معهد الاستشراق الروسي: شابٌ في الـ 200 من عمره

يعتبر معهد الاستشراق في موسكو اليوم المركز العلمي الأول عالمياً في مجالات اختصاصه.

قدّر لي أن أشارك في جانب من الاحتفالية المئتين لولادة معهد الاستشراق التابع للأكاديمية الروسية للعلوم في موسكو، في إطار المؤتمر العلمي الرابع لعموم روسيا "تاريخ الاستشراق بين التقليد والحداثة"، في قاعة المجالس العلمية، وكانت مشاركتي بعنوان "المشرق أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في قصص أغاتانغل كريمسكي وستيبان كوندوروشكين"، يسّر جلستها المستشرق الشاب الكسي سارابيف، بمشاركة أكاديميين وباحثين وممثلي "البيت اللبناني في روسيا"، عرضتُ خلالها كتاب "من بيروت.. وعنها - أوراق أوراسية في التفاعل الثقافي".

وقد أتت المشاركة إلى جانب عشرات الأوراق البحثيّة والعلميّة الجديدة التي ما زالت تمدّ المعهد بدم جديد كل عام، فيسترد شبابه.

تأسس معهد الاستشراق في تشرين الأول/ أكتوبر 1818، في مدينة سان بطرسبورغ، باسم "المتحف الآسيوي التابع للأكاديمية الإمبراطورية للعلوم" بطلب من رئيس الأكاديمية الكونت سيرغي أفاروف (1786-1855)، الذي كان قبل مدة يسعى إلى تأسيس الأكاديمية الشرقية وأعدّ خططه لذلك.

وبالفعل، انتظم العمل في المتحف - المعهد، وتولّى إدارته المستشرق الألماني الأصل كريستيان مارتن فران (1782-1851)، وغدا يصدر البحوث والدراسات والدوريات المتعلقة باللغات والعلوم الشرقيّة، إلى جانب إرساله البعثات العلمية إلى الشرقين الأدنى والأقصى.

في مطلع القرن العشرين، غدا المعهد من أهم مراكز الأبحاث العالمية المتعلقة بالشرق، حيث عمل فيه مستشرقون معروفون، متخصّصون بالتاريخ والآثار والإيديولوجيات، إلى جانب إثنوغرافيين ولغويين وأنثروبولوجيين ونقاد أدبيين. وباتت أسماء علماء المعهد ومتخصّصيه راسخة في التاريخ العلمي لروسيا والعالم. أعادت السلطات السوفياتية تنظيم المؤسّسات الشرقية التابعة لأكاديمية العلوم في العام 1930، فدمجت "المتحف الآسيوي" بمعهد الثقافة البوذيّة وقسم العلوم التركية، في معهد واحد للدراسات الشرقية في الأكاديميّة السوفياتيّة للعلوم، رأسه المستشرق سيرغي أولدنبورغ (1863-1934)، الذي كان قد شارك في البعثة الروسية التركية الأولى سنة 1909.

على الرغم من أنّ وفاة أولدنبورغ أتت بعد فترة وجيزة من الولادة الثانية للمعهد، إلا أنّه تطوّر بسرعة، وانتقل في العام 1950 من العاصمة الشمالية (التي كانت تسمّى لينينغراد) إلى موسكو، وسمّي بين العامين 1960 و1970 بمعهد شعوب آسيا، قبل أن يسترد إسمه من جديد، ويُخصَّص له فرع في العام 2007 في سان بطرسبورغ سمّي بمعهد المخطوطات الشرقيّة التابع لأكاديمية العلوم.

ويعتبر معهد الاستشراق اليوم المركز العلمي الأول عالمياً في مجالات اختصاصه، فهو يغطّي مروحة واسعة من الفضاءات البحثية في الدراسات الشرقيّة، تمتد بحوثه العملية والنظرية من الساحل الغربي لشمال إفريقيا إلى جزر المحيط الهادئ، ويغطي التسلسل الزمني لآلاف البحوث جميع الفترات التاريخية من العصور القديمة إلى الوقت الراهن.  

مبنى روجديستفينكا

بعد ساعة من الوقت قضيتها متجولاً في قلب موسكو البارد، بين الساحة الحمراء والـ"تسوم" (المجمع المسكوبي التجاري المركزي)، أصلُ إلى المبنى العتيق على شارع روجديسفينكا، الذي حلّ فيه المعهد قبل نحو سبعة عقود.

المعهد من بوابته الخارجية إلى باحته وطبقاته خلية نحل، تلتقي العين بعشرات الوجوه العربية والوسط آسيوية فيه، إلى جانب أوروبيين وأميركيين، لطلاب وأساتذة وباحثين.

في الداخل، يستوقفني الحارس العجوز، مطبّقاً كامل بروتوكوله الأمني، فحتى لو كنت مشاركاً في ندوة أو محاضراً لا بد أن يذكر الإسم والتوقيت في لائحة معدّة سلفاً، وإلا عليك أن تنتظر كي يأتي من يوقّع عنك من أساتذة المعهد.

