البحث عن «العُمق».. هوَس الأدباء وقاتلهم

لماذا نحرص على الوصول إلى العُمق؟ وكيف نعرف أن عملنا "عميق" أم لا؟

باتريك زوسكين

في كانون الثاني/يناير 2016؛ طرح مركز «دال» عملاً أدبياً بعنوان «هوَس العُمق وروايات أخرى» للألماني باتريك زوسكيند (ترجمة طلعت الشايب). تضمّن العمل أربع قصص قصيرة، تتصدّرها «هوَس العُمق» تلك التي تتناول مفهوم العُمق، المُصطلح الذي أصبح الشاغِل الأساسي، لا للأدباء فحسب، بل لكل مُبدِع في مجاله.

تتعرّض القصة لحياة فنانةٍ تشكيليةٍ شابة، أقامت أول معارضها، وكان من بين الحضور أحد النقّاد، الذي توجّه إليها قائلاً: "أعمالُكِ مثيرة للاهتمام وهي تدلّ على موهبةٍ حقيقيةٍ ولكن ينقصك العُمق"، لتصبح تلك الكلمة بداية طريقها للبحث عن معنى العُمق، وكيفية اكتسابه، ومتى يمكننا وصف العمل بالعميق؟

يطرح الكاتب أيضاً اختلاف مفهوم العُمق من مرحلةٍ لأخرى في حياتنا، هكذا ظلّت الأسئلة تُحاصِر الفنانة الشابة، فتبحث لها عن إجاباتٍ سواء بقراءتها لبعض الكتب تارة، أو بزيارتها لمعارض فن تشكيلي عالمية طوراً. وفي محاولة منها للوصول إلى العُمق في لوحاتها؛ توقّفت عن الرسم تماماً، حتى انتهت بها الحال إلى تمزيق لوحاتها بل والانتحار قفزاً من أعلى برج التلفزيون.

الكثير من الأسئلة طرحها زوسكيند في قصته، إلا أنه لم يُجبنا عنها، تاركاً تلك الفنانة الشابة مُلقاة أمام مبنى التلفزيون، في حين أن الناقد الذي تسبَّب في مقتلها، وقف في نهاية قصة الألماني صاحب رواية «العطر» يُعيد قراءة لوحات تلك الفنانة قراءة أخرى في مقالةٍ له نُشِرَت بمجلةٍ نقدية، قائلاً: "مرة أخرى نرى نحن – الباقين بعد ذلك الحادث الصادِم- شخصاً موهوباً لم يجد القوّة ليؤكّد ذاته على مسرح الحياة، لا يكفي أن يكون لديك القبول العام أو المبادرة عندما يكون الشخص معنياً بمُصاهرة العالم الإنساني، وما يُصاحب ذلك من فَهْمٍ لعالم الفن، يبدو من المؤكّد أن بذرة تلك النهاية كانت قد زرعت من زمن بعيد. ألم يكن من السهل إدراك- ذلك التنافُر المُخيف والواضح في استخدامها لأساليب مختلفة"... في النهاية وضع زوسكيند الناقد أمام ضحيته، ووضعنا نحن أمام تساؤلات لنبحث لها عن إجابات لدينا أو لدى البعض.

