إيمان "بائعة البريد".. الكلمات أكثر دفئاً عندما نخطّها بأيدينا

بطريقتها البسيطة، تجعلكم شركاء في أدب الرسائل، لأن الكلمات "تعود بنا إلى وَجْد الشعور".. إليكم حكاية إيمان أو "بائعة البريد" في غزة.

  • إيمان أبو ريدة
    إيمان أبو ريدة

"في متجري أطلعكم على أدب الرسائل بطريقتي البسيطة، هنا أوثّق ما أعيشه من فن الرسائل. ولأن الكلمات تعود بنا إلى وَجْد الشعور، فما زلت أكتب"، يصادف الزائر لمتجر بائعة البريد هذه العبارة فور دخوله إلى المكان الذي يحوي داخله عَبَق الماضي الجامع عدّة رسائل وَرَقية قديمة، وصوَراً معلّقة على الحائط لمحمود درويش وسميح القاسم وغادة السمّان، وغيرهم الكثير ممَن اتّخذوا من المراسلات الأدبية نهجاً للتواصل.

رسالة مختومة بالشمع أو غيرها من المواد تحوي الكثير من الأسرار، تقول إيمان أبو ريدة (26 عاماً) من غزة إن بدايتها كانت من هنا، حيث دفعها الفضول إلى البحث في أدب الرسائل ومعرفة محتويات تلك المراسلات كرسائل غسان كنفاني لغادة السمّان، متساءلة لماذا رغب أولئك الكتّاب في عدم نشر رسائلهم سوى بعد موتهم، وما الضرر في إظهارها إلى العلن وتذوّق أساليبها الأدبية.

ترجع بنا إيمان بالزمن إلى طفولتها لتخبرنا أنها كانت تتبع أسلوب المراسلات مع والدتها حين ينشب خلاف بينهما. ذلك أن عدم قدرتها على رؤية أمّها حزينة، جعلتها تبتكر تلك الطريقة لتترك لكلماتها التي اختيرت بعناية على الورق أن تقوم بدور المُصْلِح بينهما، حتى ينتهي الأمر بعناق كبير، لافتة إلى أنها استخدمت الطريقة ذاتها مع صديقتها المقرَّبة التي كانت دوماً ما تشجّعها على تطوير تلك الموهبة.

تقول إيمان: "نحتاج إلى مَن يخبرنا مَن نحن ويتحدّث معنا بشكل مطوّل، بعيداً من كل أشكال الاختصارات التي أودت بالكثير من العلاقات إلى الجحيم".

مع مرور السنوات شعرت إيمان أنها بحاجة إلى تطوير موهبتها للتحوّل من كاتبة هاوية إلى دارسة لعِلم أدب الرسائل، وذلك من خلال الإطّلاع على نماذج عدّة في الأدب العربي منها "أنا الموقّع أدناه" لمحمود درويش، مشيرة إلى أن حبّها للغة العربية ساعدها على إنتاج رسائل أدبية تضاهي تلك التي تقرأها، على الرغم من دراستها لتخصّص التمريض.

وعن العلاقة بين التمريض والأدب تقول إيمان في حديث مع "الميادين الثقافية" إن هناك فروقات بين ما يريد الإنسان دراسته، أي التخصّص الجامعي، وبين هواياته التي يجب أن يهتمّ بها وينمّيها. لذلك قرّرت أن تجمع بين الأمرين فأنهت دراسة التمريض وافتتحت مشروعها "بائعة البريد" في الوقت ذاته، رغبةً منها في تحقيق حلم الطفولة بأن تصبح "ساعي البريد" الذي تمنّت أن يزورها طوال تلك السنوات.

بدأت إيمان من غرفة نومها واستمرّت لمدّة سنة ونصف السنة بإمكانيات بسيطة مُنشئة حساباً على موقع التواصل الاجتماعي "أنستغرام" لتسويق فكرتها عبر نماذج عدّة من الرسائل البريدية التي أعدّتها لعرضها على الصفحة. هكذا لاقت تلك الصوَر رواجاً واسعاً، قبل لأن يقبل الزبائن على طلبها من كافة المراحل العُمرية، خاصة في ظلّ توقّف عمل البريد في قطاع غزَّة منذ سنوات، واقتصاره على المعاملات الرسمية التي يعطّلها الاحتلال الإسرائيلي في غالبيّة الأحيان.

مع مرور الوقت لم يعد عملها من غرفتها يفي بالغرض، فأصبحت بحاجة إلى البحث عن مقرّ كي تعمل من خلاله في الوقت الذي كانت تحضر فيه عائلتها لمفاجئتها باختيار معرض صغير تعمل من خلاله، وتحصل على مزيد من الخصوصية والاستقرار، مضيفة أن مشروعها بدأ بتكلفة مادية قدرها 3000 دولار، ثم أضافت على تلك الميزانية لتدخل المزيد من التحديثات بناء على رغبة الزبائن.

