بيوت عريقة في طرابلس: نموذج لأبنية تراثية مطلع الحداثة

تنتشر البيوت التراثية في طرابلس اللبنانية، وتشكّل غالبية ساحقة في الأحياء الحديثة التي بدأت تتوسّع مطلع القرن الماضي، بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر عندما شيّد أوّل مبنى خارج نطاق المدينة القديمة، وهو مبنى السراي العثماني.

  • الواجهة الجنوبية لقصر نوفل
    الواجهة الجنوبية لقصر نوفل

فتح بناء السراي الباب أمام سكان المدينة القديمة للخروج إلى بوتقة المدينة الحديثة، وبدأت الأبنية التراثية تتراصف تباعاً بمختلف الاتجاهات، حتى إذا حلّت ستينات القرن الماضي، اتّخذت المدينة شكلها الحديث.

بدأ البناء الحديث انطلاقاً مما يعرف بـ"ساحة التلّ"، إشارة إلى كثبان رمل اتّخذت شكل تلّ صغير يحتوي اليوم على ما يعرف ب"مقهى التل العالي".

وبين طرابلس الحديثة، والمدينة القديمة التاريخية، التي يؤثِر كثيرون تسميتها "طرابلس المملوكية"،  وحدة حال واستمرارية، فسكان المدينة الحديثة الأوائل هم سكان المدينة القديمة، ويوم بدأوا بالخروج إلى البوتقة الحديثة، حملوا معهم تراثهم وتقاليدهم، وكثيرون منهم هم أبناء العائلات الطرابلسية البارزة.

في المدينة القديمة، اختلط البنيان بين القديم، وبعض القصور الأحدث، وفي المدينة الحديثة، انطلق البنيان على أيدي أثرياء منها، فكانت غالبية البيوت ثرية، وجميلة.

من أبرز القصور في المدينة القديمة قصر الشيخ جميل عدرة،  وفي الخارج، قصر نوفل الذي يعتقد إنه كان من اوائل الأبنية على ساحة التل.

قصرا نوفل وعدرة يشكلان نموذجاً للأبنية التراثية بين قسمي المدينة الحديث والقديم.

قصر نوفل

يعتبر "قصر نوفل" شاهداً على حقبة نشوء طرابلس الحديثة ابتداء من الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وهو بناء جميل وراقي الهندسة والديكورات التي في داخله، شيّده صاحبه المتمول الطرابلسي قيصر نوفل عام 1898، وفق ما تشير لوحة لا تزال قائمة على مدخل  سابق له، توقف عن الاستخدام كمدخل، وتحوّل إلى مخزن تجاري.

أبحاث عديدة تشير إلى أن القصر هو البناء السكني الأول الذي بنيّ بعد السراي خارج بوابات المدينة القديمة، ويبدو أن قيصر نوفل انس لوجود السراي والثكنة العسكرية في ساحة التل، مدفوعاً بالتنظيمات التحديثية التي اطلقتها الدولة العثمانية، واطمأن إلى إمكان خروجه من المدينة القديمة الى خارجها، فاستقدم مهندسين ايطاليين لبناء قصره قبل مغادرته حي بيت حميه، آل كاتسفليس المتمولين في الاسواق الداخلية، والذين لا يزال احد الاحياء يحمل اسمهم حتى اليوم، وفيه قصرهم الشهير.

بات قصر نوفل ملكاً للبلدية التي حولته إلى مركز ثقافي أطلقت عليه تسمية "مركز رشيد كرامي الثقافي" بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق-ابن طرابلس- رشيد كرامي سنة 1987، ويستخدم المركز حالياً للأنشطة الثقافية والفنية، ويستقبل مؤتمرات تنموية، ويضم مكتبة عامة يرتادها طلاب الجامعات بنوع خاص.

تتقدم القصر باحة رخام تتوسطها بركة ماء صغيرة، ويتفرع من الباحة سُلَّمان متقابلان يصلان الى جهتي شرفة باب الرخام المنقوش والمزركش في الطبقة الثانية، والشرفة لها 3 قناطر مع أعمدة رخام تعلوها تيجان كورنثية.

