في وداع نبي الغضب الأردني

يوم أمس صباحاً قُتل الأديب والمثقف الأردني ناهض حتر، على عتبات القصر العدلي في عمان. ومنفذ عملية الاغتيال هو أردني سلفي، اسمه رياض عبد الله، وتم اعتقاله. وقد أصيبت الكثير من الأوساط الإعلامية والسياسية والاجتماعية والثقافية في الأردن، وفي العالم العربي، بالصدمة.

يوم أمس صباحاً قُتل الأديب والمثقف الأردني ناهض حتر، على عتبات القصر العدلي في عمان. ومنفذ عملية الاغتيال هو أردني سلفي، اسمه رياض عبد الله، وتم اعتقاله. وقد أصيبت الكثير من الأوساط الإعلامية والسياسية والاجتماعية والثقافية في الأردن، وفي العالم العربي، بالصدمة.

 

وعلى خلاف الدول المجاورة، كبيرها وصغيرها على حد سواء، كانت عمليات الاغتيال، ولا تزال، نادرة جداً في الأردن. وخلال سنوات الخمسينيات والستينيات الصاخبة شهد الأردن عدة اغتيالات طالت رئيس الحكومة اللبنانية رياض الصلح (1951)، ورئيس الحكومة الأردنية هزاع المجالي (1960(. وفي عام 1984قُتل السياسي الفلسطيني فهد القواسمة، وفي عام 2002 قُتل الدبلوماسي الأمريكي لورانس فولي، وكلاهما قُتلا في عمان. إلا أنه لم يسبق وأن تم قتل شخصية فكرية في الأردن على خلفية حرية التعبير، وبخاصة في السياق الديني، حيث كان الكثير من الأردنيين يعتقدون أن بلدهم، وهم أنفسهم، محصنين من الوباء الذي ضرب الكثير من الدول في منطقة الشرق الأوسط وخارجها. إيمانهم هذا تحطم يوم أمس.

 

إن الدافع المعلن، الذي وقف وراء عملية القتل، كان الرسم الكاريكاتوري الذي شارك به حتر على صفحته في الفيس بوك قبل حوالي شهرين وتم فيه رسم "إله داعش", ويظهر الله فيه كعجوز دمث في الجنة وهو يتلقى الأوامر (اللوجستية) من شيخ سلفي يرقد في سريره وإلى جانبه امرأتين شابتين. وهذا الرسم الكاريكاتوري الذي يبدو أن من رسمه هو مسلم، كان جريئاً حتى بالمقارنة مع الرسوم الكاريكاتورية التي نُشرت في أوروبا وانتهت بقتل الرسامين المسيحيين. وكل من صادف ورأى هذه الرسوم أصابه الخوف وأدرك أن الحديث يدور عن مادة قابلة للانفجار. وقد أدرك حتر ذلك بسرعة وبادر على عجل إلى إلغاء مشاركته واعتذر عن ذلك. إلا أن السيف كان قد سبق العذل.

 

هذا ويمتاز الأردن بأنه محافظ على المستوى الاجتماعي (وإن كان بشكل أقل من مجتمعات إسلامية أخرى في الخليج). وكانت موجة الإدانات والانتقادات التي وجهت لحتر قوية بحيث جرفت معها هيئات الدولة، وأدت إلى فتح تحقيق رسمي ضده بتهمة التحريض الديني. وهو قد اُعتقل لمدة تقارب ثلاثة أسابيع وصرح، بأن خط الدفاع الخاص به سيستند على أنه لم يكن يريد الإساءة إلى الذات الإلهية بل حتى أنه كان يدافع عنها، وذلك عندما عرض الشكل الذي يقوم به الداعشيون بتشويه صورته. وبدأت أصداء القضية بالخبو رويداً رويداً، وكان من المرجح أن تنتهي ببعض التذمر، وبقضية قضائية ما، ترضي كل الأطراف ذوي العلاقة، مثلما انتهت قضايا سابقة أخرى في الأردن خلال السنوات الأخيرة. إلا أن القاتل فكر بشكل مختلف.

