"الغاز الروسي".. كدافع محرّك للحضور الأميركي-الأوروبي شرق المتوسط

تنطلق العديد من الدول الأوروبية ومعها الولايات المتحدة الأميركية من خلفيات عديدة في حضورها الأمني والسياسي في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، ضمن ملف الغاز هناك.. ويعتبر "الغاز الروسي" وسوقه الأوروبية عاملاً شديد التأثير في هذا الحضور.

  • ترى روسيا أن تحركها في المتوسط يجب أن يضمن بالدرجة الأولى، استقرار عملية تصديرها للغاز نحو أوروبا
    ترى روسيا أن تحركها في المتوسط يجب أن يضمن بالدرجة الأولى، استقرار عملية تصديرها للغاز نحو أوروبا

يشكّل الغاز الروسي المتجه إلى القارة الأوروبية، أحد أهم العناصر التي تحرّك الموقف الروسي من ملف غاز شرق المتوسط. ليس فقط الموقف الروسي، بل أيضاً الموقف الأميركي، ومواقف الدول الأوروبية المؤثرة في الملف.

غاز المتوسط بديل أوروبي عن الغاز الروسي؟

وصل حجم الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي إلى نسبة 40% من مجمل حاجات دول القارة، حيث تحصل ألمانيا وحدها على 50% من حجم الواردات الأوروبية تلك. 

في البعد السياسي المتداخل مع العامل الاقتصادي، تجد دول الاتحاد الأوروبي نفسها مقيدة سياسياً في مواجهة الخصم التاريخي روسيا، الذي يزودها بالغاز، ما يدفعها إلى البحث عن مصادر أخرى، يكون لها اليد الطولى فيها، ما يمكن أن يؤمّن لها نوعاً من الاستقلالية في القرار السياسي، بعيداً عن ضغط الحاجة للغاز الروسي، الذي ظهرت معالمه في قضية أوكرانيا على سبيل المثال.

ما زاد من ضرورة ذلك، هو تراجع إنتاج الغاز في أكبر دولتين انتاجاً له في الاتحاد الأوروبي وهما هولندا والنرويج (ثاني أكبر مورد للغاز لأوروبا بعد روسيا). أمّا الجزائر، وهي ثالث مورد للغاز إلى دول الاتحاد الأوروبي، فأبلغت الجانب الأوروبي، أنها تستعد لوقف تصدير الغاز تماماً للقارة، وذلك بسبب ارتفاع الطلب المحلي. 

تلك العوامل الجيوسياسية والاقتصادية، تجعل من غاز شرق المتوسط، وضرورة مروره بسلاسة وبشكلٍ دائمٍ ومستمر نحو القارة الأوروبية، عملية تأخذ أولوية قصوى لدى دول الأخيرة. وضمن تلك المصالح، تحركت الدول الأوروبية لفرض نفوذها وحضورها في عمليات التنقيب واستخراج الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط.

جاء موقف الاتحاد الأوروبي داعماً لـ"منتدى غاز شرق المتوسط"، وظهر ذلك من خلال تشجيعه ومشاركة دول من الاتحاد مباشرة في تأسيس المنتدى. كما شجع الاتحاد الأوروبي مصر وقبرص و"إسرائيل" على مد الأنابيب من الحقول النفطية وصولاً إلى أوروبا، ومن ضمنها خط "إيست ميد" لنقل الغاز من المتوسط إلى أوروبا، حيث كان الاتحاد الأوروبي قد أبدى تأييده لمشروع خط شرق المتوسط في العام 2013 عندما كان فكرة، حين اختارته المفوضية الأوروبية كـ"مشروع ذي أهمية".

في المقابل، فإن روسيا التي تعتمد بشكل كبير في نمو اقتصادها على تصدير الغاز، لا سيما إلى دول القارة الأوروبية، وجدت في التحرك الأوروبي هذا تهديداً لمصالحها. أولاً، لأنه يؤمّن لأسواق أوروبا بديلاً عن غازها بمصادر غاز أخرى، قريبة من أسواقها تلك، مع وجود قدرة لدى السوق الأوروبية على التحكم بالمسار الجغرافي لمصادر الغاز البديلة، استناداً إلى نفوذها الأمني والعسكري القوي في المتوسط. وثانياً، لأن الدول الأوروبية تتحرك في جغرافيا حساسة سياسياً وعسكرياً، بالنسبة إلى موسكو على سواحل المتوسط.

أميركا في شرق المتوسط.. تأثير الغاز الروسي

فشلت المحاولات الأميركية أكثر من مرة في فرض غازها كبديلٍ عن الغاز الروسي لدول القارة الأوروبية، وذلك بسبب عدم طرح واشنطن لسعر منافس (سعر الغاز الروسي أرخص)، وحتى أميركا عمدت في فترة من الفترات إلى شراء الغاز الروسي نظراً لسعره، وارتفاع تكلفة الإنتاج عندها. يضاف إلى ذلك، سهولة وصول الغاز الروسي إلى أوروبا عبر شبكة الأنابيب، في ظل عوائق جغرافية من الجهة الأميركية.

