كيف نعرّف عصام العبد الله؟

رغم مرور أربع سنوات على رحيله، ما زال عصام العبد الله حاضراً بقوة. فمن هو هذا الشاعر الذي أطلق عليه سعيد عقل لقب "إله الشعر"؟

  • عصام العبد الله
    عصام العبد الله

في مثل هذه الأيام من العام 2017، في 19 كانون الأول/ديسمبر، توقّف قلبُ عصام العبد الله عن النبض. فقد الشعر المحكي اللبناني أحد أهم أركانه، وخسر الوسط الصحفي والثقافي في لبنان، واحداً من أكثر الكتاب تأثيراً في أجيال من المشتغلين بالأدب والصحافة والإذاعة والتلفزيون.

رحل عصام العبدالله، عملاقاً من بلاد أدونيس وقدموس، فترك كثيراً من الأسئلة خلفه، بعضها لا إجابة له وهذه من شأن العارفين، وبعضها تحتاج للإجابة عليها إلى مجلدات وهذه من شأن النقاد، أما هنا فسنتوقف عند سؤال واحد نحاول أن نجد له إجابة: كيف يمكن أن نعرف عصام العبد الله؟

السؤال يبدو بديهياً وسهل الإجابة، إلا أن الناظر في سيرة صاحب "مقام الصوت" يجد جوانب متعددة لشخصية فذة، مندفعة، ساخرة بعمق ومؤمنة بالجمال، لا يمكن تأطيرها تحت عنوان معين، وإن كان لقب "الشاعر" يبدو الأكثر شمولاً وحيوية، بما أن الشعر قمة اللغة التي ليس فوقها شيء، فإن إسهامات الشاعر، ابن الجنوب اللبناني، الصحفية والإعلامية وحتى إسهاماته السياسية، لا تبدو أقل أهمية، بل إن الإحاطة بها شرط لفهم ظاهرة عصام العبد الله كرجل ما زال حاضراً بقوة رغم مرور أربع سنوات على رحيله.

"الهتّيف" كما كان يعرفه رفاقه، صوته القويّ الهادر وقدرتهُ على تأليف الهتافات والشعارات التي تجتذبُ المشاركين، جعلهُ يحضر في كلِّ التظاهرات محمولاً على الأكتاف.

الكاتب الصحفي

كتب عصام العبدالله لعديد الصحف والمجلات اللبنانية والعربية، التزم لفترة بالعمل الصحفيّ وأدار تحرير عدد من المجلّات إلى جانب كتابة المقالات، ثمَّ بعد انشغاله قليلاً عن الوسط، لم يتوقّف عن نشر المقالات بشكل متقطّع حتّى وفاته.

لا تبتعد لغته في المقال كثيراً عن فرادة لغته الشعرية وسلاستها، لا يقعر ولا يستعمل تراكيب معقدة، يلتبس كلامه الفصيح بشيء من المحكية أحياناً بلا إفراط، لا تبتعد مفرداته من الحسية الواقعية، ولكنه يعتني بجمال العبارة ووقعها وإيقاعها، ولا يندر أن تجد في مقاله نكهة سخرية عميقة، وهو الساخر الوجودي مع لمسة من عبث، كما إنه كثيراً ما يستحضر حكايات من الأثر أو حكايات كان طرفاً فيها للتخلص إلى موضوع معين، أو توضيح فكرة معينة، معظم مقالاته قصيرة نسبياً ولكنها مكثفة وحارة ولا تنتهي قبل أن تترك ندبة.

ولعلَّ مقطعاً من مقال له بعنوان "لعب على شاطئ الخطر المتوسط" نشرَ في مجلّة "الحسناء" التي أدار تحريرها لفترة، يختصر كثيراً مما يمكن أن نضيفه في هذا الصدد: "لعبنا كثيراً، لعبنا وقتاً على هذا الشاطئ الخطر المتوسط لعبنا في بستان المتوسط وأغرانا اللعب فلعبنا كثيراً وركضنا كثيراً واختبأنا كثيراً، وكانت رمانة واحدة كافية لأن تلقي ظلها على متوسط الدافئ. تهنا في البستان وجاء ظلام، تهنا ثم لما افقنا لم نكن فيه. لم نكن في البستان غادرناه منذ زمن طويل. ألا ترين، أنني، أننا ما زلنا نفتش عنه، هل نفتش عنه ونحن فيه؟ هل هذا هو البستان المدينة، المقهى، الكتاب، الجامعة والمطبعة ونزعة الخريف البحرية وشاعر بيت اده حيث شجر اللحلح ما زال يعاند أحياناً. هل هذا هو أولاد الفلاحين أساتذة في الجامعات، وسائقو المرسيدس أولادهم في الارساليات الأجنبية".