 

ناهض حتر، هو من مواليد عام 1960، وكان أحد أبرز المثقفين في الأردن خلال العقدين الأخيرين. فهو كان مسيحياً، علمانياً، وشيوعياً وماركسياً أصيلاً في زمن أصبح فيه المحسوبون على هذه الجماعات قلة، أو على الأقل ينكفؤون ويصمتون، في الشرق الأوسط. وقائمة خصومه السياسيين والأيديولوجيين، والذين صارعهم بشدة وبمتعة واضحة، ازدادت وطالت كثيراً مع مرور السنين: الإسلام السياسي، وبشكل أكبر بكثير مع السلفيين (أطروحة الماجستير التي قدمها كانت حول الفكر السلفي الحديث)، وأردنيون – فلسطينيون، والنخبة الليبرالية الجديدة والنظام الهاشمي نفسه. وهو قد سُجن مرتين، مرة في السبعينيات ومرة في منتصف التسعينيات. وحتى أنه جرت محاولة لاغتياله في عام 1998، ونتيجة لذلك اضطر للخضوع لعدة عمليات ولإعادة تأهيل متواصلة، وحتى للسفر إلى المنفى المؤقت في لبنان.

 

ومع بداية العقد السابق برز حتر، تدريجياً، بوصفه "الأب الروحي" للحركة الوطنية الأردنية الأخذة بالتبلور. وقد كان الأردنيون في الضفة الشرقية ينظرون يائسين إلى مكانتهم وهي تتضرر، وإلى مواردهم وهي تُسحب منهم، لصالح نخب ليبرالية جديدة أردنية – فلسطينية وأجنبية. وكيف أن سكان من اللاجئيين العرب، بداية من العراق وبعد ذلك من سوريا، تتنافس على فرص العمل القليلة وعلى الأعمال اليدوية، مع "السكان الأصليين" المقيمين في شرق الأردن من الطبقتين المتوسطة والفقيرة.

 

لقد كان النظام يُظهر القليل من القلق من بقايا اليسار الأردني الذين تجمعوا بائسين إلى جانب حتر، وبعض كبار المتقاعدين من الجيش ومن العاملين في خدمات الدولة والذين وجدت تحليلات حتر، والحلول التي قدمها، صدى لديهم. وعملياً فقد كان هو أول من نجح في تقديم تفسيرات بنيوية مقنعة للتحول الذي أفرزه الابتعاد بينهم وبين النظام الهاشمي.

 

وحتى أن حتر قد حظي لفترة معينة خلال العقد السابق بحوار مباشر مع رئيس المخابرات، وذلك على خلاف رغبة بعض الجهات في القصر (الملكي)، إلى أن تم إصدار التوجيهات في عام 2008 بإلغاء تشغيله كصاحب عامود في الصحافة الرسمية. وغني عن الإشارة هنا أن محاولة إخراسه لم تنجح. وانتقل حتر إلى نشر أفكاره بشكل أشد فظاظة وحدة في شبكات التواصل الاجتماعي، من خلال عشرات مواقع الانترنت التي عملت بدون أي إزعاج (على الرغم من محاولات هنا وهناك قامت بها الحكومة "لتنظيمها")، وكذلك من خلال عاموده الدائم في الصحيفة اللبنانية اليومية "الأخبار"، والتي تشكل منبراً استثنائياً للنقاش الأيديولوجي بين المفكرين العرب من اليسار، وتميل بعض الشيء إلى حزب الله. وقد تزايدت شعبية حتر في أوساط أردنية مختلفة، وذلك على الرغم من استياء النظام.

 

وعندما اُعتقل حتر، في أعقاب مشاركته للرسم الكاريكاتوري بعثت السلطات الأردنية، كما هي عادتها دائماً، برسالة مزدوجة. فباتجاه الخارج حاولت تفادي إعطاء الانطباع بأن هناك قيوداً على حرية التعبير والرأي وألمحت إلى أن الأمر ضروري من أجل الحفاظ على سلامة حتر. وباتجاه الداخل اُتهم حتر بنشر خطاب الكراهية وباستغلال حدود حرية التعبير للتحريض الديني. ومثلما هو الحال في الماضي، فإنه من الصعب معرفة إلى أية درجة صدّق العاملون في السلطات التنفيذية والقضائية هذه الادعاءات، أو أنهم أرادوا بالمجمل تقديم شيء ما إلى الجمهور إلى أن تمر العاصفة. ومهما يكن من أمر فإن خطاب الكراهية تجاه حتر نفسه تجاوز الحدود الخطيرة بعد المشاركة بالرسم الكاريكاتوري، ونقلت عائلته إلى السلطات معلومات عن سلسلة من التهديدات على حياته، والتي نُشر الكثير منها بشكل علني في وسائل التواصل الاجتماعي.

