كيف غيّر هذا المنزل تاريخ لبنان؟ (صور وفيديو)

مع انخراط أبطال لبنان في الذود عن أهالي غزة، وقبل ذلك عن وطنهم، ومع أزوف الذكرى الـ 80 لنيل هذا البلد العربي الصغير استقلاله،  قصد الميادين نت "بيت الاستقلال" في بشامون " للوقوف على آخر الهنيهات قبيل هذا التاريخ المفصلي من حياة وطن.

  • بيت الاستقلال
    أنشطة طلابية وشبابية في "بيت الاستقلال" (غرافيك: حسين بلحص)

هل يمكن لمنزل أن يكتب تاريخ وطن؟  وكيف تسنّى لهذا المكان الجبلي الوادع أن يدخل التاريخ؟

من رحم الآلام تنبلج الحرية، ولو لا صمود الشعب ما قامت الأوطان، هذا ما تجترحه غزة اليوم، بشعبها وناسها وأبطالها، وما خطّه الشباب الفلسطيني على مدى عقودٍ وأعوامٍ خلت.

لبنان الضارب في التاريخ والمميز على كتف المتوسط، هو فضلاً عن جمال تضاريسه وعليل مناخه وروعة معالمه السياحية، مربطٌ لأبطال هزموا الانتداب الفرنسي والاحتلال الإسرائيلي والتهديد الإرهابي على مدى عقودٍ وسنين.

"حاصر حصارك لا مفرّ... إضرب عدوك لا مفر"...  "وللحرية الحمراء بابٌ بكل يدٍ مضرّجةٍ يدق"، هكذا  لم تمرّ معركة استقلال لبنان عن الفرنسي عام 1943 دون دماء، وشهيد الاستقلال سعيد فخر الدين ينهض على ذلك، رغم محاولة البعض في لبنان تغييبه عن كتب التاريخ قبل العقود الماضية.

اليوم، ومع انخراط المقاومة في الذود عن أهالي غزة، وبالتالي عن لبنان، ومع أزوف الذكرى الـ 80 لاستقلاله،  قصد الميادين نت "بيت الاستقلال" للوقوف على آخر اللحظات والهنيهات قبيل انجاز لبنان لاستقلاله.

 ملاحظة هامة سجلناها بادىء ذي بدء، وهي أن الكثيرين في لبنان لم يسمعوا بهذا المكان، ومعظمهم لم يزوروه يوماً!

وزير المهجرين د. عصام شرف الدين في حكومة تصريف الأعمال مثّل الدولة اللبنانية بعيادة هذا المكان الوطني التاريخي هذا العام، والميادين نت رافقه في زيارته الرسمية مع ضيوف وفعاليات بوجود حفيد صاحب المنزل التاريخي جهاد الحلبي.

  • الوزير شرف الدين مع حفيد مؤسس المنزل جهاد الحلبي
    الوزير شرف الدين مع حفيد مؤسس المنزل جهاد الحلبي

د. شرف الدين للميادين نت: هكذا نال لبنان استقلاله

شرف الدين أوضح لـ الميادين نت "أن لبنان نال استقلاله عام 1943 بعد أن كان عبارة عن "إمارة جبل لبنان" ومناطق أخرى مندمجة مع سوريا، وظهر لبنان الكبير  عام 1920 بعد اتفاق "سايكس بيكو"، وتجلى الاستقلال بميثاق الوفاق الوطني.

وأوضح "قام الفرنسيون في ليل 11 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1943 باعتقال رجالات الاستقلال من رئيسي الجمهورية  والحكومة بشارة الخوري و رياض الصلح وغيرهم من الوزارء والشخصيات، لأنهم طالبوا بالاستقلال، وفي إثر ذلك تشكلت " حكومة لبنان الحر" من الوزراء الناجين من الاعتقال وهم الأمير مجيد أرسلان، حبيب أبو شهلا، وصبري حمادة.

واتحذت الحكومة "مقراً لها في منزل الشيخ أمين الحلبي في بشامون (جبل لبنان) الذي عرف لاحقاً بـ "بيت الاستقلال"، واجتمعوا لمناصرة المعتقلين وإصدار العلم اللبناني الأول، ودارت على مدخل البلدة معارك مع الفرنسييين حيث استشهد الشاب سعيد فخر الدين من بلدة عين عنوب... إلى أن أخليّ سراح الرؤساء والوزراء ونال لبنان استقلاله عام 1943 عن الانتداب"، بحسب شرف الدين.

رحلة "تاريخية" بامتياز استعدنا مراحلها في "بيت الاستقلال" في منطقة بشامون في جبل لبنان، المطل على العاصمة بيروت وبحرها ومطارها الدولي ومرفأها.