المربّي

أسوةً بكثير من المؤثرين المنشغلين ببناء المستقبل ودحض الديستوبيا، اشتغل عصام العبد الله بالتدريس في بداية حياته، فدرّس اللغة العربيّة للمرحلة الثانوية، وهو الحائز على دبلوم في الأدب العربي من "جامعة بيروت العربية"، ثمَّ عيّن ناظراً لــ "ثانوية رمل الظريف الرسمية" في بيروت.

الإذاعيّ والمقدّم التلفزيوني

على مدى 6 سنوات أعدّ العبد الله برنامج "صالون الإذاعة" وقدّمه عبر أثير "إذاعة لبنان"، استضافَ خلالها شخصيّات فاعلة في مختلف المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية في لبنان، ولكن هذه لم تكن تجربته الإذاعيّة الأولى. فقد سبق أن شارك صديقه الفنان زياد الرحباني في إعداد وتقديم برنامجه الإذاعيّ الشهير "بعدنا طيبين قولوا الله" خلال فترة الحرب الأهلية، وحدهما فيه الحس الساخر والنزعة الإبداعية العارمة، كما أعدَّ وكتب برنامج "إبن البلد" مع الفنان اللبناني أحمد الزين في "صوت الشعب".

لا تبتعد لغة عصام العبد الله في المقال عن براعة لغته الشعريّة وسلاستها، ولا يندر أن تجد في مقاله نكهة سخرية عميقة، وهو الساخر الوجوديّ بلا عبث.

وأعد العبد الله أيضاً برنامجين تلفزيونيين هما "ثقافة و ناس" في "تلفزيون لبنان"، و"الليل المفتوح" في "تلفزيون المستقبل"، ودخل مجال التقديم التلفزيوني لأوّل مرّة عبر برنامج "نعم ثقافة" الذي أعدّهُ وقدّمهُ في تلفزيون "NBN".

الناشط السياسيّ

"الهتّيف" كما كان يعرفه رفاقه، صوته القوي الهادر وقدرته على تأليف الهتافات والشعارات التي تجتذب المشاركين، جعله يحضر في كل المظاهرات محمولاً على الأكتاف، ومن العروبة إلى الماركسية ارتقى عصام العبد الله المنابر في فترة شبابه، شاعراً يكتب القصيدة العمودية الفصيحة، الملتزمة وعالية النبرة، قبل أن يعتزل العمل السياسي والقصيدة العمودية الفصيحة على السواء، مطلع السبعينات، وهذا ما سينقلنا إلى لقبه الأبرز.

الشاعر

على الرغم من أن شهرة عصام العبد الله كشاعر محكية لبنانية، توحي بأنه ترك تراثاً شعرياً ضخماً من حيث الحجم، إلا أنه في الواقع لم يصدر أكثر من 3 مجموعات شعرية بالغة من حيث الأثر، هي: "قهوة مرة" عام 1982 عن "دار الفكر اللبناني"، و"سطر النمل" عام 1994 عن "دار الجديد"، وأخيراً "مقام الصوت" عن "دار النهضة العربية" عام 2009، وكما هو واضح، فالفجوة الزمنية بين مجموعته الأولى والثانية 12 عاماً، بينما تمتد إلى 15 عاماً بين الثانية والثالثة.

مع ذلك، كان ابن بلدة الخيام القريبة من فلسطين المحتلة، يرى أنه أسرف في الشعر، ورمى آلاف الكلمات ليحصل على زبدة القول، يذكرني هذا بحديث دار بيني وبين شاعر صديق حول كم يجب أن يكتب الشاعر من الشعر الجيد ليطوّب.

عصام العبد الله شاعر الماس المصقول، مطوّب شاعراً منذ نصه الأول، أطرب ورقق وسخر وشاكس واعتنى بالجمال الصرف، حتى أصبح "إله الشعر" عند سعيد عقل¹.