«العُمق» معنى مُراوِغ جداً

حسين حمودة

بداية، بحثنا عن تعريف لـ«العُمق» لدى أستاذ الأدب العربي في جامعة القاهرة حسين حمودة، ليوضِح للميادين الثقافية أن "العُمق في الأعمال الإبداعية، وربما في الحياة كلها، هو معنى مُراوِغ جداً، ويبدو أحياناً وكأنه هدف مستحيل، ومع ذلك فهو هدف مراوغ يسعى الكثيرون إلى الوصول إليه، ولا يقنعون أبداً بأنهم قد بلغوه، وإن كانوا يستمتعون بمجرّد السعي إلى الوصول".
ويضيف حمودة أنه مع ذلك فهناك مُبدِعون ومُبدِعات، في مجالات متنوّعة، استطاعوا أن يصلوا إلى قدرٍ كبيرٍ من العُمق خلال أعمالهم الإبداعية. من هؤلاء مثلاً الأديب فيودور دوستويفسكي، الذي نجح في  أن يلتقط أعماقاً وأغوراً خفيّة وبعيدة ومُراوِغة في النفس الإنسانية، وأن يتساءل ويطرح أسئلة كبيرة حول المعاني والقضايا الجوهرية: الخير والشر والحب والغيرة والغضب والحلم وما إلى ذلك.
وعليه "ربما كان تفسير وصول مثل هؤلاء المُبدعين إلى هذا القدر من العُمق مُرتبطا بتكوينهم وبتجاربهم وبطبيعتهم التي لا تكتفي بطرح ما هو قريب لتظل في حال سعي دائم ودائب للاقتراب مما يمكن تسميته جوهر الحياة الإنسانية"، وفق حمودة.
في قصة «هوَس العُمق» جعل زوسكيند، الناقِد الذي تسبَّبت كلمته في مقتل الفنانة الشابة، يجلس بعد ذلك ليُعيد قراءة لوحاتها، مُعتبراً إياها فنانة لديها من العُمق ما يؤكّد موهبتها، وذلك يطرح تساؤلاً بشأن ما إذا كانت رؤيتنا وتقييمنا لعمل إبداعي ما يختلف من وقتٍ لآخر؟ وأيضاً دور عامِل الزمن في الحُكم على الأعمال الإبداعية وقدرته على فرز الأعمال الجيّدة من الرديئة؟

عن ذلك يقول «حمودة» إن الحُكم على الأعمال الإبداعية في بعض الحالات يكون مُرتبطاً بسياقه، أي بسياق الحُكم الزمني والاجتماعي والثقافي إلى آخره، وفي بعض الحالات عندما تتغيّر هذه المُلابسات يتغيّر هذا الحُكم. مُضيفاً "هناك شواهِد كثيرة على أعمالٍ إبداعيةٍ كان هناك نوع من إساءة الحُكم عليها في زمنها، ثم أُعيد إليها الاعتبار في أزمنةٍ أخرى"، فضلاً عن أن هناك "كثرة من الأعمال الإبداعية التجربية أو التي تتّسم بنوعٍ من المُغامرة تقدِّم أمثلة واضحة على هذا. مثل بعض أعمال السورياليين، وبعض روايات كافكا، وبعض الأفلام السينمائية، ومنها بالمناسبة الفيلم العربي «بين السما والأرض»، وما إلى ذلك. وهناك أعمال يُعاد اكتشاف قيمتها بعد مرور زمنٍ طويل، وفي الوجهة الأخرى هناك أعمال تلقى رواجاً وانتشاراً في فترةٍ ما، ثم تفقد بريقها العابِر وربما السطحي في فتراتٍ أخرى. باختصار الحُكم على الأعمال الإبداعية ليس نهائياً ولا مُطلقاً بأية حال من الأحوال".

العمل الأدبي العميق لا يُعيد تجسيد العالم

هويدا صالح

للروائية هويدا صالح تعريف آخر لـ«العُمق»، وهو أن يُعبِّر العمل الأدبي عن رؤيةٍ للعالم والطبيعة والمجتمع. لكن مستويات رؤية هذا العالم تتعدَّد، فتُعبِّر عن نظرة الكاتب لقضايا الإنسانية عامة ومجتمعه خاصة، أي موقع الكاتب كإنسانٍ في العالم ومكانته فيه وموقفه منه.

