جامع التوبة: نموذج مملوكي ونسخة مُصغَّرة للجامع "الكبير"

يُعتبر نموذجاً مُصغّراً عن "المسجد المنصوري الكبير"، وهو أول مسجد مملوكي شيّد في طرابلس بعد تحريرها من الصليبيين. تعالوا نتشارك هذه الجولة في"جامع التوبة".  

  • مئذنة
    مئذنة "جامع التوبة"

جامع "التوبة" نموذج أصيل للعمارة المملوكية في طرابلس اللبنانية إلى جانب مساجد أخرى منها البرطاسي، والأويسي، والطحّام، والعطّار، والحجيجية، والطينال، ولكل منها ميزات خاصة ناجمة عن تاريخ بنائه، وما سبقه من عمران المحلة التي يقع فيها.

يتمتّع "جامع التوبة" بخصائص العمارة المملوكية، ويعتبر نموذجاً مُصغّراً عن "المسجد المنصوري الكبير"، أول مسجد مملوكي شيّد في طرابلس بعد تحريرها من الصليبيين على يد المماليك. 

بُنيَ الجامع بأمر من سلطان دولة المماليك الناصر محمّد بن قلاوون، فعُرِف في مراحل بنيانه الأولى بــ "الجامع الناصري" تيمّناً به، فالبناء تمّ خلال سلطنته الأخيرة (709-741هجرية)، ويرجِّح المؤرِّخ الطرابلسي الدكتور عمر تدمري، أن "يكون مهندس البناء هو نفس المهندس الذي قام ببناء رواقات الجامع الكبير للشبه الكبير بين الجامعين". 

  • مشاهد عامة في الجامع
    مشاهد عامة في الجامع
  • مشاهد عامة في الجامع
    مشاهد عامة في الجامع
  • مشاهد عامة في الجامع
    مشاهد عامة في الجامع

أما لماذا احتفظ الجامع باسم "جامع التوبة"، فيفيد تدمري أن "الذي أوكل إليه أمر بناء الجامع المنصوري الكبير اختلس من أموال الجامع، ولذا جاء خالياً من الزخرفة، وعندما اكتشف أمره، تعهَّد السلطان ببناء جامع آخر، وبُنيَ هذا الجامع، فجاء على شكل الجامع الكبير، وربما سمِّي بـــ "التوبة" لأن بانيه كان قد تاب بعد أن اختلس من أموال بناء الجامع الكبير". 

يتميّز الجامع أنه يتوسّط المدينة، ويسهل الوصول إليه في محلّة الدباغة على الضفة اليسرى من نهر "أبو علي"، ولذلك، فقد لعب أدواراً سياسية ووطنية ودينية خصوصاً في النصف الثاني من القرن العشرين.

الفيضانات والجامع

  •  لوحة الفَرَمان للاهتمام بحاجات الناس الأساسية
    لوحة الفَرَمان للاهتمام بحاجات الناس الأساسية

 

نظراً إلى وقوع الجامع على مقربة من نهر "أبو علي"، تعرّض للفيضانات في مراحل مختلفة، وقد يكون أولها في سنة 745ه. 

ومن الفيضانات التي يسجّلها التاريخ الواصل إلى اليوم واحد وقع سنة 909ه . \1503م. حيث فاض النهر، وخرَّب المساكن، والحوانيت، وكان السيل عاماً في بلاد الشام. 

وتورِد الوثائق التاريخية أن الأمطار استمرّت بالهطول 27 يوماً، خمسة منها بلياليها حيث "لم يُرَ فيها شمس، ولا قمر وزادت الأنهار زيادة عظيمة".

وفي سنة 1162ه.\48-1749م. فاض نهر طرابلس وخرَّب البيوت، وقتل الناس.

  • اللوحة النحاسيm
    اللوحة النحاسيm

وفي العصر الحديث، وفي نهاية سنة 1955 م، أصيبت طرابلس بكارثة الفيضان مساء 17 كانون الأول، وذهب فيه عشرات القتلى، ودخلت المياه "جامع التوبة" وغمرته.

يقوم بناء الجامع في بقعة منخفضة من مستوى الأرض المحيطة به ببضعة أمتار، ويُنْزَل إليه بدرج، وله بابان، شرقي وهو الباب الرئيس، يفضي إلى ممر جنوبي الجامع بمُحاذاة الحَرَم، تقوم فوقه قبّة صغيرة شرقي المئذنة. ويتصل هذا الممر بفناء الجامع. كما يفضي إلى فناء يحيط به رواقان من الجنوب والغرب يقومان على عضاضات ضخمة تتشكّل منها عقود وقناطر. 

