هل أعطت الثورة قُبلة الحياة للسينما السودانية؟

من"ستموت في العشرين" و"الحديث عن الأشجار" وصولاً إلى فيلم "الست".. أيّ مستقبل لللسينما السودانية؟

  • هل أعطت الثورة قُبلة الحياة للسينما السودانية؟

نجحت الثورة السودانية في إعادة تعريف العالم بالفن السابع (السينما) في بلدٍ يحتاج إلى إدارة التنوّع في داخله، بمنأى عن مناهج الاستقطاب التي يجيدها الساسة. ويمكن القول إن معظم من عرفوا السودان مؤخّراً، عرفوه عبر أمرين إثنين: الثورة ثم السينما التي نجحت عبر أعمال عدّة (أيقونية) في لفت الأنظار إلى بعض ما يدور في هذا البلد الذي تنحصر المعلومات عنه - بالنسبة إلى كثيرين -  في كلمتيّ "الحرب" و"الجوع".

في هذا السياق الاحتفائي بالسينما السودانية، تبرز أفلام "ستموت في العشرين" لأمجد أبو العلا، و"الحديث عن الأشجار" لصهيب عبد البارئ، و"الست" لسوزانا ميرغني.

وحظيت هذه الأعمال بتقدير كبير في المهرجانات الإقليمية والدولية، كونها عرّفت العالم بجوانب كثيرة غير معروفة عن هذا البلد الذاخر بالتعدّد والثقافات واللهجات المحلية، والتحدّيات كذلك.    

قُبلة الحياة

الملاحظ أن هذه الأفلام الذائعة الصيت، تأتي في سياقات بالغة التعقيد بالنسبة إلى صناعة السينما في البلاد، حيث توجد داران فقط للعرض السينمائي في العاصمة الخرطوم التي تحتضن ربع السودانيين، في وقتٍ توجد فيه المئات من دور الأحزاب التي ما تزال - رغم رحيل البشير- تنتج وبكثافة سياسات حافّة الهاوية.

إزاء هذه التعقيدات، يجزم الدرامي النميري حسين، بوجود تغييرات كبيرة طرأت على المشهد السينمائي في مرحلة ما بعد الثورة السودانية.

وينخرط النميري وزملاؤه في حراك محموم يبدأ من مسرح الشارع، ويمتدّ إلى إقامة جولات مسرحية وسينمائية في الأقاليم، تصاحب ذلك النشاط ندوات وحلقات نقاشية عن السينما والمسرح ودورهما في معالجات الاختلالات وتعضيد الأواصر المجتمعية. 

الأعمال السينمائية الأخيرة صنعت بحساسيّة سودانية عالية وحظيت باستحسان كبير من المشاهد المحلّي.

يقول النميري لـ "الميادين الثقافية" إنه "على الرغم من إنجاز معظم الأفلام السينمائية السودانية قبيل الإطاحة بالبشير بفترة وجيزة، إلا أن ظروف الثورة ساهمت في وجود شغف عالمي لمعرفة ما يدور في البلاد"، وهو أمر ساعد، على حد تعبيره، في "الاحتفاء بالفنون الواصلة من دولة أنجز شبابها ثورة سلمية نجحت في اقتلاع نظام ديكتاتوري ظلّ ممسكاً بمقاليد الحكم لعقود من الزمان".

ونوّه إلى أن ذلك "لا يقدح في قيمة أفلام تأسيسية مثل "ستموت في العشرين"؛ ولكن يعزّز الرؤية إلى أن ما هو آتٍ سيكون أكثر نضجاً، لا سيما في ظلّ أجواء الحريات التي أتاحتها الثورة، وتخوّل لصنّاع هذا الفن الوصول إلى مناطق وموضوعات وتابوهات محرَّمة لآجال طويلة".

ويعتقد كثيرون أن نظام البشير تبنّى منهجاً راديكيالياً متطرّفاً، معادياً للثقافة والفنون، مع محاولاته لفرض نموذج ثقافي أحادي رافض للتنوّع الذي تزخر به البلاد، ما قاد إلى اندلاع حروب أهلية عديدة محرّكها الدفاع عن الوجود الثقافي، كما جرى في إقليم دارفور غربيّ السودان. 

أما المنتج السينمائي، ومدير "سودان فيلم فاكتوري"، طلال عفيفي، فيصف الحديث عن إعطاء الثورة قبلة حياة للسينما السودانية بأنه "حديث سابق لأوانه".

يعتقد كثيرون أن نظام البشير تبنّى منهجاً راديكيالياً متطرّفاً معادياً للثقافة والفنون.

ويشير عفيفي في حديثه مع "الميادين الثقافية" إلى وجود عوامل "قيّدت الإنتاج السينمائي في السنوات الأخيرة، وفي مقدّمها جائحة "كورونا"، الأمر الذي حال من دون اكتمال حال النموّ التي ظهرت قبل سنوات".

ويقطع عفيفي بأن "الثورة وإن كانت حوَّلت الأنظار إلى السودان، إِلا ألا يعني أن الأعمال السينمائية الواصلة إلى منصّات التتويج في جوهرها غير قادرة على انتزاع الجوائز والتقدير".