وبشأن إن كان ثمة أعمال أدبية يمكن أن نصفها بأنها عميقة وأخرى أنها تفتقد للعُمق؟ تقول الروائية المصرية للميادين الثقافية إن "العمل الأدبي والفني هو رؤية فردية للعالم، وقد تختلف هذه الرؤية الشخصية، مع رؤية المجموعة الاجتماعية- الثقافية أو تتّفق معها خلال مرحلة مُحدَّدة إلا أنها تعتبر الكاتب بطريقة ما صوت الجماعة الثقافية والمُعبِّر عنها، لذا فإن الأعمال التي يمكن أن نصفها بأنها "عميقة" هي التي لا تُعبِّر عن  موقفٍ فكري تجاه العالم فقطـ بل تُعبِّر أيضاً عن نفسها فنياً وجمالياً ولغوياً، فهي بناء فكري، قِيَمي، في صِيَغ جمالية وفنية"، مُضيفة إن "العمل الأدبي العميق لا يُعيد تجسيد العالم، بل يخلق عالماً جديداً وواقعاً آخر له قوانين خلق جديدة، فالعمل الفني مدعو إلى عكس العالم بدرجةٍ أقل من كونه مدعواً إلى خلق عالم آخر جديد".
وعليه فإن الانعكاس الواقعي "ليس تقليداً بسيطاً للواقع ولكنه فعلٌ خلاّقٌ يقوم به الفنان. ولا نستطيع أن نقول عن أيّ عملٍ فني أنه عميق إن لم تتوافر له مُعادلة شديدة الأهمية وهي مُعادلة رؤية العالم والخطاب الثقافي الذي يقدّمه حين يتبنّى قضايا تكرّس للحق والخير والجمال من ناحية، وتتوافر له الجماليات والفنيات التي تُميّز الجنس الأدبي الذي يكتبه من ناحية ثانية. فلن يغفر لعمل أدبي أنه يتبنّى قضية نبيلة إن لم تتوافر له الجماليات التي تجعله جديراً بالتخليد في كتاب".

العُمق وَهمٌ وأسطورة

محمد عبد النبي

لكن ماذا عن الدافِع وراء حرص المُبدعين في الوصول إلى العُمق؟ بدأ الروائي محمد عبد النبي كلامه لـلميادين الثقافية مُتسائلاً عن حال الكُتاب إذا ما اكتشفوا أن العُمق وَهْمٌ وأسطورة لا وجود له من الأساس، بل "ماذا لو اكتشفنا ذات يوم أننا جميعاً صوَر على شاشة مُسطَّحة تنعكس من جهاز عَرَض أفلام؟ يعني، ماذا لو اكتشفنا ذات يوم أنَّ العُمق أسطورة ولا وجود له مِن الأساس؟ وأنَّ كل عمل فني لوحة مُسطَّحة ذات بُعدين إثنين فقط، وما يمنحها البُعد الثالث الساحِر هو العَين الناظِرة إليها".

يجزم عبد النبي أنه لا أحد يريد هذا، والسبب في ذلك "لأنَّ العُمق، في ما يبدو، هو ما يمنح لذواتنا غموضها الفريد وجلالتها وجدارتها بالتحليل النفسي والروايات والقصائد والأفلام، إلخ. لا أحد يريد أن يكون سطحياً، أو ربما لا يريد أحد أن يعترف بأنه سطحي، أو ربما لا يريد لأحد أن يبدو أمامَ الآخرين سَطحياً؟"

أمام هذه الهواجِس "يسعى المُبدِعون إلى الظهور بشخصيةٍ أكثر عمقاً، بل يحرصون على ترسيخ تلك الصورة لدى الغير. ويرجع صاحب «في غرفة العنكبوت» الرواية التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية، السبب في ذلك قائلاً: "لكي يعاملوك بجدية لا بدّ من ألَّا تبدو خفيفاً عابِراً، لا بدّ منَ أن تحفر عميقاً بما يكفي تحت سطح الأحداث والأخبار والمظاهر، حتَّى لو أدَّى بك هذا إلى الإفراط في التحليل لدرجة خنق كل فكرة أو الإيمان بنظرية المؤامرة أو عَدم تصديق أي شيء أو معارضة كل شيء فتسخر من الفرحين والبائسين على السواء، كأنَّك وصلت لقمة اللامبالاة الرُواقية".