اللافت في القصر زينة سقوفه بديكورات من الجفصين على الطريقة الايطالية، طُعِّمت ببعض حفريات خشب، منها الزهرة الكورنثية التي تزين العديد من تيجان أعمدة الرخام التي استخدمت ركائز لقواطع وفواصل بين الغرف سابقاً، ومنها المسيحي الطابع ذو النمط الغربي، ويبدو جلياً في إحدى غرف النوم (ربما الرئيسية) وفيها أشكال ملائكة، وتتدلى من سقفها ثريات قديمة والقواطع من خشب، على شكل قناطر مسدودة بعروق خشب وزجاج ملونين (فيتراي). يطل القصر على ساحة التل من شرفة جنوبية، لها 5 قناطر مرتكزة على أعمدة رخام، ومثلها إلى الغرب لجهة البولفار.

قصر عدرة

من المنازل الجميلة والمرموقة في حي داخلي في طرابلس بيت عدرة. في هذه المنطقة الطرابلسية العريقة، تنتشر منازل وأبنية كثيرة، يصفها العامة بالقصور، رغم صغر حجمها، وبساطة الوظائف البنياينة فيها التي لا تتعدى المنازل العادية، فباتت المحلّة تعرف بحي القصور.

إلا أن هذه الأبنية تتسم بمواصفات جودة البناء، والزخارف المُنمّقة فيه، واتّباع أسلوب العمارة التي تمزج الهندستين العثمانية بالإيطالية مع الحفاظ على الروح المحليّة في البناء، كالشبابيك المتوأمة، المُزيّنة بالألوان والتي تعرف بالفيتراي، وهي تُغني عن الشرفات، وعن الستائر القماش في الوقت عينه.

بيت عدرة أنشأه الوجه الطرابلسي المحبب على قلوب العامة من الطرابلسيين الشيخ جميل عدرة، وبناه، هو وأشقاؤه، على ثلاث طبقات على الطريقة التقليدية حيث كانت العائلة الواحدة تبني بيتا من عدة طبقات لأبنائها، فيتعايشون في المبنى عينه، ويحافظون فيها على الروابط العائلية من حب، وألفة. 

تجاورت الأبينة، والعائلات، في هذا الحي الذي عرف بـ "المهاترة" نسبة الى فرقة عسكرية عثمانية تعرف بالمهتار، فقد نشأ هذا الحي في الفترة الأخيرة من العصر العثماني.

في الطبقة الثالثة من المبنى، سكن بشير، شقيق الشيخ جميل، وتولى بنفسه تزيين الجدران، والسقف، بالألوان، والخطوط الجميلة الأقرب إلى الطابع الإيطالي، وهذا الطابع وفد إلى لبنان من بعد الاتفاقيات التي عقدها الأمير فخر الدين مع توسكانة في القرن السابع عشر، وجلبت الاتفاقية تأثير النمط الهندسي الإيطالي في العمارة المحلية.

انتقل آل عدرة من المهاترة أوائل الخمسينات، عندما بدأت الحداثة تطعن في المدينة، و أوغل التوسع خارج المدينة القديمة نحو ساحة التل، التي اصبحت وسط المدينة الحديثة، أو نحو أبي سمراء المتاخمة للمهاترة، والممتدة منها شرقاً وجنوباً لمسافات طويلة.

سكنت حي "المهاترة" أبرز العائلات الطرابلسية العريقة كالذوق، والمقدم، وكرامي، وكبارة، وميقاتي، وفتال، وزيادة وسواهم من العديد من العائلات.

بعد خروج آل عدرة من المهاترة، استثمروا بنايتهم بتأجير سكان آخرين، كثيرون منهم وفدوا من المناطق المجاورة، وآخر من سكن بيت بشير عدرة الجميل بزخرفاته، هم آل عيتاوي القادمين من البيرة في عكار.