غزة 2023: الصراع بنواحيه الإقليمية والدولية

تستخدم "إسرائيل" الصراع مع حماس كوسيلة للحفاظ على سيطرتها على الضفة الغربية. وقد ردد القادة الإسرائيليون كثيراً أن الانسحاب من الضفة الغربية سيؤدي إلى هجمات صاروخية على تل أبيب ووسط "إسرائيل".

  • غزة 2023: الصراع بنواحيه الإقليمية والدولية
    غزة 2023: الصراع بنواحيه الإقليمية والدولية

ما هي الأبعاد السياسية والقانونية على قطاع غزة بعد تهشيم حماس سمعة "الجيش" الإسرائيلي، عبر عملية "طوفان الأقصى"؟ وما هو التقييم العقلاني لأسباب هذه العملية ودوافعها؟ يتناول الموضوع في "المجلس الروسي للشؤون الدولية" أستاذ القانون الدولي في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية (التابع لوزارة الخارجية الروسية)، فلاديسلاف تولستيخ، وأستاذ القانون والعلوم السياسية في "جامعة النجاح"، جوني عاصي.

فيما يلي نص المقال منقولاً إلى العربية:

في 7 تشرين الأول/أكتوبر، هاجمت حماس "فرقة غزة" التابعة لـ "الجيش" الإسرائيلي (الفرقة الإقليمية 143، شوعالي هايش) والمستوطنين في القرى المجاورة، تبعت ذلك موجة جديدة من العنف. أضر هجوم حماس بسمعة "الجيش" الإسرائيلي كقوة لا تقهر، وأدى إلى ظهور دعوات لتدميرها، بغض النظر عن العواقب المحتملة على المدنيين الفلسطينيين. وخلال الأيام الثمانية الماضية، قُتل أكثر من 2200 فلسطيني وجُرح 6000، بينما في الجانب الإسرائيلي قُتل أكثر من 1400 شخص وجُرح أكثر من 3000، بحسب وسائل إعلام إسرائيلية.

تشير الصور المروعة للضحايا (التي ما تزال تعرض) إلى واحدة من أكثر الاشتباكات دموية في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة. لكن هذه الصور لا تكشف عن آليات الصراع بل تخفيه، وتثير الرعب والغضب، لكنها لا تحفّز التقييم العقلاني. وفي الوقت نفسه، فإن غياب الأسباب والدوافع العقلانية هو بالضبط ما يميز هذا الصراع، ما يجعل أي مراقب متنبه في حيرة من أمره. ومن المهم فهم السياق المحلي والإقليمي لهذا الصراع والنظر في آثاره الأخلاقية والقانونية.

خلفية الصراع

في ما يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين، تحدد "إسرائيل" سياستها بشكل صارم من خلال نموذج إدارة النزاع المستخدم منذ احتلال الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة (1967). فيما تعكس اتفاقيات أوسلو وانسحاب القوات من قطاع غزة عام 2005 (فك الارتباط الأحادي الجانب) هذه السياسة جزئياً. تمت الموافقة على اتفاق "أوسلو"، المعروف أيضاً باسم إعلان المبادئ، في اجتماع لحكومة رابين في 30 آب/أغسطس 1993. وتم التوقيع عليه مع منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن في 13 أيلول/سبتمبر من العام نفسه. ويشير محضر أحد الاجتماعات إلى أن الحكومة الإسرائيلية كانت مهتمة في المقام الأول بالقضايا الأمنية وليس بالتطلعات السياسية للفلسطينيين بشأن دولة مستقلة. وكانت الحكومة فخورة بنجاحها في الحفاظ على المستوطنات والسيطرة على الأراضي المحتلة، ووقعت مسؤولية تنفيذ هذا الاتفاق على عاتق الجيش. وقد نوقش خلال الاجتماعات موضوع "الإرهاب" الفلسطيني، على أمل أن يتخلى عنه الفلسطينيون.