 

لقد أصابت عملية الاغتيال الساحة السياسية والعامة في الأردن بالصدمة. فمظاهر الحزن والإدانة من كل حدب وصوب، وعلى الأخص من جانب معارضي أيديولوجية حتر وفي مقدمتهم الأخوان المسلمين، بدت صادقة وحقيقية وطغت على مظاهر الفرح المحدود على شبكات التواصل الاجتماعي. إلا أن التسريب المقصود من التحقيقات مع منفذ عملية الاغتيال، وهو خطيب سابق (الذي من المرجح أنه كان قد فقد وظيفته على خلفية التشدد الديني)، والقول إنه سلفي فعلاً إلا أنه معارض لداعش، يثير الشكوك بأن الأردنيين سيفعلون كل ما بوسعهم هذه المرة أيضاً لطمس مدى تجذر الأفكار والتوجهات والتنظيمات السلفية الجهادية في المملكة.

 

وعملياً، يبدو أن القاتل قد تعقب حتر وجمع المعلومات عن تحركاته. وقد تحدثت تقارير عن أن حتر وصل إلى القصر العدلي ليس من أجل حضور مداولة معدٍ لها بشكل مسبق في موضوع الرسم الكاريكاتوري، بل على سبيل الصدفة، وفي موضوع آخر. وحتى أن مصدراً أردنياً أمنياً كبيراً قد اعترف، دون أن يفصح عن اسمه، بأنه تجري دراسة احتمال، حتى وإن كان القاتل "ذئباً منفرداً"، بأن الإيحاء للعمل هو من داعش والرسائل هي من الدولة الإسلامية.

 

إن هناك خشية كبيرة قائمة في الأردن ليس فقط من تداعيات عملية اغتيال غير مسبوقة كهذه نُفذت ضد أديب ومفكر، بل أيضاً من تسخين أجواء الحرب الأهلية في المملكة. وهذا ليس فقط على خلفية حقيقة أن حتر كان بطل ومنظّر الحركة القومية في شرقي الأردن، وكان قاتله فلسطيني على ما يبدو (هكذا تم التلميح من خلال حقيقة أنه كان خطيباً في أحد المساجد في شرق مدينة عمان)، بل أيضاً لكونه مسيحياً جرى قتله على يد متطرف إسلامي.

 

وعلى الرغم من أنه من الواضح أن حتر قد قُتل بسبب الرسم الكاريكاتوري، وليس بسبب دينه، فإن التوتر الإسلامي – المسيحي، والذي ربما يكون الأكثر حساسية في النسيج الاجتماعي الأردني، يلوح الآن كتهديد يحمل نبوءات الشر. وهذا، من بين أمور كثيرة، استمراراً للعاصفة التي اندلعت في الأردن في الصيف في أعقاب وفاة موسيقار أردني - مسيحي شاب وموهوب، وهو شادي أبو جابر، والتي جرى في أعقابها نقاش جدي حول ما إذا كان مسموحاً لمسلم إبداء حزنه على وفاة مسيحي.

 

إن السؤال حول ما إذا كان هناك فشل أمني في الحفاظ على حياة حتر سيتم مناقشته في الأردن بكل تأكيد خلال الأسابيع القريبة. ومع ذلك، فإنه منذ الآن ظهرت على سطح النقاش العام دعوات من كل الاتجاهات لإجراء عملية حساب للنفس في القضية الحقيقية الأكبر وهي: هل توجد في الأردن حرية تعبير وتسامح حقيقي تجاه المواقف والآراء المخالفة، وهل أن الدولة تعمل بجدية من أجل ترسيخ حرية التعبير عن الرأي وحمايتها. إن هذه الأسئلة هي أسئلة نظرية لأن الإجابة السلبية عليها معروفة للجميع.

