"ناشونال انترست": الإيرانيون غير مستعدين للتفاوض بشأن الصواريخ الباليستية

لجأ الإيرانيون إلى أسلحة أقل تقدماً من الناحية التكنولوجية - وبأسعار معقولة - مثل صواريخ أرض - أرض والطائرات بدون طيار، لإنشاء توازن مع خصومهم.

  • تشكل الصواريخ الباليستية أساساً في العقيدة الدفاعية الإيرانية.
    تشكل الصواريخ الباليستية أساساً في العقيدة الدفاعية الإيرانية.

كتب سجاد صفائي، الباحث الإيراني في معهد "ماكس بلانك" الألماني، مقالة في مجلة "ذا ناشونال انترست" الأميركية تناول فيها مسألة الصواريخ البالسيتية الإيرانية ومدى تقبّل طهران لفكرة التفاوض بشأنها، ومدى قبول الجمهور الإيراني بذلك.

وقال الباحث إن عقيدة إيران الدفاعية تشكلت في أعقاب الحرب المفروضة عليها التي شنّها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين والتي دامت ثماني سنوات، إذ إنه بعد أكثر من ثلاثة عقود من نهاية الحرب الرسمية، وهي أطول حرب بين الدول في القرن العشرين، فلا تزال الذكريات المؤلمة للحرب الإيرانية العراقية (1980-1988) تقض مضاجع الروح الوطنية الإيرانية. فقد تركت الحرب بصمة لا تمحى على تصور إيران للتهديدات في محيطها، وبالتالي، طبعت عقيدة دفاعها، وتستمر الحرب مع العراق بلغة سياسية كنظام من الإشارات والرموز، تقدمه النخب الحاكمة لحشد الدعم العام لأدوات الردع العسكري، بما في ذلك برنامج الصواريخ الباليستية المثير للجدل.

وأضاف الكاتب: بتشجيع من حالة الفوضى التي سادت القوات المسلحة الإيرانية في أعقاب الثورة الإسلامية عام 1979، استغل الدكتاتور العراقي الراحل صدام حسين اختراق الدفاعات الإيرانية وغزا الجمهورية الوليدة في الشرق من جبهات متعددة. هذه الحرب التي أودت في المحصلة بحياة مئات الآلاف من المقاتلين والمدنيين الإيرانيين، فإن المجموعة الكاملة لآلة الحرب العراقية المتضخمة - التي تمتعت بدعم سياسي واقتصادي وعسكري ثابت من أوروبا والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أنذاك، وتقريباً من الجامعة العربية بكاملها – قد أحضرت للتأثير على إيران.

ورأى الباحث أنه على الرغم من أن الحرب قد كشفت عن العديد من الثغرات الصارخة في الدروع الإيرانية، إلا أن ضعف دفاعاتها الجوية كان الأكثر تأثراً داخل البلاد. فبسبب الحظر الدولي، لم يكن بوسع الإيرانيين أن يفعلوا شيئاً مهماً لردع صدام من قصف مراكزهم الحضرية وقواتهم بقصف جوي وبالصواريخ، وغالباً ما كانت مجهزة بعناصر كيمائية وبيولوجية. ومن المفارقات، أن نعمة إنقاذ إيران الوحيدة في السماء كانت أسطولها من الطائرات العسكرية الأميركية الصنع، والتي تم شراؤها في عهد الشاه. لكن حتى هذه الميزة الفضية ستختفي قريباً في سحابة من حظر الأسلحة التي جعلت من الصعب جداً لإيران أن تبقي طائراتها المقاتلة عاملة.

وأضاف: اليوم، بعد أربعة عقود من الصيانة الحادة والمشاكل اللوجستية بسبب مزيج من العقوبات الدولية، أضحى أسطول الطائرات الإيراني القديم أكثر هلاكاً، ويواجه صعوبات لا يمكن التغلب عليها لإنتاج أو شراء فائض من أحدث الطائرات العسكرية الغربية وأنظمة صواريخ أرض-جو التي فاضت على المنافسين الإقليميين مثل "إسرائيل" والمملكة العربية السعودية. وكما يلاحظ المحلل العسكري الأميركي أنتوني كوردسمان، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع مؤسسات الدفاع الأميركية والإسرائيلية، في تقييمه لقوات الصواريخ الإيرانية والخيارات الاستراتيجية، أن التوازن الجوي في المنطقة يصب بشكل حاسم في مصلحة الولايات المتحدة وحليفاتها العربية، التي "تتمتع بميزة حاسمة في جودة وكمية الصواريخ جواً وسطح جو، ويمكن للولايات المتحدة أن تنشر بسرعة تفوقاً هائلاً في كل جانب من جوانب القوة الجوية وصواريخ كروز بما في ذلك الطائرات الشبح والقوات البرية".