وأمام تلك العقبات، سعت الإدارة الأميركية إلى إيجاد بدائل أخرى، تحول دون اعتماد الدول الأوروبية على الغاز الروسي. وعبّرت الولايات المتحدة في أكثر من مناسبة عن امتعاضها من اعتماد الدول الأوروبية على الغاز الروسي، حيث اتهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ألمانيا، بأنها "أسيرة" لروسيا جرّاء استيرادها للغاز من الأخيرة، وذلك خلال اجتماع قادة غربيين في بروكسل للمشاركة في قمة حلف شمال الأطلسي في كانون الأول/ديسمبر 2019.

انطلاقاً من ذلك، تخوض الولايات المتحدة الأميركية هي الأخرى، دوراً محورياً في نزاع شرق البحر المتوسط على الغاز، ويأتي دورها في أماكن عديدة داعماً لدور الاتحاد الأوروبي ولـ"منتدى غاز شرق المتوسط". وكانت فرنسا طلبت رسمياً خلال الاجتماع الوزاري الثالث لـ"منتدى غاز شرق المتوسط" بالقاهرة في كانون الثاني/يناير عام 2020 الانضمام إلى عضوية المنتدى، كما أعرب نائب مساعد وزير الطاقة الأميركي عن رغبة بلاده في الانضمام كمراقب بصفة دائمة. وزير البترول المصري طارق الملا، رأى في ذلك وجود دعمٍ دولي بقيادة الولايات المتحدة لـ"المنتدى".

بالتوازي، أقر المشرعون الأميركيون في عام 2019 "قانون شراكة أمن وطاقة شرق المتوسط 2019" الذي "يساعد في تعزيز مواقع الولايات المتحدة في سوق الغاز شرق المتوسط، وإضعاف مواقع روسيا وتركيا في المنطقة"، وفق ما ذكرته صحيفة "ذا هيل" الأميركية

وأقر الكونغرس الأميركي القانون كجزء من حزمة إنفاق بقيمة 1.4 تريليون دولار تجعل الولايات المتحدة لاعباً رئيسياً في سوق الغاز الطبيعي في المنطقة "من خلال شراكة في مجال الأمن والطاقة مع دول شرق البحر المتوسط".

ويشير القانون الأميركي إلى أنّ واشنطن ستستكمل سياسات التعاون مع قبرص واليونان و"إسرائيل"، وستعمل على دعم بناء أنابيب الغاز عبر البحر الأدرياتيكي إلى أوروبا لـ"تقويض الأحادية الروسية"، كما أنها ستعزز وجودها في قاعدة "سودا" العسكرية في اليونان، وترفع الحظر عن تصدير السلاح إلى قبرص اليونانية (الخصم التاريخي لتركيا)، وتعزز برامج التدريب والتعاون مع دول المنطقة، "لمواجهة النفوذ والتدخل الروسي في شرق المتوسط".

ويلزم القانون الأميركي وزير الخارجية بتقديم تقرير إلى الكونغرس يتضمن تقييماً للأهداف السياسية والأمنية ومشاريع الطاقة الروسية في شرق المتوسط، ولائحة بوسائل الإعلام المملوكة من قبل روسيا في هذه الدول مع تقدير لنسب المشاهدة لديها، وتقديراً لمدى تأثير روسيا على نتائج الانتخابات في هذه الدول من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والهجمات السيبرانية. 

وفي المسألة المالية، ستعمل الولايات المتحدة على دعم القطاع المصرفي القبرصي لمكافحة عمليات تبييض الأموال، وستطلب من دول المنطقة أن ترفض تقديم الخدمات للسفن الروسية التي "تشارك في دعم النظام السوري"، ومكافحة التدخل الروسي في المنطقة، وحثّ دول المنطقة على رفض العتاد العسكري الروسي واستبداله بالتجهيزات التي تؤمنها دول "الناتو" وحلفائه، وكل ذلك بحسب القانون.

واللافت أن قانون الكونغرس هذا تزامن مع توقيع الرئيس الأميركي، قانوناً يفرض عقوبات على أي شركة تساعد شركة "غازبروم" المملوكة للحكومة الروسية في استكمال مد خط أنابيب غاز إلى أوروبا، حيث تعارض الولايات المتحدة مشروعي نقل الغاز الروسي إلى أوروبا، وهما: "السيل الأزرق"، عبر تركيا، وخط "السيل الشمالي 2"، عبر ألمانيا. وقامت واشنطن بممارسة ضغوط دبلوماسية، على دول البلقان عامة واليونان خاصة، لضمان عدم تحقق مشاريع التصدير الروسية إلى أوروبا، وفق ما ذكره الإعلام الروسي.