 

وربما تكون السلطات راغبة، والتأكيد هنا على ربما، ولكنها غير مستعدة لتشمّر عن سواعدها وتدخل في صراع مع المجتمع المحافظ من أجل صياغة مجتمع مدني وخطاب عام متسامح ومتعدد. كما أن فرض القانون، وبخاصة في ما يتعلق بالاستخدام الحر للسلاح الخفيف في المجتمع الأردني، هو انتقائي جداً.  فقبل يوم واحد من وفاة حتر قُتلت شابه جراء إطلاق نار عن طريق الخطأ خلال احتفالات أجريت بمناسبة فوز عمها في انتخابات البرلمان. ويمكن أن يُنظر إلى الجهود المغطاة إعلامياً التي تبذلها السلطات للقضاء على هذه الظاهرة على أنها محدودة الضمان، وذلك في ضوء حقيقة أنه لا يوجد في الأردن أي قانون يضبط أو يعاقب مطلقي النار، ويحمي الجرحى والقتلى في الأفراح والمناسبات.

 

سيتم افتقاد صوت ناهض حتر إلى درجة كبيرة في الأردن. ولكنه، مثله مثل كبار المفكرين الآخرين، وبكل تأكيد الماركسيين منهم، كان يجد صعوبة في رؤية الأشخاص الصغار. فهم كانوا مهمين في نظره كجماعات ولكن ليسوا كأفراد. وكانت مؤلفاته ونشاطاته العامة تتركز على تحليل الطوائف والطبقات والموارد وموازين القوى، موازين القوى بين الدول العادية والدول العظمى، والمسارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

 

وربما يكون هذا هو السبب في أنه، على الرغم من كونه رجل يسار أصيل على النحو الذي عرّف به هو عن نفسه أو كما عرّفه مؤيدوه ومعارضوه، لم ينبس ببنت شفة حول الفظائع والمعاناة الكبيرة للسكان المدنيين التي تقوم بها الأنظمة التي أيدها، وفي مقدمتها نظام الأسد الذي حظي بدعم حتر إلى يوم وفاته بسبب حسابات معقدة أجراها الأخير لجهة تدخّل الدول الكبرى العالمية والإقليمية (وفي مقدمتها قطر والسعودية) في ما يحدث في سوريا وفي الشرق الأوسط. وقد اُتهم مراراً وتكراراً بكراهية الأجانب: الفلسطينيون والعراقيون والسوريون وسواهم. وكانت لديه لمعظم تلك الاتهامات إجابات مركبة تحفز التفكير.

 

لقد كان حتر يمقت الأخوان المسلمين وقطر التي رأى فيها الراعية البغيضة، إلا أنه كان يحترم الإسلام وأهمية الأديان للطبقات الوسطى والفقيرة. كما كان يمقت إسرائيل وعدوانيتها. وأيد تنظيمات المقاومة مثل حزب الله وحماس، ودولاً كإيران وذلك وفقاً لتحليله المتغير وفق الظروف العربية. وهو قد عارض استخدام العنف في النقاش العام، إلا أنه كان بين الفينة والأخرى يقترح إعداد "قوائم سوداء" للفلسطينيين وللبراليين الجدد وللإسلاميين. وهو لم يُعرف عنه بأنه رجل دعابة أو أحاديث تافهة. لقد كان نبي الغضب المؤمن في أعماقه برسالته.

 

لقد كان ناهض حتر رجل متناقضات، إلا أن كتاباته وأبحاثه ومحاضراته كانت جذابة، وفي بعض الأحيان رائعة. وكان يبدو في بعض الأحيان أنه ينساق وراء نظريات المؤامرة، وفي استخلاص نتائج لا أساس لها من الصحة. إلا أنه اتضح هنا وهناك أنه قد رأى المستقبل قبل شهور، بل وقبل سنوات، من حدوثه في الواقع.

 

لقد خسر الأردن واحداً من كبار مثقفيه، الأكثر مشاكسة وإثارة للخلاف، الذين كان النظام التعليمي فيه مؤهلاً لإنتاجهم قبل أن يتحول إلى آلة لمنح الدرجات والألقاب. والذين كان الفضاء السياسي مؤهلاً لإفرازهم قبل أن يتجذر كأسلوب من التشريفات التي تنتقل بالوراثة بين عوائل النخب.

 

وبما لا يقل عن المدلولات الأمنية، وتقويض الاستقرار الداخلي في الأردن، في أعقاب الاغتيال، فإنه يمكن التعبير عن الأسف أيضاً عن الملل، وعن الكآبة الفكرية، التي سيُخلّفها هذا الاغتيال على الخطاب العام والسياسي في الأردن.

 ترجمة مرعي حطيني