طلاب مدرسة "أمجاد" والعمل الوطني المؤثر

ويزور طلاب من لبنان وجمعياته الكشفية المنزل التاريخي في ذكرى الاستقلال، ولفت هذا العام دعوة مدرسة أمجاد العالية في منطقة الشويفات (جبل لبنان)  الطلاب لإعداد فيديو كليب تاريخي مع رقصات وطنية، رصدتها كاميرا الميادين نت، وهي من إعداد وتدريب المدربة الوطنية هالة عيد ابنة بلدة بشامون.

يذكر أن مدرسة "أمجاد" كان قد أعدت وقفات وطنية وإنسانية مع "أطفال فلسطين" عبر أوبريت " أدّاها الأطفال مع سفراء الأمم المتحدة "حسين فهمي ودريد لحّام وفاتن حمامة في مجلس النواب اللبناني، بعنوان "من بلادي أرض الثوار"، وأخرى بعد احتلال الجيش الأميركي للعراق عام 2003 بعنوان "ماذا بعد؟"، كما خاطب الطلاب الملوك والرؤساء العرب بأوبريت حول فلسطين بعنوان "يا قادة العرب"، قامت إدارة المدرسة بإعادة "منتجتها" وإرسالها عبر "السوشال ميديا" بعد العدوان الإسرائيلي على غزة منذ 46 يوماً. 

  • العلم اللبناني الأول مع صورة صاحب البيت وسلاحه
    العلم اللبناني الأول مع صورة صاحب البيت وسلاحه
  • الأسلحة المستخدمة في التصدي للفرنسيين
    الأسلحة المستخدمة في التصدي للفرنسيين
  • صور من فترة الاستقلال عام 43
    صور من فترة الاستقلال عام 43

نفض الغبار عن التاريخ

حلّة قشيبة ارتداها المنزل الجبلي  السياحي المتواضع، في ذكرى احتفال لبنان بعيدي العلم والاستقلال فأعيد نفض الغبار عنه وإعادة "الحياة" إلى جنباته، وهاهي "السنديانة" الضخمة وحجر معصرة الزيتون الأثرية تخبر عن ماضٍ عريق تليد يحكي قصة رجال ذادوا عن وطنهم.

 القناطر الحجرية الخارجية تنسحب على القناطر الداخلية المعقودة والتي كانت فيما مضى مكسوّة بالباطون وأتى ترميمها منذ أعوام بعد نزع الطبقة الاسمنتية آية في الجمال والروعة.

 تغير "بيت الاستقلال" كثيراً، من بيت ريفي متواضع إلى ما يشبه "السرايا" بعد فتخ الغرف الداخلية على بعضها، وتظهير جمال الأسطح المعقودة، فضلا عن استعادة بعض الاسلحة القديمة التي استخدمها الثوار في تلك الفترة، وأهمها بندقيات ورشاشات رجالات الاستقلال، إضافة إلى المعالم والموجودات والتي احتضنها البيت منذ العام 1943 وبينها أول علم للبنان المستقل.

 و "بيت الاستقلال"  كان منزلاً جبلياُ قديماً يقع على تلة من تلال بلدة بشامون المشرفة على بيروت، وهذا البيت الوادع في أحضان الطبيعة شهد إطلاق «البلاغ رقم 1» الذي أصدرته الحكومة اللبنانية الموقتة في 17 تشرين الثاني 1943 معلّنة الشروع بمقاومة "القوّات الفرنسية المنتدبة" المسلحة بمرتزقة سنغاليين .

  • مذياع
    مذياع "بيت الاستقلال" التاريخي
  • أثاث بيت الاستقلال بعد ترميمه
    أثاث بيت الاستقلال بعد ترميمه
  • البلاغ رقم 1
    البلاغ رقم 1

 منزل آل الحلبي (أي بيت الاستقلال) شيّد عام 1890، من الحجارة المعقودة التي انتشرت خلال القرن الماضي بكثرة في القرى اللبنانية، خصوصاً في جبل لبنان. وهو مؤلف من 3 غرف مفتوحة على "سطيحة" واسعة تظللها سنديانة كبيرة عمرها أكثر من 190 عاماً وكان يتفيأ ظلالها القادمون لمناصرة رجالات الحكم الوطني.

  كيف دخل المنزل التاريخ؟

 مارست الحكومة مهامها في بيت الاستقلال، وأثبتت صدقيتها، وأصدرت قراراتها الحرة. 

 وصل رجال الاستقلال إلى بشامون، وفي اثناء التداول وقف رجل مهيب اسمه الشيخ حسين الحلبي من بلدة بشامون، وقال بكل جرأة وقوة مخاطباً رجال الاستقلال والجمهور: "ان بيتي محايد وغير مواجه وبعيد عن الأنظار...تفضلوا".

وينقل جهاد الحلبي حفيد الشيخ المرحوم حسين الحلبي للميادين نت عن والده أن "البيت كان بكامله تحت تصرّف أعضاء الحكومة الموقتة وكان يضم الاجتماعات الهامة التي رسمت تاريخ لبنان في مرحلة الاستقلال، حتى أن هنالك غرفة يطلق عليها حتى اليوم اسم "السراي" نظراً الى أهمية الاجتماعات الرسمية التي كانت تعقد فيها، كما انعقد فيها جلسة لمجلس النواب (بمن حضر) مرتين.

