حول دور الأمن الغذائي العالمي في الصراع مع الغرب

في كل الاجتماعات والقمم الدولية التي عقدت مؤخراً أثيرت قضايا الأمن الغذائي وطرحت بدرجة أو بأخرى، وبالتالي فإن الأمن الغذائي العالمي يلعب اليوم دوراً رئيساً في السياسة العالمية.

  • حول دور الأمن الغذائي العالمي في الصراع مع الغرب
    حول دور الأمن الغذائي العالمي في الصراع مع الغرب

تتناول الباحثة في العلوم الاقتصادية، رئيسة مركز البحوث الزراعية والأمن الغذائي إيرينا ديريوغينا في مقالة لها في موقع "المجلس الروسي للشؤون الدولية" طبيعة الدور الذي يلعبه الأمن الغذائي العالمي في الصراع بين روسيا والغرب الجماعي، واستقرار سوق القمح بفضل روسيا، وثبات الرئيس الروسي على مواقفه قبل إعادة إنعاش اتفاقية الحبوب.

فيما يلي نص المقال منقولاً إلى العربية:

في 18 تموز/ يوليو 2023، أوقفت روسيا مشاركتها في اتفاقية الحبوب، التي كانت سارية منذ 22 تموز/يوليو 2022. ثم انعقد المنتدى الروسي الأفريقي في سان بطرسبورغ من 27 إلى 28 تموز/يوليو 2023، وبين 22 و24 آب/أغسطس انعقدت قمة البريكس الخامسة عشرة في جوهانسبورغ بصيغة موسعة، وفي 4 أيلول/سبتمبر الجاري، جرت المفاوضات في سوتشي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وقد عقدت كذلك القمة الثامنة عشرة لمجموعة العشرين في دلهي يومي 9 و10 أيلول/سبتمبر، ومن المقرر أن يعقد منتدى الحزام والطريق الثالث في الصين في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2023.

وفي كل هذه الاجتماعات، أثيرت قضايا الأمن الغذائي وطرحت بدرجة أو بأخرى، وبالتالي يمكننا أن نقول بثقة إن الأمن الغذائي العالمي يلعب اليوم دوراً رئيساً في السياسة العالمية.

بعد انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب في البحر الأسود، لم يهدأ التشهير السياسي تجاهها باعتبارها المورد الرئيس للقمح في العالم. ومع ذلك، عند تقييم الوضع في سوق الغذاء العالمية، ينبغي للمرء أن يفصل الواقع عن التحيز السياسي لعدد من البلدان. كان لإنهاء صفقة الحبوب تأثير ضئيل على سوق الحبوب العالمية. في 17 تموز/يوليو 2023، بعد الإعلان عن وقف صفقة الحبوب، ارتفعت العقود الآجلة للقمح في بورصة شيكاغو بنسبة 4%، وجرى التداول بسعر 253 دولاراً للطن، ولكن بحلول الأول من آب/أغسطس، توقفت الأسعار العالمية للقمح عن الارتفاع، ويتم تداول العقود الآجلة لشهر كانون الأول/ديسمبر الآن بسعر 252 دولاراً للطن، كما أن سوق القمح العالمي مستقر تماماً، كما أشار بوتين في مؤتمر صحافي عقب المفاوضات الروسية التركية.

وفي الوقت نفسه، وبسبب الظروف الجوية القاسية في خريف عام 2022، انخفض حصاد المحصول الغذائي الآسيوي الرئيس، أي الأرز، في الهند. وفي هذا الصدد، فرضت حكومة البلاد، في تموز/يوليو 2023، قيوداً على تصدير معظم الأصناف، باستثناء "بسمتي". ونتيجة لذلك، أثر الحظر على 80% من حجم الأرز المصدر، وهذا أمر مثير للقلق. ففي عام 2022 استحوذت الهند على 40% من صادرات الأرز العالمية (22.3 مليون طن). وكان تصدير أرز "بسمتي" عام 2022 بشكل أساسي إلى المملكة العربية السعودية (21%)، وإيران (22%)، والإمارات العربية المتحدة (7%)، وصدرت الهند أصنافاً أخرى من الأرز إلى بينين (8%)، والصين (7%)، والسنغال (7%)، وكوت ديفوار (7%)، ودول أفريقية أخرى.

يأتي ذلك مع مواصلة الهند فرض حظر على تصدير القمح، الذي فرضته في تموز/يوليو 2022. وجزئياً، يمكن استبدال الهند في سوق الأرز العالمية بتايلاند وسريلانكا وفيتنام، لكن حجم صادرات هذه الدول ليست قابلة للمقارنة مع الهند، فاعتباراً من عام 2020 يتم تخفيض الصادرات تدريجياً. على سبيل المثال، تواجه تايلاند وفيتنام موجة جفاف طويلة الأمد. ونتيجة لذلك، ارتفعت أسعار مخزون الأرز في منطقة آسيا والمحيط الهادئ إلى أعلى مستوى لها منذ 15 عاماً. وفي الوقت الحالي يتجاوز سعر الأرز المصدّر في تايلاند وفيتنام 600 دولار للطن الواحد.