وأوضح الباحث الإيراني أن الإيرانيين بعدما أدركوا تماماً القيود المفروضة على قدرتهم على ردع المنافسين عسكرياً، لجأوا إلى أسلحة أقل تقدماً من الناحية التكنولوجية - وبأسعار معقولة - مثل صواريخ أرض - أرض والطائرات بدون طيار، للتخفيف، وإن كان بشكل طفيف، من العواقب بعيدة المدى للضعف الجوي الهائل أمام الولايات المتحدة وحلفائها.

البرنامج الإيراني للصواريخ الباليستية 

وهكذا، بعد ثلاثة عقود من انتهاء الحرب مع العراق، لم يعد برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني تطوراً جنينياً. لقد تحول بالكامل إلى عنصر موثوق في إستراتيجيتها للردع العسكري، وترسخ في النفسية الوطنية الإيرانية كأصل جيواستراتيجي لا غنى عنه.

وقال الكاتب: لا ينبغي أن يثير الدهشة مسألة أن برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني لا يزال يحظى بدعم واسع النطاق بين جماهير الشعب الإيراني، على الرغم من الجهود المنهجية في الغرب لتصوير البرنامج كمصدر لعدم الاستقرار والقتال في المنطقة.

وهذا ما أكده استطلاع حديث للرأي العام الإيراني أجراه مركز الدراسات الدولية والأمنية في ماريلاند  (CISSM)،والذي يظهر أن 66 في المائة من المشاركين في الاستطلاع يعتقدون أن الصواريخ الباليستية تقلل من احتمالية قيام دول أخرى بمهاجمة بلادهم.

ويتجاوز دعم برنامج إيران الصاروخي الانقسامات الأيديولوجية كذلك. بل قد نجد بعض أقوى مؤيدي البرنامج في المعسكر الإصلاحي في إيران. ومن الأمثلة على ذلك مصطفى تاج زاده، الشخصية البارزة في الحركة المؤيدة للديمقراطية الذي قضى سبع سنوات خلف القضبان، معظمها في الحبس الانفرادي، بسبب آرائه السياسية. فعلى الرغم من انتقاده لتدخل الحرس الثوري الإيراني في الشؤون الاقتصادية والسياسية لإيران، ظل تاج زاده ثابتاً في دعمه لحق إيران في حيازة الصواريخ الباليستية.

ونقل الكاتب عن تاج زاده قوله: "إن الصواريخ هي جزء من الدفاع العسكري للبلاد، وسؤال الولايات المتحدة عما إذا كنا نريد صواريخ يشبه سؤال الولايات المتحدة عما إذا كنا نريد دبابات. بالطبع نريدها. نحن نحتاجها للدفاع عن أنفسنا". وأضاف: "أي شخصية سياسية تعارض برنامج إيران الصاروخي، فهذا يعني أنها تقع خارج الخطاب السياسي المقبول".

وكشف تاج زاده، الذي شغل مناصب رئيسية في إدارة الرئيس الإيراني الإصلاحي محمد خاتمي، أنه "لم تكن هناك حكومة إيرانية ليست لديها خطط لتطوير برنامج الصواريخ في البلاد. قد يكون تطورها قد تضاءل في بعض الأحيان، لكنه لم يتوقف تماماً".

التوافق الداخلي بشأن الصواريخ الباليستية 

ويبدو أن تطوير الصواريخ ظل منيعاً إلى حد كبير أمام التغيير السياسي داخل البلاد. كما اعترف أخيراً اللواء حسين دهقان، وزير الدفاع السابق وكبير المستشارين العسكريين للمرشد الأعلى السيد علي خامنئي. فقد بدأ تطوير جوانب معينة من برنامج الصواريخ في البلاد خلال رئاسة محمد خاتمي واكتمل في عهد الرئيس حسن روحاني. ومن الجدير بالذكر أن السياسة الخارجية التصالحية لخاتمي تم تلخيصها من خلال مبادرته "حوار الحضارات"، بينما شن روحاني حملته على وعد بالتواصل مع الغرب.

ورأى الباحث أن الإجماع الراسخ على الحاجة الملحة لبرنامج الصواريخ الباليستية كأداة للردع لا يمنع إمكانية توصل إيران والقوى الغربية إلى شكل من أشكال التفاهم بشأن هذه المسألة. إذ لا يزال السؤال مفتوحاً، على سبيل المثال، ما إذا كان الإيرانيون - على مستوى الجماهير والنخبة الحاكمة - على استعداد لتقديم تنازلات بشأن جوانب معينة من برنامج الصواريخ الباليستية، مثل أقصى مدى للقذائف الإيرانية. في الواقع ، يُظهر الاستطلاع الأميركي المذكور أعلاه أن الإيرانيين كانوا "أقل سلبية إلى حد ما" تجاه الحد من مدى الصواريخ الإيرانية.

