تنتهي الأغنية الافتتاحية حتى أجاب مارسيل عن التساؤل في عيون البعض، إذ اضطر الثلاثي إلى إنهاء العرض السابق على عجل ليتمكنوا من لحاق هذا العرض، وأنه بقي للحضور السابق "في ذمتهم" أغنيتان، لكن هذا لن يكون الحال معنا.

حسناً. الآن قليل من البهجة مع أهزوجة "كانت الحلواية"، بدايةً بمرافقة الجمهور، ثم بصوت مارسيل منفرداً مع نغم عوده. أقول لنفسي، هذا كل ما كنت بحاجة إليه في مساء قارس البرودة كهذا المساء. ثم يبدأ رامي بمرافقته على البيانو، ويتسارع الإيقاع، ويعلو صوت الآلات الإيقاعية حتى طغى على صوت مارسيل ونغم عوده فبات بالكاد مسموعاً، وغاب الدفء معه. ها هو البرد يعود مجدداً إلى الأطراف. أتلفت يمنة ويسرة. هل من متطوع يخبر مارسيل أن أرجوك لا تسمح للحداثة ورياحها أن تذهب بدفء صوتك وحنان عودك؟

لا بأس، فلننتقل إلى قليل من الحماس عله يرفع حرارة الدم في عروقنا، وعلى نغم "منتصب القامة أمشي" تبادر سيدة فرنسية تجلس بجواري إلى كسر قواعد الصالة بمنع التصوير، عل عدستها تلتقط هذا الإيقاع العسكري الذي هبت نفحاته على الحضور. تلتفت إلي لتسألني عن معاني الأغنية. آه لو كنتِ تدرين.. في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي.. بدا لي أن الإيقاع راق لها، إذ شرعت بالرقص كما لو كانت في مناسبة احتفالية. وأنا أمشي وأنا أمشي وأنا وأنا وأنا أمشي.

لا مانع الآن من قليل من الرومانسية مع قصيدة حب ملتزمة، أما من يتعذر عليهم فهم اللغة العربية، فعذراً منكم، فكلام الحب لا يترجم، بل يحس. بهذه الكلمات افتتح مارسيل قصيدة "آخر الليل". نعم، إنه آخر الليل!

"اتركي أهلك

وأرضك

وملابسك القديمة

واتبعيني

أنظريني

أبني لموتنا الحامض الصغير بيتاً صغيراً

....

واسأليني

أتأخذني سيدي

إنني... أصطفيكِ".

عودة إلى الواقع. صوت مارسيل يعلن أننا سنستمع تالياً إلى جناز كُتب أساساً لبيروت، إلا أنه بات صالحاً اليوم لكل العواصم العربية.

"Requiem for Beirut". لا مكان للدفء والحنان هنا. طأطأ مارسيل رأسه معانقاً عوده، تاركاً الساحة لشريكيه في الأمسية. بالمناسبة، هل يقال في وصف المشهد: رامي والبيانو، أم البيانو ورامي؟ يبدو أن لا فرق، إذ وصل التماهي بينهما حداً باتا معه صنوان. أما رامي، وبلا مبالغة ذرف في تلك الأمسية قطرات عرق بعدد "النوتات" التي عزفها. لقد كان جناز إنسانيتنا جميعاً، فكلنا بلا استثناء شركاء في الجريمة!

ثم نفحة من المشاعر مع "أحن إلى خبز أمي" لم تكد تنتهي، حالُها حال كل شيء، حتى عدنا إلى الواقع مجدداً مع "جواز السفر" التي لم يعد إهداؤها مؤخراً حكراً على الفلسطينيين وحسب، بل باتت مهداة إلى السوريين والعراقيين والليبيين واليمنيين والمصريين ووو... كل قلوب الناس جنسيتي، فلتسقطوا عني جواز السفر. مجدداً يتنحى مارسيل تاركاً الساحة لبعض الحداثة. لا تتركنا شاحبين قالقمر! يرد علينا بأن أغنية كـ "جواز السفر" تغنى مرة في الشهر، أما هم فقد أدوها الليلة مرتين. تردد جدران المسرح المتداعية صدى صيحة أيوب ملء السماء: لا تجعلوني عبرة مرتين.. مرتين!

عندما شارفت الأمسية على نهايتها، ألقينا التحية رامي خليفة على البيانو، وايمريك ويستريتش على آلات الإيقاع، لكن "مهلاً مارسيل، ألم تنس أحداً؟". لم يترك مارسيل هذا السؤال برسم الإجابة طويلاً، إذ نادى ابنه الثاني بشار بين الحضور.

جاء بشار لتحية والده وتقبيل وجنته. طالت القبلة قليلاً، لعلها ترافقت مع همسة في الأذن. عاد بشار إلى كرسيه بين الحضور. لعله مسح بحركة واحدة دموعاً رطبت وجنتيه، أو لعلها مخيلتي لا أكثر. لا، فها هو يعيد مسحها مجدداً. أياً كان، لا يهم.

لكننا لم نغادر من دون كلمة أخيرة، والكلمة الأخيرة لمارسيل. ترى ماذا كان في جعبة "الريس" بعد ليقول لولديه ولنا بعد هذا النهار المتعب أفضل من "شدوا الهمة، الهمة قوية"؟ شُد الشراع، ومشى المركب حاملاً على ظهره جيلين، كل يشد إلى طرفه حين يرخي الطرف الآخر، ويا بحرية هيلا هيلا!

انتهت الأمسية، وخبت الأضواء، وسكنت الأوتار، وإذا بصقيع ليل باريس يشد حباله ليذكرنا مجدداً من نحن، ومن أين نحن، وعلى أي أرض نحن.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]