بدوره، يعيد الناقد راشد مصطفى بخيت، رسم العلاقة بين الثورة والنجاحات السينمائية، بقوله إن "السينما كانت أحد منصّات الوعي التي ساهمت في صناعة الثورة بداية من العام 2000، خاصة في مناقشتها للمسكوت عنه، ولتنظيم حملات المناصرة، فضلاً عن نقل تعريف المشاهد خارج السودان بما يجري في بلادهم جرّاء التعتيم الإعلامي الذي فرضه نظام المعزول البشير".

في تصريحه لــ "الميادين الثقافية" يرى بخيت أن "السينما قادرة على الازدهار في ظلّ أجواء الثورة، خاصةً إن نجح القطاع في تنظيم نفسه وبناء هياكله بصورة تسمح بتوطين دراسة السينما"، مشيراً في هذا الصدد إلى أن "غالبيّة المخرجين السينمائيين الناشطين حالياً، تلقّوا تعليمهم خارج البلاد".

تحدّيات

يقول طلال عفيفي بوجود حاجة ملحّة إلى كسر أضلاع مثلّث يحول من دون نهوض صناعة السينما في السودان، ملخّصاً التحديات في التعليم: حيث "لا توجد أقسام لدراسة السينما في الجامعات دع عنك كليات متخصّصة"، ثم التمويل: حيث "لا ميزانيات حكومية مخصّصة للسينما ولا دعم من وزارة الثقافة أو حتى من قطاع الأعمال الخاص الذي لا يضع السينما في عقله الاستثماري"، وصولاً إلى القوانين: حيث "تبرز حاجة لخلق قوانين صديقة للسينما في مجالات (المصنّفات، الملكية الفكرية ورُخص دور العرض، والضرائب، والتخليص الجمركي لأدوات صناعة السينما .. الخ)".

وبالرغم من قناعاته بالأثر الموجب للثورة على الفنون عموماً، والسينما على نحو خاص، يعبّر النميري عن مخاوفه من أن تسدّد السينما فاتورة الانسداد الحالي في المناخ السياسي.

وقال: "دوماً ما تدفع قطاعات الفنون بما فيها السينما ثمن مغامرات الساسة المتوجّسين عادة من ضروب الفن باعتبارها أدوات لمعارضة السلطة، وفي أحسن الأحوال إن انتقلوا من خانة معاداتها فعادة ما يتوجّهون إلى خانة وضعها في آخر سلّم أولويّاتهم".

عين المشاهد

مع كل هذه النجاحات العالمية، ينظر كثيرون إلى أن السينما السودانية باتت موجّهة إلى مخاطبة جمهور خارجي، بأكثر من الجمهور المحلي، فمعظم السودانيين لم يحظوا بعد بمشاهدة أفلامهم التي ذاع صيتها اليوم في أرجاء المعمورة.

يتّفق راشد بخيت مع هذه الرؤية، ولكنه يعزوها إلى ضعف البنى التحتية الخاصة بالسينما وصناعتها، فضلاً عن أزمة تكاليف تغطية عمليات الإنتاج العالية، وفوق ذلك يُذّكر بأن معظم مخرجي ومنتجي هذه الأعمال ينشطون خارج البلاد.

في المقابل، يعتقد عفيفي، ومع تأكيده على تقديره التام لوجهة النظر الأخرى، بأنها تنطوي على نوع من التنميط القائم على ربط الاستحسان العالي لهذه الأعمال خارجياً، بكونها مصنوعة لجمهور خارجي ولمهرجانات إقليمية ودولية.

ينظر كثيرون إلى أن السينما السودانية باتت موجّهة إلى مخاطبة جمهور خارجي.

وقال إن الأعمال السينمائية الأخيرة التي صادفت تقدير عالمي، جرت صناعتها بحساسيّة سودانية عالية، وحظيت باستحسان كبير من المشاهد المحلّي.

موضوعات

يناقش الفيلم الوثائقي "الحديث عن الأشجار" قصة 4 من روّاد السينما السودانية والتحديات التي جابهتهم وعلى رأسها – بالطبع- النظم القمعية. ويحكي الفيلم الطويل "ستموت في العشرين" والمقتبس عن رواية "النوم عند قدمي الجبل" للكاتب حمور زيادة، عن الأسطورة والتمرّد في حياة شاب يافع تمّ تحديد أجله مسبقاً. أما فيلم "الست" القصير فيروي حكايات النساء من السطوة وحتى القهر في سياق مجتمع متغيّر.

إذاً، لا غرو أنّ يتّخذ الكثيرون من ثالوث الأعمال أعلاه مدخلاً لفهم السينما السودانية، وبقليل من تقليب دفاتر الماضي، والسياقات الحالية ربما يكون في المقدور التنبؤ بالمستقبل. مستقبل يُعتقد أنه سيكون زاهراً، في ظلّ سيادة قناعات حالية بأن الثورة أعطت هذا القطاع قُبلة الحياة.