وأضاف: كانت هذه المرونة في مدى الصواريخ قابلة للاكتشاف أيضاً أثناء محادثتي مع تاج زادة. فعلى الرغم من موقفه الحازم بشأن حق إيران في الدفاع عن النفس من خلال الصواريخ الباليستية، قال إنه لا يعارض احتمال التوصل إلى تفاهم مع القوى الأجنبية بشأن مدى الصواريخ من دون المساس بمسألة قدرة الردع الإيرانية.

ونجد هذا الرأي كذلك لدى اللواء حسين سلامي، القائد العام للحرس الثوري الإيراني، الذي ألمح في عام 2017 إلى أن مدى صواريخ إيران لم يتم تثبيته بالصخور، ولكنه كان دالة على كيفية إدراك طهران للتهديد.

وقال الكاتب: على الرغم من أن مثل هذه التصريحات، وكذلك استطلاعات الرأي، تشير إلى أن المحادثات المستقبلية حول مدى الصواريخ ليست مستحيلة، إلا أن المناخ الدبلوماسي الذي يفضي إلى مثل هذه المحادثات لم يتحقق بعد. لقد ولّدت السياسة الخارجية للرئيس الأميركي دونالد ترامب تحوّلاً في تصور إيران للتهديد، لا يسمح لها بالانخراط مع الغرب بشأن أدوات تتعلق بالأمن القومي. ففي أعقاب إلغاء ترامب للاتفاق النووي التاريخي - المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة - وإعادة فرضه للعقوبات على إيران، أضحى صانعو السياسة في طهران مضطرين من الآن فصاعداً مراعاة حقيقة أن أي رئيس أميركي بإمكانه بجرة قلم التراجع عن التزامات سلفه، حتى لو وفت إيران بالتزاماتها بالاتفاق حتى النهاية.

حملة "الضغط الأقصى"

وأضاف: أثرت حملة "الضغط الأقصى" التي شنّها ترامب على صانعي القرار الإيرانيين في حقيقة أن الاتفاقيات الدولية وحدها لا يمكن أن تحميها من قوة عظمى عالمية مصممة على تغيير الأنظمة وإجبار الآخرين على اتباع إملاءاتها. فقد تعزز الجمود الإيراني تجاه المزيد من التنازلات بشأن أصولها الاستراتيجية بعد الاغتيال الصلف لقائدها العسكري الكبير اللواء قاسم سليماني بناءً على أوامر ترامب، وفي وقت لاحق، اغتيال عالمها النووي البارز محسن فخري زاده، الذي يُعتقد على نطاق واسع أنه تم بهجوم إسرائيلي.

ورأى الباحث أنه على الرغم من التخفيف النسبي للتوترات بين الولايات المتحدة وإيران في أعقاب تولي الرئيس جو بايدن الرئاسة في كانون الثاني / يناير، فلا تزال إيران والولايات المتحدة بعيدتين عن المناخ السياسي المفضي إلى أي محادثات بشأن الصواريخ الباليستية. فإدارة بايدن لم ترفع حتى الآن عقوبات عهد ترامب ولم تضمن بقاء الاتفاق النووي على المدى الطويل. وحتى تقوم بذلك، من غير المرجح أن يتلاشى إحجام إيران عن الدخول في محادثات بشأن مسائل أخرى ذات أهمية خطيرة للأمن القومي.

تنعكس محورية الاتفاق النووي في أي محادثات مستقبلية في استطلاع الرأي العام الإيراني الذي أجراه مركز المراقبة الأمنية الدولية (CISSM). سُئل المشاركون في الاستطلاع عن الكيفية التي ينبغي أن تستجيب بها إيران لدعوة أميركية لإجراء محادثات بشأن قضايا أخرى غير الاتفاق النووي (على سبيل المثال، الصواريخ الباليستية الإيرانية ودعمها العسكري للحلفاء في المنطقة) إذا عادت الولايات المتحدة إلى الاتفاقية، وكان كلا البلدين في الامتثال الكامل للاتفاق. في الإجابة على السؤال، أغلبية 54 في المائة من المستطلعة آراؤهم فضلوا الانتظار والتفاوض بعد بضع سنوات من الامتثال الأميركي، وقال 30 في المائة إنهم لا ينبغي أن يتفاوضوا على الصواريخ حتى في تلك المرحلة، بينما أبدى 12 في المائة فقط استعدادهم للتفاوض بشأنها على الفور.

وختم الكاتب سجاد صفائي مقالته بالقول إنه ما لم تنجح الولايات المتحدة وإيران والأطراف الأخرى الشريكة في الاتفاق النووي في إحياء "خطة العمل الشاملة المشتركة بشكل كامل" وضمان بقائها على المدى الطويل، فإن توقعات إجراء محادثات هادفة بشأن الصواريخ الباليستية الإيرانية، أو أي أداة أخرى لسياسة الردع الإيرانية، من المحتمل أن تبقى باهتة.

نقله إلى العربية بتصرف: هيثم مزاحم