 

لعلَّ العُمق بحسب عبد النبي هو تلك "الهوَّة المُخفية وسط الضباب والتي تفصل كتَّاب التسلية والجريمة والخيال العلمي عن أولئك المُكرَّسين مِن قِبَل النقد الرسمي والأبحاث الأكاديمية والجوائز ذات المكانة"، مُضيفاً "وإذا كنتَ كاتباً محروماً ممَّا يسمَّى العُمق – بالفطرة يعني – فأمامك طريقان، إمَّا أن تمتلك شجاعة الاعتراف بهذا وتُعرض عن ذلك الهَوَس ببساطة فترتع عندئذٍ في ملاعب آجاثا كريستي وكونان دويل ودان براون ونبيل فاروق، وإمَّا أن تظل طوال عمرك تحارب طواحين الهواء، وتضيف توابل الحكمة والفلسفة والرؤية (العميقة) على حكاياتك المُهترئة والخالية من أبسط عناصر الجَذْب".
وبشأن إن كان العُمق معياراً لبقاء الأدب خالداً يشرح "كَم مِن السنين عاشها كتاب عظيم مِثل «ألف ليلة وليلة» وهو يُعتبر خرافات مُبتذلة للسذّج والعامَّة في مقابل الأدب الرسمي الجليل، إلى أن تغيَّرت العَدَسة واكتسب النظر صفاءً وحدّةً، فتجلَّت عندئذٍ الطبقات والأبعاد. كأنَّ العُمق في هشاشته ومُراوغته سراب آخر، يُسعى إليه ولا يُنَال، وأيضاً يُفقَد ويُكتَسب ويُفقَد مِن جديد، مع الوقت والدَرس وإعادة النظر وتبدّل الفصول والأذواق والأحوال".

الأعمال صاحبة الرسائل لا تحظى بمواصفاتٍ فنية رفيعة

أحمد مجدي همام

هناك تساؤل آخر تطرحه قصة الألماني زوسكيند، ألا وهو مدى ضرورة أن يكون هناك هدف لكي يتمكّن الكاتب من إنجاز عمله الأدبي؟ بطرح هذا التساؤل على القاصّ والروائي أحمد مجدي همام أجاب الميادين الثقافية "لا أعرف بالضبط ما هو المقصود بالهدف! لكن دعني أقول إن الأمر لو كان مرتبطاً برسالة ما يطمح الكاتب إلى تمريرها بشكلٍ فني عبر نصّه الروائي أو القصصي أو الشعري، فإجابتي هي: "لا"".
ويضيف "لا أظن أن الكاتب مُطالَب بتمرير رسائل وعظية أو خطابية أو أخلاقية مهما بدت نبيلة، وحسب خبرتي فإن الأعمال صاحبة الرسائل الفجّة لا تحظى بمواصفاتٍ فنية رفيعة".

ويستطرد صاحب «الجنتلمان يفضّل القضايا الخاسِرة» الفائِزة بجائزة «ساويرس» فرع القصة للأدباء الشباب 2017، "أما إذا قصدت بالهدف، حافزاً خارجياً، مثل سعي الكاتب مثلاً لإنهاء كتابة نصّ ما في فترةٍ زمنيةٍ محدّدةٍ بسبب اتفاقه – القانوني – مع ناشِرٍ ما، وتوقيعهما عقداً ينصّ على موعد صدور وشروط جزائية، فربما، يكون هذا الحافِز عنصراً حاسماً يمكّن الكاتب من إنجاز عمله، والنماذج على ذلك لا حَصْرَ لها، محليّاً وعربياً وعالميّاً".

ويختتم أحمد مجدي همّام كلامه مشيراً إلى هدفٍ آخر من الكتابة، مُعتبراً إياه "الهدف المُطلَق من الكتابة"، مُضيفاً: "لا أعرف ما إذا كنت وصفت الأمر بشكلٍ صحيح، لكني، أقصد هنا، إجابة أيّ كاتب على سؤال: لماذا تكتب؟ وشخصياً لا أعرف، كل مرحلة في حياتي تحمل إجابة مختلفة عن سابقتها بخصوص هذا".

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]