"جيش حلب"... الرصاصة الأخيرة في جيب المسلّحين

الهزائم لا تزال تعصف بمجموعات المسلحين في شرق حلب حيث يتقدّم الجيش السوري وحلفاؤه على الأرض ليعيدوا توحيد المدينة بعد انهيار أحلام التقسيم، تقدمٌ يجعل من العاصمة الاقتصادية لسوريا قاب قوسين أو أدنى من العودة إلى كنف الدولة السورية بشكل كامل. التطوّرات الأخيرة فرضت نفسها على واقع المسلّحين، فأنجبت خلافاتهم مولوداً جديداً إسمه "جيش حلب".

كيف ومتى بدأت المعارك في المدينة؟

استطاع المسلّحون أن يسيطروا على مناطق عدّة داخل حلب أهمّها المنطقة الصناعية قبل أن يستعيدها الجيش السوري
في حزيران/ يونيو 2012، وبعد حملة تخوين وتحريض كبيرة مارسها المعارضون ضد #حلب وأهلها بسبب الاستقرار النسبي الذي احتفظت به المدينة، بدأت فصائل المعارضة المسلّحة بمهاجمة أماكن تواجد الجيش السوري في حلب مع قصف مكثف بالهاونات وقذائف الغاز على الأحياء المدنيّة.

استطاعت الجماعات المسلّحة أن تسيطر على مناطق عدّة داخل المدينة، أهمّها المنطقة الصناعية التي فُكّكت مصانعها وبيعت في الأسواق التركية بعد أن نهبها المسلحون، لكنّ الجيش السوري استعاد المبادرة بعد فترة ليتم تثبيت خطوط تماس داخل المدينة، فيصبح جزء كبير من شرق حلب مع المسلّحين، فيما أكثرية مساحة المدينة يسيطر عليها الجيش السوري.

ومع بقاء حلب في حالة من الانقسام، شهدت المدينة العديد من الأزمات الإنسانية. وفيما اتُّهم الجيش السوري بإلقاء البراميل على المنطقة الشرقية، تساقطت صواريخ الكاتيوشا والهاونات العشوائية بكثافة على غرب حلب التي تحتوي على عدد أكبر بكثير من المدنيين مقارنة مع الجزء الشرقي، مما أدّى إلى الكثير من الضحايا.

لماذا الصراع على حلب؟

مدينة حلب نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2016 نقلاً عن صحيفة الأخبار اللبنانية
اتّخذ الصراع على حلب أهمّية كبيرة وذلك لعدّة أسباب.

أوّلاً، أهمّية المدينة الاقتصادية. فمدينة حلب كانت تُعتبر المدينة الأقوى صناعياً في العالم العربي نظراً لما كانت تحتويه من مصانع متطوّرة، خاصة تلك التي تنتج الغزل والنسيج والمواد الغذائية والمفروشات والمنتوجات الحرفية، ويمكن وصف حلب بأنها خزان التراث الحرفي السوري وعلامة فارقة في دور سوريا الاقتصادي في المنطقة.

أهم النتائج السلبية التي أدّت إليها المعارك الطاحنة التي شهدتها المدينة هي تفكيك المصانع الكبرى هناك، وسط اتّهامات مفادها قيام جماعات تنسّق مع تركيا بسرقة هذه المعامل وبيعها داخل الأراضي التركية، كذلك فرضت الجماعات المسلحة خوّات على المحلات التجارية واستعملت الخطف والفدية كوسيلة لتموّل نفسها وترهب الناس.

ثانياً، الكثافة السكانية والمكانة التاريخية. عدد سكّان حلب قبل عام 2011 كان يتخطّى المليونين، وتعتبر حلب من المدن السورية الكبرى الأكثر رمزية في تاريخ البلاد، رغم أن التوازن اختل مع تفضيل عدد كبير من سكان الجهة الشرقية الانتقال إلى منطقة سيطرة الدولة غرب المدينة، بالإضافة إلى الهجرة الكثيفة التي ضربت الديمغرافيا السورية، لاسيّما اليد العاملة الماهرة.

ثالثاً، قربها من الحدود التركية. تشكّل المدينة ضرورة جغرافية لكلّ المجموعات المسلّحة التي تتمتّع بعلاقات جيّدة مع تركيا، فهي المدينة الحدودية الكبرى الوحيدة ذات الأغلبية السنّية، ما جعل السياسة التركية تصب اهتمامها على دعم وتفعيل عملية السيطرة على المدينة وسط حديث رئاسي تركي دائم عن "مصلحة تاريخية" لتركيا في حلب.

أكثر من 20 فصيلاً في شرق حلب

فصائل عدّة تقاتل شرق حلب، ويؤدّي عددها الكبير واختلاف مرجعياتها العقائدية والإقليمية حول المعركة إلى ترهّل عسكري على الأرض، ساهم في التقهقر أمام ضربات الجيش السوري والحلفاء.

ويبلغ عدد هذه الفصائل أكثر من 20. وتُعدُّ "جبهة فتح الشام" أو "جبهة النصرة" سابقاً وأحرار الشام أبرز فصيليْن مقاتليْن في الأحياء الشرقية لحلب، بالإضافة إلى بعض الفصائل الأخرى كـ "جيش الإسلام" و"جند الشام" و "حركة نور الدين الزنكي" و"الحزب الإسلامي التركستاني" و"لواء الحق" و"فيلق الشام" و"جيش السنّة" و"جبهة أنصار الدين" و"الجبهة الشامية" .

