روسيا والأزمة السورية

لم يقتصر الدور الروسي في سوريا على النواحي العسكرية وإنما جاء في موازاة المواجهة السياسية الدبلوماسية التي خاضتها موسكو لمنع تكرار السيناريوهات التي شهدتها دول عدّة في المنطقة في سوريا وبالتالي ترنّح الدولة السورية وسقوطها في الفوضى التي تسعى إليها الجماعات المُسلّحة.

قوات روسية في قاعدة حميميم بسوريا
تدرّج الموقف الروسي منذ بدء الأزمة السورية من الدعم السياسي لدمشق عام 2011 وصولاً إلى المشاركة العسكرية المباشرة في أيلول/ سبتمبر عام 2015، وإن كانت المشاركة العسكرية اقتصرت في بادىء الأمر على الغارات الجويّة إلا أنها تطوّرت لاحقاً لتصل إلى المشاركة الميدانية في أكثر من منطقة في موازاة إزالة الألغام من المناطق التي استعاد السيطرة عليها الجيش السوري ولا سيما في حلب وتدمر.

لم يقتصر الدور الروسي على النواحي العسكرية وإنما جاء في موازاة المواجهة السياسية الدبلوماسية التي خاضتها موسكو لمنع تكرار السيناريوهات التي شهدتها دول عدّة في المنطقة في سوريا وبالتالي ترنّح الدولة السورية وسقوطها في الفوضى التي تسعى إليها الجماعات المُسلّحة.

موسكو ترفض الفوضى الشرق أوسطية

لسنوات عدّة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي غاب وغُيِّب دور موسكو في مناطق كثيرة ومنها الشرق الأوسط، وسط اندفاعة غربية بقيادة واشنطن للتحكّم بمفاصل المناطق التي كانت ولعقود طويلة صديقة للكرملين.

الغرب أستفاد من ترهّل وضعف إدارة بوريس يلتسين وعدم مبالاتها بالحفاظ على الإرث السوفياتي على الرغم من وراثة موسكو لذلك الإرث، وفي موازاة إدارة الكرملين ظهره للمصالح السوفياتية السابقة وانشغاله بإعادة ترتيب البيت الداخلي، كان الغرب يتمدّد في الاتجاهات الأربعة من دون أن يوفّر حلفاء موسكو التقليديين مُستخدماً الوسائل كافة سواء التدخّل العسكري المُباشر أو غير المًباشر عبر استراتيجية الفوضى المنظّمة التي ضربت بقوة في أكثر من بلد مُتّكئة على مصطلحات شعبوية مثل تغيير النظام وترشيق أنظمة الحُكم.

خلف هذه الشعارات نجح الغرب في شرذمة دول عدّة ومنها من كان حليفا حقيقياً لموسكو، ومن هذه الدول ليبيا التي ربطتها ولعقود علاقات تحالفية بموسكو، وخلال فترة قصيرة فقدت الأخيرة حليفتها التي غرقت في أتون النزاعات الداخلية والتدخّلات الخارجية، ولا سيما الغربية وسط صدمة الكرملين الذي كان وافق على القرار الدولي  1973 (تبنّى مجلس الأمن الدولي في 18 آذار/ مارس عام 2011 - القرار رقم 1973 الذي يقضي بفرض منطقة حظر جوّي فوق ليبيا، واتخاذ كافة الإجراءات الضرورية لحماية المدنيين).

والقرار حمل في طيّاته تشريع التدخّل العسكري الغربي واستبعاد موسكو بشكل كامل عن المشهد الليبي.

هذه الهفوة الدبلوماسية ظلّت ماثلة أمام القيادة الروسية التي اكتشفت لاحقاً تبعاتها السلبية وشكّلت الحافز الأبرز لتصلّب موقف موسكو خلال الأزمة السورية، ما استدعى تدرّجاً في مواقفها وصل إلى المشاركة العسكرية لمنع سقوط الدولة السورية وتكرار المشهد الليبي، عدا أن موسكو ظلّت ثابتة على موقف مفاده أن التغيير في منطومة الحُكم السورية يحدّده فقط الشعب السوري وليس الإملاءات الخارجية وتعاطت مع الرئيس بشّار الأسد واستقبلته على هذا الأساس.

