بأى معيارٍ نشارك أم نقاطع الانتخابات؟

لطالما كنت أتساءل بأى معيار أمنح صوتي لشخص ما فى أي انتخابات؟ كان التصوّر لديّ واضحاً حاسماً بخلاف العديد من تصوراتي العلمية أوالفكرية التى أنزع فيها إلى النسبية إدراكاً لثقل الحقيقة وتعقد جوانبها، لكن حينما يتعلق الأمر باختيار شخص لموقع المسئولية رئيساً لدولة أو مديراً لجامعة أو كلية أو لأي مؤسسة مطلوب اختيار شخص لقيادتها فإن الأمور لديّ تتحوّل على الفور.

 

معياران حاسمان واضحان وبسيطان أنطلق منهما فى اختياري هما الأمانة والروح الإصلاحية. الأمانة تعني نظافة اليد، وهى ليست فقط فضيلة أخلاقية بحد ذاتها لكنها أيضاً ضرورة عدل فى مجتمع فقير يخوض فيه الناس معركة إنسانية شاقة لمجرد الحصول على حد الكفاف اليومي.

والأمانة تفترض الصدق، حتى ذلك الصدق الصادم الذى لا يخجل من الاعتراف بعيوب الذات. أما المعيار الثاني فهو الروح الإصلاحية لتغيير واقعنا إلى الأفضل، والتى تستوعب مجموعة قيم وسلوكيات خلاصتها أن المقياس الوحيد لسلامة أو فساد أفعالنا وقراراتنا هو الصالح العام. تحقيق هذا الصالح يحتاج إلى حلول عميقة ويتطلب ثقافة سياسية جديدة كما فعلت دولة مثل الصين وسنغافورة.

الروح الإصلاحية لتغيير الواقع إلى الأفضل توجب أحياناً تطبيق سياسات واستخدام أساليب وأدوات جذرية وصارمة وربما مؤلمة أحياناً. لكن يبقى شرط ذلك وإشكاليته أن يتم هذا الإصلاح الجذري المؤلم على قاعدة من العدل والمساواة وسيادة القانون. وكل ما عدا هذا تفصيلات قابلة للنقاش، من الوارد فيها أن ينجح المسؤول أو يخفق.

هل يتوافر المعياران السابقان فى حالة الرئيس السيسي بما يبرر المشاركة الانتخابية؟ ما نعلمه أن أحداً لم يمس الذمة المالية للرئيس بمن فيهم خصومه ومعارضوه. أمّا الروح الإصلاحية فقد بدت ممارساتها من خلال مكافحة الفساد ومساءلة مسئولين كبار حكوميين ومحليين بأكثر مما حدث على مدى خمسين عاماً مضت. ظللت على مدى أربع سنوات تقريباً أتابع وألاحظ وأتأمل دون أن أخوض فى النقاش السياسى الدائر حول رئيس الجمهورية. ما خلصت إليه باقتناع شخصي لا يُخل باحترامي لآراء الآخرين أن الرئيس المرشح عمل بدأب وسعى بإصرار لم يأبه فيه بانخفاض شعبيته إلى القيام بإصلاحات داخلية شتى، ونجح فى سياسته الخارجية ومحاولته تحقيق استقلال القرار الوطني وعدم الارتماء بفىي أحضان وأوهام الالتحاق بدولة عظمى.

على مدى ثلاثين عاماً كنا نشكو أن الدولة تسير بسياسة اليوم بيومه دون وجود مشروع قومى كبير، واليوم هناك مشروع تنموي قومي كبير. فى الماضى كنا نئن ونشكو من الفساد المعلن، واليوم ثمة حرب معلنة ضد الفساد.

فى المقابل ثمّة تحفظات وانتقادات للبعض معظمها يتركز من منظور ليبرالي على عدم ترتيب الأولويات التنموية وإغفال المطالب الحقوقية، ومن منظور اجتماعي فإن هذه المشروعات التنموية لم يصل مردود بعضها إلى الفئات الفقيرة ولا ربما إلى الطبقة الوسطى التى أصبحت هى أيضاً توصف بالطبقة المكافحة، وثمة غياب لعدالة توزيع أعباء الإصلاح بين الفقراء والأغنياء مثل عدم فرض ضرائب تصاعدية على الدخول الكبيرة. يُضاف إلى ذلك التحفظات المتعلقة بتضييق المجال العام، وتقييد الحريات العامة مثل حرية الرأي والتعبير. من هنا دفع مشهد اللحظة الراهنة البعض إلى الدعوة لمقاطعة الانتخابات.

وبصرف النظر عن الأسباب والملابسات التى أوصلتنا لمثل هذه اللحظة فإن المشهد العام يتنازعه تياران أولهما مؤيد لمشاركة سياسية واسعة ستسفر بالطبع عن اختيار الرئيس السيسي، والتيار الثانى يدعو إلى مقاطعة الانتخابات والتى ستفسر فيما لو تحققت عن نسبة مشاركة متدنية تنعكس على مصداقية العملية الانتخابية.

كمواطن له حق الاختيار فإنني بلا تردد ولو للحظة واحدة أختار الذهاب إلى صندوق الانتخابات وليس مقاطعته انطلاقاً من معيار حاسم وواضح خلاصته أننا أمام واقع وجود مرشح وحيد من الناحية الفعلية، هذا المرشح سيصبح فى نهاية المطاف رئيساً لجمهورية مصر العربية لمدة أربع سنوات مقبلة.

وخلال هذه الفترة فإن مصر الدولة والوطن قبل أن تكون مصر السياسية أو الحزبية مقبلة على مواجهة قضايا وملفات ثقيلة لم نمر بمثلها فى تاريخنا الحديث مثل سد النهضة الإثيوبي، والتعامل مع مستجدات وسيناريوهات اكتشافات حقول الغاز الأخيرة، وما يحدث فى جنوب البحر الأحمر، ومواجهة ما يبدو أنه سيكون حروباً اقتصادية وتجارية صغيرة مثل تلك التى بدأت أميركا ترامب تعلن عنها، هذا بخلاف مخاطر مشروع تفتيت المنطقة العربية ومواجهة الإرهاب الغامض العابر للحدود.

فى كل هذه القضايا تستوجب المصلحة الوطنية أن يكون المفاوض المصري الذى سيتعامل معها قوياً بما يكفى ويحظى بشرعية انتخابية واسعة. وعلى العكس من ذلك فإن نتيجة المقاطعة الانتخابية ستمثّل ضعفاً وعبئاً حين يتصدى لمثل هذه القضايا والملفات مفاوض مصرى نجح فى انتخابات هزيلة قاطعها الشعب.

مصلحة الوطن تتطلب أن نُنحي مؤقتاً وجانباً أى تحفظات ونلملم أى جروح لنقبض على جمر الأولويات الوطنية فى منطقة تنصهر فيها الحدود فى مراجل القوى الأجنبية لكى يعاد تشكيل الجغرافيا العربية إلى دويلات ومناطق متصارعة. مصر اليوم فى عين هذا الإعصار.