أما الجيش الحرّ فيشارك بعدد من فصائله وهي "الفرقة الثالثة عشر" و"الفرقة الشمالية" و"الفرقة الوسطى" و"جيش التحرير" و"جيش المجاهدين" و"جيش النصر" وتجمّع فاستقم كما أمرت" و"فرقة السلطان مراد" و"كتائب الصفوة" و"كتائب ثوّار الشام" و"لواء صقور الجبل".

والجدير بالذكر أن الفصائل المسلحة أطلقت قبل أشهر عملية أسمتها "ملحمة حلب الكبرى" هدفت فيها لاسترجاع مناطق سبق أن استعادها الجيش السوري وحلفاؤه، إلا أن العملية انقلبت على رأس مدبريها إذ استعاد الجيش السوري المبادرة منفذاً كمائن أنهكت قوات المعارضة وأوقعت عدداً من قيادييها الميدانيين بين قتيل وأسير، ما أنذر ببداية نهاية سيطرتها على الجزء الشرقي من المدينة.

الخلافات تستعر

بعدما تعرّضت الفصائل المسلّحة في شرق حلب إلى نكسات عدّة أدت إلى خسارتها نصف المساحة التي كانت تسيطر عليها هناك، تواترت أنباء عن حلّ تلك الفصائل نفسها وانضوائها تحت ما سُمّي "جيش حلب" لمواجهة الهجمات العنيفة التي يشنّها الجيش السوري وحلفاؤه على المنطقة، وتعيين المدعو "أبو عبدالرحمن نور" مسؤولاً عاماً والمدعو "أبو بشير معارة" مسؤولاً عسكرياً.

وأدت الهزائم المتتالية التي مُنِيَ بها المسلّحون في حلب إلى استعار الخلافات بين الفصائل، حيث بدأ الناشطون المنتمون إلى هذه الفصائل بلوم بعضهم بعضاً فضلاً عن الاتهامات بالتخاذل. ووصل التراشق بينهم على صفحات التواصل الاجتماعي إلى حدّ التخوين واللعن.

وقال أحد الناشطين "من يتباكى على حلب ويخون الثوّار فليتفضّل وليقاتل في حلب"، فيما قال آخر "إذا كنت المجاهدين يحق لك التكلّم والانتقاد، أما إذا كنت من الخوالف فلا يحق لك التكلّم إلا في مجالس النساء، لست أنا من وصفك ربّك هو الذي وصفك". وقد اتُّهمت حركة أحرار الشام أيضاً بالتهرّب من القتال.

وكان للسعودي عبدالله المحيسني المسؤول في حركة فتح الشام حصة من الاتّهامات اللاذعة التي انتشرت على وسائل التواصل، حيث قال أحدهم "الدجال المحيسني في عام 2016 جمع ملايين الدولارات ووعد بآلاف الانغماسيين لتحرير حلب ثم كذب".

واعترف البعض أنّ النتائج السلبية التي تحصدها الجماعات المسلّحة في حلب إنّما تتحمّل مسؤوليتها هذه الفصائل كلها، حيث قال ناشط من "لواء الحق" على صفحته على موقع تويتر "جميعنا مسؤولون عما يجري في حلب، بما وصلنا إليه من حالة مزرية من الفرقة والتشتّت، حتى باتت أخبار قيادة فصيل من الفصائل أهم عندنا مما يحدث في حلب".

العمليّات مستمرة حتى التحرير الكامل

وكما أعلن الجيش السوري، فإنّ العمليّات العسكرية ستستمرّ حتى السيطرة على مدينة حلب بالكامل، مما يضع المسلّحين في تلك المنطقة تحت ضغط متواصل.

ويؤكد عدد الجبهات الكبير الذي فُتح في الأيام المقبلة، كما وغزارة النيران التي يلجأ إليها الجيش السوري تمهيداً لاقتحام الأحياء، جدّية القرار السوري لحسم الأمور في حلب.

وأكّدت غرفة العمليّات المشتركة التي تدير الهجوم الذي يشنّه الجيش السوري وحلفاؤه أنّ أي محاولة من أي جهة كانت لدعم المسلّحين أو محاولة إنقاذهم سيتم الرّد عليها بقوّة، وفي ذلك مؤشّر على أنّ خطة الهجوم التي أعدّتها غرفة العمليّات هذه قد وضعت كل الاحتمالات واستعدّت لمواجهتها.

ويبرز الدور الروسي في ما يجري بحلب من خلال الفرق الهندسية الروسية التي تعمل على تنظيف الأحياء المسيطر عليها من قبل الجيش السوري وحلفائه من الألغام المزروعة بهدف تأخير التقد العسكري باتجاه المزيد من الأحياء. وقد دخلت إحدى هذه الفرق الهندسية في الساعات الأخيرة إلى مساكن هنانو وبدأت عملها في المنطقة.


وفق سير الأحداث، فإنّ مدينة حلب تتجه إلى نهاية فصل كبير من العنف والدمار الذي سيطر عليها لسنوات، وسط ترجيحات أن يشكّل الأمر مدخلاً لتراجع حدّة الصراع في سوريا بشكل عام ... فهل يكون استرداد حلب مفتاح انتصار سوريا على محنتها؟

اخترنا لك