لماذا يؤدي صعود الصين إلى تراجع الحروب الأميركية؟

مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تتحدّث، في مقال، عن "جذور إدمان الولايات المتحدة على استخدام القوة العسكرية"، مرجّحةً أن يؤدي صعود الصين إلى تقييد التدخل الأميركي العسكري في العالم، واتجاه واشنطن إلى مزيد من الدبلوماسية.

  • مروحية أميركية من طراز "شينوك" تهبط جنوبي شرقي أفغانستان، كانون الأول/ديسمبر 2019.

يتحدث مقال في "فورين أفيرز" الأميركية عن الأسباب التي ترجّح أن تتجه الولايات المتحدة إلى تقييد تدخلاتها العسكرية في العالم، على خلفية صعود قوة الصين وحضورها عالمياً.

وتجد الولايات المتحدة نفسها الآن في عصر يقوم خصومها باستفزازها عسكرياً، بصورة أقل من فترة الحرب الباردة. ومع ذلك، تتدخل واشنطن بالقوة المسلحة أكثر من أي وقت مضى.

وبحسب الصحيفة، فإنّ هذا يُعَدّ "اتجاهاً مؤسفاً"، ولاسيما بعد "التدخلات العسكرية الأميركية الكارثية في أفغانستان والعراق وليبيا".

وأكد المقال أنّ "اللجوء المتكرّر والمفرط إلى استخدام القوة يقوّض شرعية الولايات المتحدة في العالم"، إذ إنّه "مع تقلّص السلك الدبلوماسي الأميركي، والنفوذ الأميركي في الخارج، تزداد البصمة العسكرية للبلاد بصورة خاصة. وتُظهر استطلاعات الرأي العالمية أنّ أكثر من نصف سكان العالم ينظرون الآن إلى الولايات المتحدة على أنها تهديد".

ويعتقد المقال أنّه قد يكون هناك تغير في المستقبل القريب، ولاسيما مع ازدياد قوة الصين، فمن المرجح أن تمتنع الولايات المتحدة عن الانخراط في التدخلات الخارجية، لأنها قد تنتهي بمواجهة مع قوة عظمى أخرى.

وقد يؤدي ذلك، في النهاية، إلى "دفع صُنّاع السياسة الأميركيين إلى متابعة المبادرات الدبلوماسية والاقتصادية، والتي يمكن أن تعزّز القوة الناعمة للولايات المتحدة وصدقيتها العالمية".

حروب الولايات المتحدة لم تكن ناتجة من تهديدات وجودية

عندما يكون بقاء الدولة على المحكّ، فإن أيّ شيء يمكن أن يحدث، لكن من المؤكد أنّ بقاء الدولة لم يكن على المحك في الصراعات التي بدأتها واشنطن في العقود الأخيرة.

وعلى الرغم من أنّ التأثير التراكمي لميل الولايات المتحدة إلى اللجوء إلى القوة قد يكون غير مرئيٍّ لمواطني الولايات المتحدة وسياسييها، فإنّه واضحٌ بقوة لخصوم الولايات المتحدة، وحتى لحلفائها في الخارج، كما يؤكّد المقال.

ووجد استطلاع أجراه مركز "بيو" للأبحاث أن "مكانة الولايات المتحدة تراجعت عالمياً، بصورة حادة، بين عامي 2013 و2018. ففي عام 2013، أكد 25% من الأجانب (غير الأميركيين) أنّ قوة الولايات المتحدة ونفوذها يشكلان تهديداً كبيراً، وهو رقم ارتفع إلى 45% بعد خمسة أعوام.

"تأثير 11/9": الميل إلى نزع الصفة الإنسانية عن الخصوم

وبحسب المقال، أقنع احتضان الحركات المتطرفة والدينية للهجمات الانتحارية على المدنيين جزءاً من الأميركيين، بمن فيهم عدد من صنّاع السياسة، أنّ الولايات المتحدة "تواجه عدواً غير إنسانيّ".

ومن وجهة النظر هذه، فإنّ رغبة الأجانب (غير الأميركيين) في "الموت من أجل قضية"، تدعو إلى التشكيك في عقلانيتهم، وبالتالي في "إنسانيتهم"، في تناقض مع كون الاستعداد للمخاطرة بالحياة أو التضحية بها يُعَدّ أمراً بطولياً عند القيام به دفاعاً عن الولايات المتحدة.