أثناء الوصول إلى قاعة المجالس العلمية، يمرّ الزائر بعشرات الأقسام والمراكز البحثيّة، لكل قسم أو مركز تسمية خاصّة به، معظمها متصّل باللغات والشعوب، من بحر اليابان شرقاً إلى سواحل الأطلسي الإفريقيّة. تنتج هذه الأقسام، بالإضافة إلى المجالس العلمية وإدارات التحرير عشرات المطبوعات العلمية بشكل منتظم، بينها دوريات بلغات مختلفة على رأسها الروسيّة يعرفها الباحثون حول العالم، منها: مجلّات "فوستوك" (الشرق)، "فيستنيك" (بشير معهد الاستشراق)، "جنوب شرق آسيا – قضايا التنمية"، "التحليل الشرقي"، "الأرشيف الشرقي"، "آسيا وأفريقيا اليوم"، "الدين والمجتمع في الشرق"، وغيرها من الدوريات المُنتظمة الصدور.

أما على الطبقة الثالثة من المبنى، حيث قاعة المجالس العلمية التي تستضيف المؤتمر، فقد اجتمع فيها المستشرقون والباحثون للاطّلاع على كل جديد ومناقشته، وكيف لا فالمؤتمر يحمل إسم "الاستشراق بين التقليد والحداثة".

تتنوّع الأوراق البحثيّة المطروحة في المؤتمر، بعضها تقليدي يبحث في الاستشراق وتاريخه، أما بعضها الآخر فشيّق و "جريء"، كبحث الزميلة يكاترينا سميرنوفا، التي تناولت كيفيّة إعداد المستشرقيّن في المعهد في مراحله الزمنية المختلفة.

العرب والمسلمون

معهد الاستشراق في موسكو: شابٌ في المئتين من عمره

في الكافيتيريا المُعدّة لاستقبال المحاضرين والباحثين، يعمل الشاب المسلم مُرات (مراد) بكدّ محاولاً أن يقدّم الشاي الساخن والحلويات المختلفة، وهو أحد طلاب المعهد والعاملين فيه، تقتضي مهمّته أن يشعر ضيوف المؤتمر بالراحة.

يتعرّف إليهم ويحدّثهم عن التاريخ الإسلامي في روسيا. يأتي بين الحين والآخر بكيس من النايلون أو أوراق طبعت عليها عبارة "مجلس مفتي روسيا"، يهديها للضيوف، ويروي بلا ملل حكاية الجامع الكبير وسط موسكو، الذي كان يحلّ مكانه مسجد متواضع أضيفت إليه أراضي الوقف، ويتوقّف عند قصة حماية المسلمين للمسجد القديم يوم كانت السلطات السوفياتية بصدد هدمه تمهيداً للألعاب الأولمبية سنة 1980، فاجتمع المسلمون سلسلة بشرية مطلع ذلك العام وحالوا دون توسعة المدينة الأولمبية باتجاه المسجد بقدر قادر.

أما الجامع الكبير اليوم، والذي افتتح رسميّاً في العام 2015، فهو مبنى ضخم مؤلّف من ست طبقات، ويقع بالقرب من الأستاد الأولمبي المُغلق، ويُعتبر أكبر مسجد في أوروبا، إذ يتّسع لعشرة آلاف مصل في آن، يتوافد إليه الروس والوسط آسيويون والعرب المقيمون في موسكو، وهو أحد خمسة مساجد تخدم مليوني مسلم في العاصمة الروسية، لذلك تتحوّل الطرق والساحات المحيطة به يوم الجمعة إلى مصليات في الهواء الطلق بالرغم من قساوة الطقس.

تحتشد تلك الصور في ذهن مرات الشاب في كافيتيريا المعهد، فينقلها إلى الضيوف بحيوية شارحاً بكلتا يديه.

ولم ينأ معهد الاستشراق عن التخصص في العلوم العربية والإسلاميّة، فبعد ست سنوات على انتقاله إلى مبنى روجديستفينكا، حيث أنشئ مركز متخصّص بالدراسات العربية والإسلامية فيه. وقد أشارت المهمات المسندة إلى هذا المركز في تكوينه إلى النأي عن الاتجاه التاريخي للفلسفة المتأصّلة في دراسات لينينغراد الشرقيّة، أيّ الدراسات العربية الكلاسيكية، وضرورة الانتقال بها إلى ما سُمّي بالدراسات العربية الجديدة، التي ولدت في عشرينيّات القرن العشرين، وتطورّت في موسكو.

وبذلك فقد شكّل الموضوع الرئيس لبحوث المركز الجديد دراسة التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة الحديثة في الشرق العربي والإسلامي، وعلى رأسها حركات التحرّر الوطني المُناهضة للاستعمار.

وعلى الرغم من التسيّس الواضح المشبع بروح النظرية الماركسية اللينينية دراسات العقد الأول في المركز، إلا أنّ علماءه أثروا التحليل بمقاربات بحثيّة مُستقاة من علم الاجتماع وعلوم السياسة، فأسّسوا منهجاً لا يزال متبعاً إلى اليوم، حيث سمحوا بالتحلّل من البحث الضيّق المؤطّر، إلى ما هو أبعد من أيديولوجيا تلك المرحلة، متزوّدين بذخيرة السنوات الطوال، ومؤسّسين لمنهج معرفي راسخ. وذلك ما يميّز المعهد ككل، حيث إنّه في المئتين من عمره اليوم، لكنّه شاب في آفاقه وميادين أبحاثه.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]