أمسية تُحيي نصري شمس الدين ... والفن الراقي

يوم نزل نصر الدين مصطفى شمس الدين الذي حمل اللقب الفني نصري شمس الدين (1927) من قريته جون الشوفية إلى بيروت، لم يكن يُدرِك أن جعبته ستحمل ذات يوم ألفي أغنية له، و33 مسرحية.

أمسية تُحيي نصري شمس الدين.. والفن الراقي

كان "نصري" إبن عائلة موهوبة بالصوت الجميل، تحب الفن، لذلك اشترت له والدته عوداً يوم اعتادت على سماعه يُدندِن ويُغنّي الأغاني التي يسمعها على الراديو، ووجهتها الأغنية المصرية.

منذ صِغر سنّه، برزت موهبته الفنية الصوتية، فكان يُحيي حفلات الضيعة وأعراسها، متّسماً بصوتٍ جبلي، فأصبح هو ووديع الصافي ركنا الأغنية الجبلية اللبنانية.

سعيد الولي، الذي يُدير سلسلة من الأماسي الفنية التراثية في (مؤسّسة الصفدي الثقافية) قال للميادين الثقافية إنه "في فترة نهوض نصري، وبروز موهبته، كانت مصر قُبلة الفن والأغنية".

يومئذ، اتّجه نصري إلى مصر للغناء، وبعد ذلك سافر إلى بلجيكا لتلقّي العلوم الموسيقية.

يصف الولي نصري شمس الدين بــ "الإنسان اللامِع"، ويقول إنه "عبَر في حياتنا بسرعة، فكنا نعايش ظهور أغانيه أو مسرحياته بصورةٍ دائمة، وعندما ظهرت قدرته الفنية الصوتية، جرَّب حظه في مصر، لكن الرحابنة عندما علِموا بموهبته، جذبوه إليهم".

ففي سنة 1952، تقدّم نصري من "إذاعة الشرق الأدنى"، التي أصبحت الإذاعة اللبنانية الرسمية، وكانت تبحث عن مواهب فنية، ومرّ نصري في الاختبار مع لجنة التحكيم التي ضمّت الأخوين الرحباني اللذين لفتهما صوته، فجذباه".

شارك نصري في كل مسرحيات الرحابنة، حيث قام وفق الولي بــ "لعب أدوار مختلفة لشخصياتٍ شعبيةٍ كالشاويش، والبوّاب، والحارس، والكندرجي، والبويَجي"، ذاكِراً أنه "رافق فيروز التي كانت ترتاح لوجوده كثيراً إلى جانبها".

في 1957، انطلق الرحابنة، ومعهم نصري، حتى العام 1978، وعُرِفَ بزيّه القروي أي بالسروال والطربوش، وغنّى من ألحان كبار المُلحنين اللبنانيين كحليم الرومي، وزكي ناصيف، وعفيف رضوان، وفليمون وهبة وآخرين. كما شارك في عددٍ من الأفلام منها "بيّاع الخواتم" و"بنت الحارس" مع فيروز، و"كواكب وليالي الشرق" مع صباح.  

توفّى بطريقةٍ مأسويةٍ عندما أصيب بنزيفٍ دماغي بينما كان ينشد على مسرح "نادي الشرق" في دمشق 18 آذار (مارس) 1983. 

الولي، الذي كان يُدير أمسية إحياء نصري شمس الدين أواخر الأسبوع المنصرم في حضور مصطفى شمس الدين، النجل الأكبر للفنان، تحدّث عن "الألحان والأغاني والكلمات التي كان جيل ذلك العصر (أواسط القرن الماضي) يؤدّيها، ناقلة الصوَر التي اشتغل عليها الرومنطيقيون الغربيون، لكن بطابعٍ محلي"، مُضيفاً أنه "من خلال الضيعة، والأشخاص الذين نلتقيهم في حياتنا، كانوا ينقلون الصوَر الجميلة شعراً، تتعزّز بالأغنية".

وقال الولي أيضاً إن "كل الذين تربّوا على المسرح، وفي هذه الأغاني، في اعتقادي، دخلت إليهم، وربما من دون أن يُدرِك الكثر منهم، كل الأفكار التي كانت مُتداوَلة على مستوى الأدب، والفن، والموسيقى، أما نصري، فإن أغانيه متنوّعة على مستوياتٍ مختلفةٍ من البهجة، والفرح، والسرور، والحرمان، يساعد فيها الموّال إذا دخل على الأغنية".