وعلى خلفية ارتفاع الأسعار، فرضت روسيا والإمارات العربية المتحدة حظراً على صادرات الأرز. ويتفاقم الوضع لكون أصناف الأرز التي تستهلكها بعض البلدان يكاد يكون من المستحيل استبدالها بأخرى.

كما تهدد الأمطار الغزيرة محصول الأرز في جنوب شرق الصين، وهي المنطقة الرئيسة لإنتاجه. وبشكل عام، لدى الصين اكتفاء ذاتي من الأرز منذ التسعينيات. كان مستوى الإنتاج مرتفعاً، ولم يتم استيراد سوى أنواع معينة من الأرز. ومع ذلك، بدأت البلاد في زيادة واردات الأرز منذ تفشي وباء كوفيد 19. وفي عام 2022، وصل حجمه إلى 6.1 مليون طن في مقابل 3 ملايين طن في عام 2018. وكانت الهند أول مصدر أرز إلى الصين (35%)، التي شكلت 35% عام 2022، تلتها باكستان (19%)، وفيتنام (13%)، وميانمار (13%)، تايلاند (12%). ومع ذلك، حتى مع زيادة حجم واردات الأرز، فإن إجمالي واردات البلاد لا يزيد عن 3% من الإنتاج الوطني، و1% فقط من الهند، وهو ما لا يسمح لنا بالحديث عن اعتماد قوي للاستهلاك على الأسواق العالمية. ولذلك، فإن فرض الحظر على صادرات الأرز من قبل الهند لن يكون له تأثير يذكر على السوق الصينية.

لكن الوضع مختلف تماماً في بينين، حيث الاعتماد على واردات الأرز قوي للغاية، والاكتفاء الذاتي في الأرز لا يتجاوز 75%. علاوة على ذلك، فإن 61% من إجمالي الواردات في عام 2022 جاءت من الهند و21% من تايلاند. والوضع مماثل في السنغال، حيث تلعب الهند دوراً رائداً في الواردات، فهي تمثل 58% من حجم الأرز المستورد. كما ستتضرر ساحل العاج وتوغو وبنغلاديش بشدة بسبب نقص الأرز. تجدر الإشارة إلى أن القيود ستؤثر على البلدان الفقيرة، والتي، مع نمو الأسعار العالمية للأرز، سيكون من المستحيل عملياً إجراء عمليات شراء خارجية لها. 

ما يهم حقاً بالنسبة للصين هو استيراد فول الصويا، الذي تحتاجه البلاد لإنتاج منتجات اللحوم، فهي تستورد 80% من الكمية المطلوبة من فول الصويا. وتعد البرازيل المصدر الرئيس لها، حيث تبلغ حصتها في حجم الحبوب المستوردة أكثر من 60%. كما صدّرت أوكرانيا فول الصويا إلى الصين، ولكن حجم الصادرات كان صغيراً للغاية (0.08%)، حتى أنه لا يشكل أهمية أساسية بالنسبة للصين. وكانت الحبوب الرئيسة التي جاءت إلى الصين من أوكرانيا بموجب المبادرة هي الذرة (في عام 2022، استوردت الصين 75% من الذرة من الولايات المتحدة، و22% من أوكرانيا)، إلا أن الحجم الإجمالي للواردات لم يتجاوز 6% من الحجم الإجمالي للاستهلاك، لذا يمكننا أن نفترض أن إنهاء صفقة الحبوب لن يؤثر أيضاً بشكل كبير على سوق الحبوب في الصين.

كشفت الملاحظات طويلة المدى للزراعة الهندية عن نمط مهم، وهو أن الحكومة الهندية تنتهج سياسة تصدير مرنة للغاية، مما يحد من تصدير السلع الزراعية خلال فترات انخفاض المحاصيل، أي الحفاظ على الاستهلاك الوطني كأولوية. وتناقش الهند حالياً مع روسيا إمكانية شراء القمح بسعر مخفض. تدرس نيودلهي استيراد 9 ملايين طن من القمح من روسيا لزيادة المخزون المحلي وسط ارتفاع الأسعار، حيث ارتفع سعر الجملة للقمح بنسبة 6.2% في الهند، ووصل إلى 319 دولاراً للطن، بزيادة 26% عن الأسعار في الأسواق العالمية. ووفقا لمصادر روسية، فإن موسكو تعرض القمح على الهند بأسعار تنافسية، لكن الهند، بحسب "رويترز"، تتوقع الحصول على خصم يتراوح بين 25 إلى 40 دولاراً على الطن الواحد.

على خلفية الأحداث الأخيرة، يواصل الاتحاد الروسي تعزيز مكانته في أسواق الحبوب العالمية. وقد أفاد وزير الزراعة الروسي دميتري باتروشيف أنه اعتباراً من 6 أيلول/سبتمبر 2023، تم حصاد 112 مليون طن من الحبوب في روسيا. وسبق أن قدر محصول الحبوب في الاتحاد الروسي عام 2023 بنحو 123 مليون طن، منها 78 مليون طن من القمح. وللمقارنة، بلغ محصول الحبوب في روسيا 153.83 مليون طن في 2022، و121.4 مليون طن في 2021، لكن من المتوقع أن يكون محصول 2023 أعلى.