في موازاة الدعم الروسي لدمشق حافظت موسكو على قاعدتها البحرية في طرطوس والتي باتت آخر وأهم  القواعد لها في الشرق الاوسط، وساهمت هذه القاعدة في انطلاق الهجمات الروسية على الجماعات التي تُصنّفها روسيا بالإرهابية وفي مقدّمها تنظيم داعش وجبهة النصرة.

لكن الدور الروسي لم يقتصر على الجانب العسكري، فموسكو لا تزال تكرّر بأن لا حل عسكرياً في سوريا، وبالتالي لم تتردّد في الدعوات لمؤتمرات الحوار السورية بدءاً من جنيف وصولاً إلى أستانة على قاعدة أن الحل السياسي هو المخرج الوحيد للأزمة.

المواجهة الدبلوماسية : الفيتو لمنع سقوط سوريا

روسيا تجهض بالفيتو الخامس مشروع القرار الفرنسي الإسباني والمتعلّق بوقف إطلاق النار في حلب في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991وقبل الأزمة السورية، لم تلجأ روسيا إلى حق الفيتو إلا مرتين، الأولى لمنع قرار ينتقد قوات صرب البوسنة، لعدم سماحها للمفوّض الأعلى للاجئين بزيارة بيهاك في البوسنة، ومرة أخرى لعرقلة صدور قرار حول تمويل نشاط  للأمم المتحدة في قبرص. ولكن موسكو استخدمت الفيتو 6 مرات منذ اندلاع الأزمة السورية لمنع تكرار تجربة ليبيا في سوريا كما يكرّر أكثر من مسؤول روسي  في موسكو.

الفيتو الأول كان في الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2011، حيث منع الفيتو الروسي الصيني فرض عقوبات على دمشق، وبعد أربعة أشهر استخدمت موسكو ومعها بكين الفيتو للمرة الثانية وبرّر الكرملين ذلك بمنع الولايات المتحدة المتحدة والغرب من استخدام القرارات الأممية وسيلة للتدخّل العسكري في سوريا. وفي تموز / يوليو عام 2012 أعادت موسكو وبكين الكرّة ومنعت مشروع قرار دولي بفرض عقوبات على دمشق.

بعد هذا الاعتراض الروسي على التدخّل العسكري في سوريا من قِبَل الغرب أحجم الأخير ولنحو عامين عن تقديم مشاريع قرارات دولية جديدة، لأنه أيقن أن مصيرها سيكون الفشل وهو ما تكرّر في أيار/مايو 2014 عندما لجأت موسكو وللمرة الرابعة إلى الفيتو ضدّ  مشروع قرار يقضي بإحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية، وحينها أكّدت روسيا أن هذا المشروع من شأنه أن يُضعِف فُرَص الحل السلمي للأزمة السورية.

وفي الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، أجهضت روسيا بالفيتو الخامس مشروع القرار الفرنسي الإسباني، والمتعلّق بوقف إطلاق النار في حلب، وطبعاً كانت الدول الداعمة للجماعات المُسلّحة في سوريا وتحديداً في حلب تصبو إلى وقف إطلاق النار من أجل أن تلتقط تلك الجماعات أنفاسها بعد الضربات الموجعة التي ألحقها بها الجيش السوري وحلفاؤه بغطاء جوي روسي.

أما الفيتو المزدوج الروسي الصيني السادس فكان في 28  شباط/ فبراير الفائت ضدّ قرار في مجلس الأمن تؤيّده القوى الغربية وكان يتضمّن فرض عقوبات على سوريا بتهمة اللجوء إلى السلاح الكيميائي.

في المُحصّلة لا يبدو أن موسكو ستغيّر من سياستها في التعاطي مع الأزمة السورية لأن المشهد الذي غيُّبت عنه في أكثر من منطقة جعلها الخاسر الأكبر، عدا أن الوصفة الغربية الجاهزة للتغيير قد تصل إلى مناطق ليس فقط على حدود روسيا الاتحادية  وإنما داخل هذه الحدود.  

اخترنا لك