كما جاء التحرك الأميركي من خلال قانون الكونغرس بالتوازي مع ما صدر في الاجتماع الـ16 للجنة الاقتصادية المشتركة بين تركيا وروسيا في أنطاليا. حينها عرض وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك، استعداد بلاده لمرافقة تركيا في التنقيب عن مصادر الطاقة التقليدية في المياه الاقتصادية، الواقعة شرق البحر المتوسط. نوفاك، أكد أن شركات بلاده تنفذ مشاريع ناجحة في مجال الطاقة، شرقي البحر المتوسط، معرباً عن "استعدادها للتعاون هناك مع تركيا في هذا المجال".

لذا، فإن واشنطن هدفت من خلال هذا القانون إلى التشجيع على تأمين مصادر غاز للقارة الأوروبية بعيداً عن الغاز الروسي مع صعوبة إقناعها بالغاز الأميركي، وإعاقة أي محاولة روسية للحضور في شرق المتوسط أو الشراكة في مجال الطاقة مع دوله، وأيضاً ضمان عمل الشركات الأميركية في تلك المنطقة، تنقيباً واستخراجاً. وبطبيعة الحال، تعزيز الحضور والنفوذ الأمني والعسكري والسياسي الأميركي في تلك البقعة الجغرافية، حالها كحال مناطق أخرى ضمن المواجهة مع روسيا.

مجال النفوذ الروسي في شرق المتوسط.. شراكة مع تركيا؟

تبدو روسيا وتركيا ضمن دائرة الاستهداف الواحدة أوروبياً على أقل تقدير، بينما في العامل الأميركي فإن روسيا في الواجهة، مع مناورة أميركية تجاه تركيا حليفتها في "الناتو". لكن الواضح أن أنقرة وموسكو تتحركان ضمن خط استهداف أميركي-أوروبي واحد في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. 

وفيما تبدو عوامل الاستهداف جامعة بين الطرفين، فإن خطوط التلاقي والشراكة لمواجهة هذا الاستهداف متباينة وتحكمها مسارات أخرى تظهر فيها روسيا على النقيض من السياسة التركية، في ملفات عديدة من ضمنها بعض مناطق شرق المتوسط. على سبيل المثال، في ليبيا فإن الدعم الروسي غير العلني للمشير خليفة حفتر، يتعارض مع الدعم الكبير والمؤثر الذي تبديه أنقرة لحكومة فايز السراج (خصم حفتر) في طرابلس الغرب. كذلك الأمر في سوريا، في أقصى شرق المتوسط، حيث تقف موسكو إلى جانب دمشق، بينما تدعم تركيا الجماعات المسلحة في الجهة المقابلة. 

لكن، وأمام تلك التناقضات فإن تواجد موسكو وأنقرة ضمن دائرة استهدف واحدة، كان له تأثير على التناقضات المذكورة آنفاً، إذ أن الاتصالات التركية-الروسية بما يخص الملف الليبي تصاعدت، في الوقت الذي تحدثت أوساط سياسية وأمنية عديدة عن اتفاق روسي-تركي ضمني وغير معلن، سمح لحلفاء تركيا في ليبيا بالتقدم نحو حدود سرت والجفرة وإبعاد خطر قوات حفتر عن العاصمة. هذا ما نراه أيضاً في سوريا، مما يمكن تسميته بربط نزاع، وسط تنسيق تركي-روسي مشترك، تحت مظلة "سوتشي".

لم تعد للتحالفات الدولية وعلى رأسها حلف "الناتو" الكلمة الفصل في الصراعات، هذا أهم ما جنته روسيا في شرق المتوسط، حيث تتصارع دول الحلف كتركيا واليونان وفرنسا فيما بينها، وسط حضورٍ أميركي عاجز حتى الآن عن إيجاد آلية أمنية عسكرية موحدة مع "حلفائه" لمواجهة النفوذ الروسي. 

وترى روسيا أن تحركها في المتوسط يجب أن يضمن بالدرجة الأولى، استقرار عملية تصديرها للغاز نحو أوروبا، وفي ذات الوقت عدم السماح للولايات المتحدة بالتحكم بمسارات غاز شرق المتوسط، وبناء تحالفات تحاصرها هناك، استناداً إلى رغبة روسية بعدم تحوّل مصادر الطاقة في المتوسط إلى عوامل اقتصادية وسياسية ضاغطة عليها، مع إمكانية لجعلها مكملة لمصادر الطاقة لديها من خلال تعاونها مع دول المنطقة بما يحفظ مصالحها. وعليه، يمكن أن نشهد حضوراً روسياً أكثر فعالية، لكن هذا الحضور يحتاج إلى رافعة إقليمية، تبدو فيها تركيا وسط المعطيات الحالية أقرب اللاعبين. 

فهل ستكون التحديات التركية-الروسية المشتركة نوعاً ما في المتوسط، أحد العوامل التي ستؤدي إلى حلٍّ في مناطق التناقضات بينهما، أم أن تلك التناقضات لا تزال أولوية في مصالح أنقرة وموسكو، تتجاوز في أهميتها دائرة الاستهداف الأوروبية-الأميركية؟