إن الأمن الغذائي في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى مثير للقلق. وبحسب الإحصائيات، فقد انخفضت المساحة الصالحة للزراعة لكل وحدة سكانية في دول هذه المنطقة خلال العقد الماضي بنسبة 21%، وتضرر ما نسبته 40% من الأراضي الصالحة للزراعة بسبب دخول المعادن الثقيلة إلى التربة. وتشير تقديرات منظمة الأغذية والزراعة إلى أن أكثر من 20% من السكان تضرروا من المجاعة. لكن في الواقع، لم تقترب صفقة الحبوب حتى من حل مشكلة توفير الغذاء للدول الجائعة في أفريقيا. وهكذا، لم تتلق هذه الدول سوى 3.1% من السلع الزراعية، وهو ما أشار إليه الجانب الروسي مراراً وتكراراً، كما ذهب أكثر من 70% من المنتجات الغذائية المصدرة من أوكرانيا إلى الدول الغنية.

ولا ينبغي لنا فضلاً عن ذلك أن نبالغ في تقدير نفوذ أوكرانيا في حل أزمة الغذاء وتوفير الحبوب للدول الفقيرة. وبلغت حصة أوكرانيا في الصادرات العالمية من محاصيل الحبوب في عام 2022 نحو 5%، بما في ذلك 4% من القمح. وفي الوقت نفسه، خفضت أوكرانيا بشكل حاد إنتاج الحبوب منذ عام 2022. ومن المفترض أن يكون ذلك في الموسم الزراعي 2023-2024، فمن المتوقع أن يصل محصول الحبوب إلى 54.5 مليون طن، وهو أقل بنسبة 37% عن موسم 2021-2022، عندما جمع 86.7 مليون طن.

في المقابل، تلعب روسيا دوراً مهماً في تزويد دول القارة الأفريقية بالمنتجات الزراعية، حيث توفر ما يقرب من 20% من إجمالي وارداتها من القمح، و18% من الشعير، و13% من فول الصويا وزيت عباد الشمس. كما أن روسيا على استعداد لتقديم مساعدات غذائية مجانية إلى البلدان الأفريقية التي تعاني من المجاعة، وهي على استعداد كذلك لتقاسم تكنولوجيات التنمية الزراعية معها من أجل زيادة أمنها الغذائي.

وأشار بيان الرئيس الروسي ورئيس الاتحاد الأفريقي عقب المنتدى الروسي الأفريقي إلى أن روسيا ستقدم من 25 إلى 50 ألف طن من الحبوب مجاناً لست دول هي: بوركينا فاسو وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية أفريقيا الوسطى وإريتريا. كما أن المنتجين الروس على استعداد لمضاعفة إمدادات الأسمدة المعدنية إلى البلدان الأفريقية في السنوات الخمس المقبلة.

وتخطط شركة "أورالكيم" لزيادة إمدادات الأسمدة إلى أفريقيا عشرة أضعاف، وعلى مدى السنوات الخمس الماضية قامت الشركة بالفعل بتوريد 2.5 مليون طن من الأسمدة إلى البلدان الأفريقية. تخطط شركة " PJSC PhosAgro"، وهي إحدى أكبر الشركات المنتجة للأسمدة المحتوية على الفوسفات في العالم، لمضاعفة إمدادات الأسمدة إلى البلدان الأفريقية خلال السنوات الثلاث المقبلة. وفي مؤتمر صحفي عقب المفاوضات مع الرئيس التركي في 4 أيلول/سبتمبر 2023، أعلن فلاديمير بوتين أن روسيا ستنظم توريد مليون طن من الحبوب بسعر تفضيلي، لمعالجته في تركيا ونقله مجاناً إلى البلدان الأكثر فقراً. ويتضمن هذا المخطط دعماً مالياً من دولة قطر.

لن يسمح الجانب الروسي بـ "إعادة إنعاش" صفقة الحبوب إلا بعد استيفاء الشروط الروسية بالكامل. وهذا يتطلب إعادة ربط بنك "روسيلخوزبنك" بشبكة سويفت، ورفع العقوبات عن المنتجات الزراعية والأسمدة الروسية. ومع ذلك، حتى لو وافق الغرب على ذلك، فإن تنفيذ هذه الخطوات سيستغرق أكثر من شهر. وفي قمة مجموعة العشرين، التي اعقدت يومي 9 و10 أيلول/سبتمبر 2023، خطط الاتحاد الأوروبي مرة أخرى لإثارة قضية تمديد صفقة الحبوب والأمن الغذائي، ولكن لم يتم تقديم أي مقترحات حقيقية حتى الآن.

 

نقلها إلى العربية: عماد الدين رائف.