السوق العتيق في ذوق مكايل : نفحة من التراث اللبناني

يروي "الزوقيون" القدماء أنهم كانوا يلتقون الشاعراللبناني الياس أبوشبكة في "قهوة السوق العتيق" التي كان يقصدها كل ليلة.

  • عرض تراثي في السوق العتيق
    عرض تراثي في السوق العتيق

في مسافة قصيرة تُعرَف بـ "السوق العتيق" في بلدة ذوق مكايل الكسروانيّة في لبنان، تختبىء محطات تاريخيّة هامّة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بلبنان الوسيط قبل بلوغ مرحلة الحداثة. 

من هذه المحطات أنه شكّل "بورصة الحرير" في المنطقة، وخُطِّطت فيه ثورات من أبرزها ثورة الفلاحين 1858، كما احتوى السوق على أهم الحرف التقليدية منها حياكة الحرير، والسّكافة، وصُنْع حلويات محلية خاصة، وسواها من ظواهر فريدة.  

ويفيد موقع بلدية ذوق مكايل الالكتروني أن ماضي هذا السوق ارتبط بتاريخ (آل الخازن) في المنطقة، وبدأت المسيرة العمرانية  إنطلاقاً من سنة 1617 حيث باشر "الخازنيّون" بشراء عقارات التركمان في الزوق، وقد شجّعت على بنيانه النهضة العمرانية التي أحدثها الأمير فخر الدين في عهده من مدّ الجسور إلى تشييد الخانات والقلاع.

تاريخ السوق العتيق

واستعرضت ناتالي فرح- عضو المجلس البلدي، ومسؤولة عن لجان السياحة والثقافة والبيئة في بلدية ذوق مكايل تاريخ السوق لـ"الميادين نت" ذاكرةً أن "نشوء السوق تم أواخر القرن السابع عشر، زمن العثمانيين، وكان لفترة طويلة بورصة الحرير حيث تضبط منه أسعار الحرير كسوق محلية وإقليمية.

السوق قسمان، "الفوقي"، تجمّع في مخازنه حائكو الأنوال، والإسكافيون، و "التحتيّ"، تضمّن الصيدليات، والمطابع، و"قهوة المير" الشهيرة.

تقول فرح إن "للقهوة دلالة تاريخية كبيرة، حيث قصدتها قيادات مثل يوسف بك كرم، والشاعر الياس أبو شبكة وهو ابن البلدة، والياس منيّر الذي أطلق شرارة ثورة الفلاحين حيث كانت تعقد الاجتماعات في السوق تحضيراً للثورة، لذلك كانوا يسمونه "سوق الحرية".

وتذكر فرح أن العثمانيين عندما كانوا يمرّون بالأسرى لديهم في السوق، كانوا يضطرون لفك أصفاد المساجين نظراً للرمزية التي حملها السوق.

ومع تطور الثورة العمرانية والتكنولوجية، تفيد فرح أن "الحركة التجارية التقليديّة بدأت تتراجع في السوق، وبدخول لبنان الحرب الأهلية، وامتدادها حتى الثمانينات، طالت السوق أضرار جسيمة جراء القصف”.

ترميم.... وسوق مشاة

سنة 1995، جرى ترميم السوق، وافتتح في عهد الرئيس الياس الهراوي،  و"بُني فيه سوق للمشاة، وفيه العديد من المحلات التراثية كحياكة النول، والرسم، والسكافة، والخياطة، والنجارة، وصناعة الموبيليا، وسواها من حرف"، بحسب فرح ذاكرة إنه "كان فيه "خان المير" حيث  عقدت الاجتماعات الهامة، وجرى التدوال بمختلف الأمور كبورصة الحرير، وثورة الفلاحين”.

ساعدت البلدية في الترميم بطريقة تحافظ فيها على التراث الأثري، والثقافي، وتفيد فرح إننا "حالياً نتحضّر لترميمه وفق معايير التراث العالمي للأونيسكو". 

  • السوق العتيق في ذوق مكايل
    السوق العتيق في ذوق مكايل

واللافت أن البضائع المنتجة في السوق شحنت إلى أوروبا وأفريقيا، والدول العربية، وكان الطلب كبيراً على مختلف الانتاجات، خصوصاً منها منتجات الحرير، كما شهد طلباً واسعاً على تجهيزات الأعراس للملوك والأمراء، والباشاوات وسواهم من حياكة زوق مكايل. 

"النول" و"المرصبان"

عائلات كثيرة اعتاشت من خلال عملها بالنول، وتضيف فرح إليه "تصنيع حلوى "المرصبان" الخاصة بزوق مكايل، ولا يزال هناك معلمون يعملون به اليوم لكن في المنازل"، وتعرّف فرح بالمرصبان إنه "حلوٌ مصنوع بطريقة خاصة من اللوز وماء الزهر، وعليه طلب واسع محلياً ودولياً".

وبهدف إحياء السوق، واستمراريته، اتخذت بلدية الزوق عدة خطوات تعدّدها فرح بأن "أبرزها إقامة ليالي السوق العتيق، وإقامة الاحتفالات الدائمة فيه مثل الفالانتاين، ومعرض النبيذ، وترميم خان المير، بمساعدة الحائكين، والمالكين لأن السوق ليس مُلكاً للبلدية، ومحلاته أملاك خاصة”. 

  • النول العتيق في ذوق مكايل
    النول العتيق في ذوق مكايل

بعض المواقع في السوق تشكل ذاكرة تاريخيّة له، مثل "قهوة المير" العائد لنهاية القرن السابع عشر، والقهوة ترتبط بالخان الأثري مقابلها، وتتناقل روايات تاريخية ان الأمير بشير الشهابي الكبير زارها أكثر من مرة، وفيها عقد يوسف بك كرم اجتماعات مع مؤيّديه الزوقيّين للتداول في مواجهة سياسات المتصرّفين.

مقصد الشعراء

ويروي "الزوقيون" القدماء أنهم كانوا يلتقون الشاعراللبناني الياس أبوشبكة في "قهوة السوق" التي كان يقصدها كل ليلة.

عابراً السوق، يطالعك معلّم موبيليا ثمانينيّ، عرّف عن نفسه بأنه جوزيف طانيوس طراد، وفتح مشغله في  سنة  1952،، موضحاً أنه "كان هناك أحداث، ومظاهرات وإضرابات رفضاً للتجديد للرئيس بشارة الخوري، ولا أزال هنا منذ ذلك الوقت”.

يتذكّر طراد أن "البدايات كانت ضعيفة، والناس لم تكن تُقْبِل كثيراً على طلب أشغالنا، والبيوت كانت بسيطة، خلافاً لهذه الأيام، ومع الوقت تقدّمت وتطوّرت، وصار الطلب شديداً علينا، وكانت مواعيدنا تُضرب من الصيف لما بعد عيد الميلاد، بسبب كثافة الطلب”، كما قال.

وأردف إنه "عندما بدأ الغلاء، وبدأت قيمة الأموال التي نعمل بها تتراجع، وبدأ ارتفاع سعر الدولار، وصلنا إلى يوم عندما نبيع الصالون بأبخس ثمن، ولا يكفينا المبلغ ثمن أخشاب للصالون التالي”.

وحول التراثيات التي كانت في السوق، قال: "كان عندنا كل المهن، حائكون، وخياطون ومختلف المهن، لكن عندما يرحل واحد من معلميّ حرفة معينة، تقفل لأن أحداً من الجيل الجديد لا يريد أن يتعلم مهنة آبائه وأجداده"، ويختم: "من يرحل لا يعوّض”.