أدّى أغاني شمس الدين الفنان بشّار خوري، وهو هاوٍ للموسيقى والغناء، مُلتحِق بالكونسرفاتوار الوطني اللبناني، ويدرس فيه الغناء منذ خمس سنوات، رافقه عزفاً على العود المايسترو خالد نجار، وعلى الرق محمّد نابلسي، وعلى البيانو جورج بارود.

أولى الأغاني كانت:

وتقديماً لإحدى الأغاني، قال الولي إن "الحكمة تقول إن لا شيء ينتهي خصوصاً في العلاقة الإنسانية متى وصلت إلى مستوى عالٍ من الحب.. فهل ينتهي؟"

ولفت الولي إلى أن الأغنية اللبنانية مع نصري شمس الدين وفيروز وصباح ووديع الصافي، وآخرين من الكبار، فرضت نفسها على العالم العربي، فلحّن كبار المصريين مثل محمّد عبد الوهاب وفريد الأطرش وآخرين مما لم يُتَح لأيّ بلد عربي آخر.

وقارن الولي بين وسائل التواصل بين الأحباب حالياً بالتكنولوجيا التي وصفها بالكارثيّة، وعين الضيعة أيام زمان، وذلك قبل أن يؤدّي خوري أغنية "على عين الميّ يا سمرا":

في بدء الأمسية، قدَّم مصطفى شمس الدين نبذة عن والده، وقارن فن عصره بفنون اليوم، لافتاً إلى أن فناني تلك الحقبة كانوا يدرسون الفن أكاديمياً، ولم يكن جيلاً عبثياً، بل تعب على نفسه، وتعلّم الكثير، لينال الشهادات، حتى وصل إلى القمّة.

وأكّد أن نصري تدرّب مع إسماعيل ياسين، ودرس في الكونسرفاتوار المصري، ثم انتقل لمتابعة دراسة الفن في بلجيكا، وأمضى سنتين في دراسة التينور، مشيراً إلى أنه "لم يأتِ مباشرة من الضيعة وطلع عالمسرح وصار يغنّي".

في حديث للميادين الثقافية قال شمس الدين "أشعر بفرحٍ أن ألمس هذا الحب لنصري عند أهل طرابلس التي أزورها للمرةِ الأولى في حياتي، وفي نفس الوقت، وبعد ثلاث وثلاثين سنة من غيابه، يستمر حب الجمهور لنصري، ما يعني أن الأغنية اللبنانية الأصيلة، والتراث الفني الأصيل لا يموت".

ورداً على سؤال عن تكريم والده قال "الفنان لا يقوم بفنه بانتظار أيّ مقابل. فالفنان الأصيل يحمل رسالة، ويسعى أن يُتمّمها بأكملِ وجهٍ، وما أعرفه عن نصري أنه لم يكن ينتظر ثمناً من أحد. والأغاني التي عملها وتعب بها، كلها كانت نابعة من إحساسٍ عميقٍ، وكلامٍ جميلٍ، وموسيقى حلوة نخشى ألا تتكرّر".

وأفاد أنه والعائلة جمعوا الكثير من أعماله، والبحث مستمر لجمعها كلها، وقال: "ما فاجأني أنه في كل العالم العربي يسجّل أغانٍ لنصري شمس الدين، فقد كان له كوتات خاصة في عددٍ من الدول كسوريا، والعراق، ومصر، والأردن، فالإذاعة السورية أعطته عشرين أغنية، وكذلك الإذاعات السعودية، والكويتية، والسودانية فله بذلك كمّ هائل في الإذاعات العربية، ثم في التلفزيونات، وأحاول جمع ما أستطيع منها، ومن الغريب الذي عثرت عليه إنه غنّى الجاز".

شمس الدين الإبن ختم أن نصري "ترك إرثاً عظيماً، وصوتاً لا يُنسى. كان صوتاً قريبا ًللقلب ومُحبّباً، ونوعية الأغاني التي كان يختارها كانت رائعة، تتناسب مع صوته، ومع أحاسيس الناس، وحياتهم العادية، وعلينا أن نجمع هذا الإرث، ونحافظ عليه".   

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]