اليوم، تستقبل إيمان طلبات البريد داخل غزَّة ومن الضفّة الغربية، وأبعد من ذلك بكثير، فإذ توصل من دول العالم إلى فلسطين أو العكس عن طريق الطلبات التي تتلقّاها عبر تطبيق "واتساب" أو رسائل الصفحة، لافتة إلى أن بريدها جاب عدّة دول من الوطن العربي كمصر وسوريا والأردن ولبنان وقطر بالإضافة إلى بريطانيا وأميركا، وعادة ما يكون مرسلو تلك الرسائل هم العشّاق أو الأصدقاء الذين يرغبون في التعبير عن حبّهم بطريقة مميّزة.

تتنوّع الطرود التي ترسلها إيمان وفقاً للحاجة والمادة، فيتنوع الطرد بين الخشب أو المعدن أو الكرتون، والذي يحتوي الرسالة مع الطابع البريدي الخاص بها، بالإضافة إلى فكرة النصّ الذي يرغب الزبون بإرساله برفقة كتاب أو كوب قهوة على الطراز القديم مع الشموع.

الأوراق العتيقة والطوابع البريدية وصناديق البريد والمظاريف هي المواد الخام الأساسية في عمل إيمان، والتي تجذب الزبائن إليها بشكل مستمر. لذلك تحاول شحنها بشكل متواصل إلى قطاع غزَّة لعدم توافرها في السوق المحلية، مضيفة أنها تضطر إلى توقيف عمل المتجر بالكامل عند تأخّر الطلبية القادمة من دولة مصر والاعتذار من الزبائن، وهذا ما يمثّل أكبر المعوقات بالنسبة لها.

ترى إيمان أن الدفاع عن فكرة ساعي البريد في ظلّ سيطرة العالم الافتراضي على حياة الناس أمر لا بدّ منه. خاصة أننا أصبحنا في وقت بات كل شيء مختصر، من العبارات وصولاً إلى المشاعر.

عدا عن نظرة المجتمع التي تواجهها إيمان، فإنها تشير إلى أن غالبيّة مَن حولها لم يتقبّلوا فكرة أنها تركت تخصّص التمريض لتعمل في مجال كتابة الرسائل الأدبية وتوصيلها، ودائماً ما يتمّ اتّهمامها بأنها "تبيع الهواء"، أيّ أنها تحتال على الناس وتضللهم وذلك لعدم اقتناعهم بالمحتوى الذي تقدّمه. لكن إيمان تشير إلى أنها تحاول قدر الإمكان التوضيح لهم أن تلك الرسائل تعبّر عن عاطفة الإنسان، وتمثّل جوهره الذي قد يخفيه عن أعين الناس لأسباب خاصة به.

ترى إيمان أن الأمر يستحقّ المحاولة. الدفاع عن فكرة ساعي البريد في ظلّ سيطرة العالم الافتراضي على حياة الناس أمر لا بدّ منه. خاصة أننا أصبحنا في وقت بات كل شيء مختصراً، من العبارات وصولاً إلى المشاعر. وتلفت إلى أننا في الوقت الحالي "نحتاج إلى مَن يخبرنا مَن نحن ويتحدّث معنا بشكل مطوّل بعيداً من كل أشكال الاختصارات التي أودت بالكثير من العلاقات إلى الجحيم".

تمزج إيمان في عملها ونصوصها بين القديم والحديث. تختار النصوص الأدبية العميقة وتقوم بكتابتها على الحاسوب مع اختيار خط معيّن يشبه إلى حد كبير خط اليد، وذلك في محاولة منها لاختصار الوقت والجهد على قارئ الرسالة، مشجّعة كل مَن يقرأ هذه النصوص أن يُحيي أدب المراسلات لما فيه من فائدة في بناء شخصيّة الأفراد والتأثير على حياتهم بشكل إيجابي.

أما إذا ما تحدّثنا عن البريد الرسمي فإن الاحتلال الإسرائيلي دوماً ما يمنع دخوله إلى القطاع المحاصر، وقد استمر ذلك في شهر تشرين الأول/أكتوبر المنصرم لعدّة أسابيع، تحت ذرائع واهية بهدف التضييق على المواطنين، ويعتبر أصحاب الجوازات، وتأشيرات السفر، والأوراق الثبوتية، والشهادات التعليمية المصدّقة، أكثر الفئات المتضرّرة كونها ترتبط بأيام محدودة، وتأخير دخولها يؤدّي إلى انتهاء صلاحيتها القانونية.