وفي الزاوية الواقعة بين الرواقين تنتصب مئذنة الجامع السداسية الشكل، والمبنية بالحجارة الرملية، وفي أعلاها يقوم برج مستطيل. وفي أعلى البرج يقوم أسطوان يغطّيه سقف يشبه المظلّة مُثَمنّة الأضلاع وفوقها قُمْع المئذنة النهائي.

وفي أعلى واجهة الرواق الغربي توجد لوحة نُقِشَت عليها خطوط متوازية تشكّل ساعة شمسية.

  • الساعة الشمسية
    الساعة الشمسية

وفي وسط الفناء يقوم أسطوان من أربع قناطر على أربعة أعمدة تعلوها قبّة شبيهة بالقبّة التي في صحن الجامع الكبير. 

والمدخل الثاني هو الشمالي، وتوجد عليه لوحة برونزية نُقِشت عليها سبعة أسطر بالخط النسخي. وفي أسفل الكتابة يوجد مُتعرّج تتدلّى زخرفة تشبه القنابل، و"الكتابة المنقوشة في هذه اللوحة تؤرِّخ لفيضان النهر يوم 16 ذي العقدة سنة 1020ه، وتسبّب في هدم جداره، ومنبره، ومحرابه، وسبيل مائه، كذلك تجدّد بناء ما تهدّم في السنة التالية 1021ه. أيام ولاية الأمير حسين بن يوسف سيفا"، بحسب تدمري.

حَرَم الجامع

  • مؤذِّن
    مؤذِّن "جامع التوبة" محمّد مجانيني

يتكوّن حَرَم الجامع من أسطوان بطول 36,8 متراً، وعرض 6,6 أمتار، تعلوه قناطر تقوم على ست عضاضات في الجهة الغربية، وترتكز على جدار الجامع القبلي، وفوق محراب، ومنبر الجامع تقوم قبّة الجامع ذات النوافذ المفتوحة في جهاتها الأربع، وفي المنبر زخرفة لطيفة، ويبلغ طوله 2,8 متراً، وعرضه 90 سم. 

روايات لافتة لما تعرّض له الجامع بعد الفيضان الأخير 1955، ذكرها مؤذّنه محمّد مجانيني، بأنه جرت محاولة إزالته مع "جامع البرطاسي" لتوسيع مجرى النهر، لكن السكان رفضوا إزالة مسجدين من أهمّ وأجمل مساجد الشرق، فتحوّل الطريق العام عنهما.

ويفيد مجانيني في حديث مع "الميادين الثقافية" أن السواقي كانت تعبر في باحته عندما كانت ما تزال بمستوى النهر، وكانت مياه السواقي تؤمِّن الوضوء للمصلّين، ومع ازدياد البناء، صار فيضان السواقي يزعج السكان، ما اضطر القيمين على الجامع لرفع مستوى الباحة، بردمها، وتبليطها.

ويشير مجانيني إلى فتحات في سقف مدخل الجامع، ويقول إنها توزّع الصوت، وربما لعبت أدواراً أخرى منها التشكيل الهندسي الجميل، لافتاً إلى فتحة واسعة تحفّ بها فتحات أصغر حجماً، موزَّعة بتناسق حول الفتحة الكبيرة على شكل القبّة، ويقول إن التشكيل الهندسي هو ثريّا مقلوبة، نادرة الوجود في أيّ مسجد آخر، وربما في واحد أو إثنين في أنحاء العالم.

ويروي حادثة جرت في الجامع أثناء الطَوَفان، حيث كانت ثلاث عائلات فلسطينية من مهجّري العام 1948 تعيش في بعض الغرف، ولما حصل الطوفان، دخلت الغرف، فتدخّل خادم المسجد آنذاك الحاج سعيد محمود الطيّب الرافعي بسرعة، وأنقذهم بنقلهم إلى نقطة أعلى في المسجد، لكن المياه وصلتها، وكادت تقضي عليهم، فهرّبهم الرافعي إلى السطح. وفي هذه الأثناء، دهمته السيول، وراح يتخابط معها منعاً للغرق، فقيّض له باب مخلوع جرفته السيول، فتمسّك به، وانتقل بواسطته إلى السطح، فأُنقِذ.

وعن المئذنة، يفيد مجانيني أن جنوداً فرنسيين زمن الانتداب انتزعوا بعض مُقَرْنصاتها، مع قناديل كانت تتدلّى منها، ولا تزال أمكنة المُقَرْنصات فارغة، آملاً أن "نتمكّن من ترميمها وإعادتها إلى ما كانت عليه".