انتقل من جلال الشكل العمودي الكلاسيكي للقصيدة العربية الفصيحة إلى قصيدة محكية حرة، ساخنة، يركز فيها على التقاط جمال التفاصيل، وبث الروح في الجمادات، وعذوبة المعنى والصورة. كان يرى أن القصيدة المحكية خلقت لتسمع في سيارات الأجرة وحوانيت الشعب، وأنها عروس لا تزف بغير موسيقى، لذا تعاون مع الفنان زياد الرحباني مجدداً، لإصدار قصائده على أشرطة كاسيت بمرافقة موسيقية من زياد، فكان من رواد المزج بين الشعر والموسيقى في لبنان والعالم العربي.

أقول ولا أبرئ نفسي من التحيز: كل هذه التجليات الشخصية لعصام العبد الله في مختلف المجالات التي ساهم فيها بعمق، آتية من شخصية مركزية جوهرية واحدة هي شخصية الشاعر. ونقصد بالشاعر الكائن الحساس الذي وجد نفسه في عالم جاف، وفي بلاد مائية متقلبة صعبة المراس، وهو مع ذلك أو لأجل ذلك يحبها ويرفض مغادرتها، يقاوم القلق والبؤس والخوف والحرب والفرقة والغثيان، بكل ما أعطاه الشعر من قوة ورهافة، فيبقى حياً فيها، وتبقى حيةً رطبةً في شعره وصوته وحضوره العميق.

لتكن نهاية هذه الجولة السريعة بماسة من ماسات عصام العبد الله، هي قصيدة "سطر النمل" من المجموعة التي تحمل نفس الاسم، وقد أهداها إلى الموسيقار اللبناني الراحل عاصي الرحباني:

بتفتح بنت
بيلبسا إسما
بتفتح قصيده
بيكتبا
بيطلع ع سطح المملكه
والمملكه ورقه
بيصير أعلى كتير
بيمد إيدو ع البرق
وبيقطف البرقه
وبيسميا فيروز
اللون الـ نقل من مطرحو
بي هالسما الزرقا!!!
مش شايفك
علي الحقيقه شوي
وطي
إجت فيروز
دقولها
متل الحمامه الراجعه
ت تطل عا بيا النسر
غنولها…
مش سامعك
بدن وقت تا يسكتوا
ووقتك معك…

شو بيشبهو
سكوت التعب!
حط القلم ع الطاوله
حط الورق
حط إيدو حدهن
راسو متل شي مملكه
ومطفيه
قبالو الأوضه واضحه
الشباك
صوت المرا
ولادو
مأكد مرق منصور عا بالو
بينو وبين الباب
في فشخه
بينو وبن خيالو…
ممدد
متل الـ كأنو عم ينام
ممدد متل وقع السكت
حد الكلام
مغطى ببياضو …
اللون بيرد السلام …
حامل أسامي
وداير يسمي
بيدق عا لبيوت
بتضوي

ما ضل في إلا الشعر
الجن اللي قاعد بالخفا
خطف الوقت
خطف المسافه الـ صادفا
وعم ينتبه ماشي
وتا ما حدا يفكر بـ إنو يلحقو
ويشوف نياتو
بيمحي اللي زايد بالحكي
بينفخ ع دعساتو
ما كان في عندن ورق
جابوا الهوا
إنت الهوا دفتر
ما تساع إلا الشعر
عاصي وقف حامل قلم
متل العصايه هالقلم
عم يرفعو
ويكتب على ورق الهوا
غناني وطرب
الشعر اللي عمروا ما انكتب
حتى تعب عاصي
ودبل متل العنب
صار كرم زبيب
بتمرق سنه وحدا سنه
والكرم عم بيطيب
عاصي تعب

ما كان في عندن ورق
تا يكتبوا
وكان الحجر
صاير غ آخرتو
رمل ورمل
شو بيعملوا
تـ يخبروا عن حالهن
تـ يعلقوا حبل الأسامي
قبالهن
وولادهن
نقطه ونقطه ينقطوا
من تيابهن؟!
شو بيعملوا؟
بيجربوا وبيلعبوا:
سطر النمل
أول كتابه عالرمل!!!
ما طولت
مارق حدا إسموا الهوا
ومرات إسمو الريح
شافوا النمل
خاف ومشي
من مطرحو ع الزيح
وتخربط المعنى
وصار النمل تحت الرمل
صار الحكي تلميح!

¹ خلال تسليمه جائزة "سعيد عقل" الشعرية وصف الأخير عصام العبد الله بأنه "إله الشعر".