ففي خطاب ألقاه الرئيس الأميركي الأسبق، جورج دبليو بوش، عام 2002، بعد أقل من 5 أشهر على أحداث الـ 11 من أيلول/سبتمبر، أكّد فيه أنّ "أعداءنا يرسلون أبناء الآخرين في مهمات انتحارية وقتل"، وأنّهم "يعتنقون الاستبداد والموت كعقيدة وسبب للوجود".

وأعلن بوش أنّ هذه الدول و"حلفاءها الإرهابيين يشكلون محور الشرّ، ويتسلّحون لتهديد سلام العالم".

هذه العادة المتمثلة باعتبار الخصوم متباينين تبايناً جوهرياً عن غيرهم من البشر، أو غير عقلانيين، تساعد على تفسير التراجع عن استخدام الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية الأميركية في فنّ الحكم، لمصلحة سياسة خارجية تعتمد على القوة أولاً.

ففي طبيعة الحال، إذا تمّ تصوير الأعداء قوةً "معادية للطبيعة البشرية"، فإنّ ذلك سيجعل المساومة أو التفاوض معهم مهمة حمقاء وغير عقلانية.

معضلة انهيار الاتحاد السوفياتي: واشنطن لم تنسحب

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو في عام 1991، أعطى التوزيع المباشر للقوة بعد الحرب الباردة الولايات المتحدة ميزةً هائلة في القوة لكسب الحروب، وشجّع ذلك واشنطن على نشر جيشها بقوة في جميع أنحاء العالم.

وركّزت عادة التدخل في الخارج، خلال الحرب الباردة، على دعم الانقلابات والاغتيالات، والتدخل في الانتخابات، والقيام بعمليات سرية، وما إلى ذلك باسم الأمن القومي، لكنّ الانهيار المفاجئ للخصم الوحيد للولايات المتحدة تركها مع معضلة غير معترف بها.

وكان في إمكان واشنطن الانسحاب على نحو يتلاءم مع بيئة التهديد الجديدة، الأمر الذي كان من شأنه أن يعزّز شرعيتها وسمعتها كقائدة عالمية مسؤولة، لكنّ عدداً من صنّاع السياسة والمحللين الأميركيين اعتقد أنّ تدخل واشنطن في الحرب الباردة ساعد على انتصار الولايات المتحدة في نهاية المطاف على الاتحاد السوفياتي.

الوضع الراهن: الصين والولايات المتحدة

وبحسب المقال، عندما كان الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو موجودين، تمّ قمع سياسة "القوة أولاً" بسبب الخوف من أنّ الصراع المتصاعد يمكن أن ينتهي بحرب نووية عالمية، لكنّ التعليق الموقت للتنافس بين القوتين العظميين، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، وقبل صعود الصين، شجّع واشنطن على تحمل مزيد من المخاطر.

لكنّ "القوة العسكرية المتنامية للصين، والقوة الاقتصادية الممتدة، والبصمة العالمية الآخذة في الاتساع، يجب أن تؤدي جميعها إلى زيادة حذر الولايات المتحدة".

وترجّح "فورين أفيرز" أنّ ذلك "يمكن أن يبشر بالعودة إلى اعتماد الحوكمة الدبلوماسية والاقتصادية قبل اعتماد القوة المسلحة". وسبب ذلك:

أولاً، أنّ الرئيس الصيني، شي جين بينغ، "ألزم الصين بتعزيز عسكري ضخم، بينما يتدخل بقوة في المحيطين الهندي والهادئ".

ثانياً، مع "ازدياد النفوذ الصيني، مستقبلاً، في مقابل النفوذ الأميركي، من المؤكد أنّ الولايات المتحدة ستردّ بطريقة أكثر حزماً وتدخلًا ضدّ الصين، من أجل المحافظة على موقعها المهيمن على العالم"، لكنّ السياسة الخارجية ستكون "أكثر حذراً وأقل احتمالاً لتورّط واشنطن في صراعات عالمية جديدة، حمايةً لأمنها ولأمن المجتمع الدولي".

وأخيراً، فإنّ"الولايات المتحدة، التي لا تمارس كلّ قوتها العسكرية"، ستعزّز "الردع المتخيّل" لواسنطن، فالقوة الكامنة غير المستخدمة هي رادع أفضل كثيراً من القوة العسكرية التي تُستخدم، مع تكاليف بشرية واقتصادية فادحة.

ويختم المقال النقاش مؤكداً أنّه "سيكون من الأفضل لواشنطن أن تعيد النظر في استخدام القوة في الخارج"، وأن "تعيد التركيز على الدبلوماسية في الأعوام المقبلة".

اخترنا لك