  • الوزير الراحل مجيد أرسلان يقبّل العلم اللبناني الأول
    الوزير الراحل مجيد أرسلان يقبّل العلم اللبناني الأول
  • العلم اللبناني الأول مع تواقيع الوزراء
    العلم اللبناني الأول مع تواقيع الوزراء
  • لوحة بيت الاستقلال
    لوحة بيت الاستقلال
  • الشهيد سعيد فخر الدين
    الشهيد سعيد فخر الدين

وفيما كانت الوفود الشعبية تحفّ بالمنزل من المناطق اللبنانية بما يشبه التظاهرة الوطنية، كان الشباب من كافة الأحزاب والطوائف يتولون الحراسة مداورة في ما بينهم وعلى رأسهم المناضل أديب البعيني الذي سطّر مع رفاقه ملاحم في مقارعة الفرنسيين والذود عن "بيت الاستقلال" وحكومته، وقدّ كرّم بتسمية شارع باسمه في مدينة بيروت، والجدير ذكره أن أبناء وأحفاد المناضل أديب قدّمو لوحة تجسّد نضاله في معركة الاستقلال.

كلمات سر للصمود في وجه المحتل

 كانت حول البيت حراسة مشددة قوامها عشرة شبان من البلدة، يعرفون مداخل بشامون وطرقاتها ومخارجها. وكان لهم في كل فترة كلمة سر يجب ان يقولها المار أمام المبنى، فإذا جهلها يقبض عليه ويجري التحقيق معه، وكانت كلمة السر تتألف من كلمتين.في اليوم الأول كانت: بشارة–رياض، وفي اليوم الثاني كانت: راشيا – بشامون.

 وكان والد جهاد الحلبي يخبره كيف كان يتحمّس لصبّ القهوة العربية باعتزاز لرجالات الحكم وللوفود الزائرة، بينما تعقد حلقات الدبكة وتعلو الزغاريد وتلقى القصائد المعبّرة عن الوحدة الوطنية.وتقوم النسوة بتحضير الطعام للحضور.

  • بيت الاستقلال ويبدو الأطفال وهم يؤدون الأغاني الوطنية
    بيت الاستقلال ويبدو الأطفال وهم يؤدون الأغاني الوطنية

 في 15 و16 تشرين الثاني/ نوفمبر حاولت وحدات من الجيش الفرنسي اقتحام بشامون بعد أن طوّقت منطقة عاليه والشوف، إلا أنها اصطدمت بفرق الأنصار.

ودارت معارك دامية على الطرقات المؤدية من الساحل إلى الجبل استخدم فيها الأنصار أسلحتهم الفردية وبعض القنابل اليدوية في وجه الدبابات فسقط عدد من الجرحى وقضى الشهيد سعيد فخر الدين شهيداً بعدما فجّر دبابة فرنسية على تخوم بيت الاستقلال، وهو الشهيد الوحيد في معركة استقلال لبنان حيث أقيم له نصب تذكاري عام 2013 في بلدته الجبلية عين عنوب.

العلم اللبناني الأصلي

 صباح الأحد 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 1943، وصل الى بشامون أربعة شبان من بيروت يحملون علماً جديداً صنعته أيدي النساء في لبنان، دخلوا إلى سراي الحكومة في بشامون، ونشروه على الارض ليتأمله الحاضرون. تناول حبيب أبو شهلا العلم، وقدمه الى الأمير مجيد أرسلان بصفته وزير الدفاع الوطني، وارتفع العلم فوق سراي بشامون، علم لبنان الحر المستقل اعتباراً من صباح الاحد 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 1943.

 وما كان يشغل بال آل الحلبي على مدى عقود هو كيفية الحفاظ على العلم اللبناني الأصلي الموجود في البيت، فبعد سنوات من «توضيبه» في الخزائن خوفاً عليه من العت، قاموا بتخصيص إطار زجاجي له ووضع في صدر «السراي» مع الأسلحة وأدوات صبّ القهوة العربية التي كانت تستعمل بكثرة من قبل وزراء الحكومة الموقتة في تلك الظروف العصيبة.

 ولكن أخطر حدث تعرّض له المنزل كان عندما تهدمت واجهته خلال الاجتياح الإسرائيلي العام 1982 ما أدى إلى تحطّم كثير من الأثاث، وقامت العائلة بترميم الواجهة وفق الطراز المعماري القديم.

 معلم وطني تراثي بقيّ منسياً بكلّ ما في الكلمة من معنى حتى رممّها السيد جهاد الحلبي بالتعاون مع الأشقاء مهاب وحسان حسّان ، ويمكن القول أنه لولا لفتة رئيس الجمهورية اللبناني السابق اميل لحود بادخال هذا المتحف ضمن بروتوكول احتفالية الاستقلال كل عام لبقي "بيت الاستقلال" في طور النسيان.