ويعتقد الصحافي الإسرائيلي إيغال ليفي أن اتفاقيات أوسلو تم تطويرها من قبل الجيش لضمان السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد خلقت هذه السيطرة مشاكل لعمل السلطة الفلسطينية كدولة، خاصة في مواجهة التوسع الاستيطاني والقيود المفروضة على حرية حركة الفلسطينيين. وبحسب الوزير موشيه شاحال (عضو حكومة رابين)، يعتقد المسؤولون الأمنيون أن كل شيء يجب أن يبقى على حاله من دون تغيير.

أما بالنسبة لقرار سحب القوات من غزة عام 2005، فقد اتخذته "إسرائيل" على خلفية الهجمات المتزايدة على الجنود الإسرائيليين. كان من الصعب السيطرة على قطاع غزة، وكان يُنظر إلى انسحاب القوات على أنه وسيلة بديلة لإدارة القطاع من دون وجود مباشر للجيش الإسرائيلي فيه.

السياسة الإسرائيلية تجاه قطاع غزة في عهد نتنياهو

في حقبة حكومات بنيامين نتنياهو المتعاقبة، التي استمرت 16 عاماً، أصبحت حماس الأداة الرئيسة في إدارة الصراع. وفي اجتماع لحزب الليكود في آذار/مارس 2019، قال نتنياهو إن دعم حماس وتعزيزها ضروري لمنع إنشاء دولة فلسطينية. كما ذكر أن فصل الفلسطينيين في غزة عن الفلسطينيين في الضفة الغربية هو جزء من الاستراتيجية. وتشير هذه السياسة إلى أن الإسرائيليين يعترفون فعلياً بحماس باعتبارها القوة السيادية في غزة. ومن المهم الإشارة إلى أن حماس ليست مجرد منظمة عسكرية، بل هي أيضاً حركة سياسية واجتماعية. وبناء على ذلك تتولى مهام الحكومة.

وتستخدم "إسرائيل" الصراع مع حماس كوسيلة للحفاظ على سيطرتها على الضفة الغربية. وقد ردد القادة الإسرائيليون كثيراً أن الانسحاب من الضفة الغربية سيؤدي إلى هجمات صاروخية على تل أبيب ووسط "إسرائيل"، على غرار ما حدث بعد الانسحاب من غزة في عام 2005.

في المقابل، تستخدم حماس السياسات الإسرائيلية لتعزيز موقعها في المقاومة الفلسطينية. خلال دورات العنف السابقة ضد غزة (في الأعوام 2008-2009، و2012، و2014، و2018)، أظهرت حماس قدرتها على زيادة مدى إطلاق الصواريخ وتعبئة جبهات أخرى، بما في ذلك في الضفة الغربية والداخل الإسرائيلي. وقد تجلى ذلك بشكل خاص خلال الصراع في أيار/مايو 2021.

أسباب "طوفان الأقصى" وما تبعه

أما عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر، فلا بد من النظر إليها في سياق عدد من العوامل. على المستوى المحلي، لعبت السياسات القمعية التي تنتهجها "إسرائيل" تجاه الأسرى الفلسطينيين دوراً كبيراً في ذلك. ونتحدث بشكل خاص عن إلغاء التسوية بين السجناء وإدارة السجن، والتي جاءت نتيجة نضال طويل من قبل الأسرى وكان أحد أشكاله الإضراب عن الطعام. خلال الأشهر الماضية، زادت إدارة السجون من ضغوطها على السجناء (يزيد إجمالي عدد الأسرى الفلسطينيين على 5000 شخص)، حيث منعتهم من المشي، وزيارة الأقارب، وحرمتهم من الحق في استخدام التلفزيون والاستحمام ومن الكهرباء وغيرها.

وبالإضافة إلى ذلك، تزايدت وتيرة بناء المستوطنات في الضفة الغربية. في آذار/مارس 2023، تم إلغاء قانون فك الارتباط العائد لعام 2005 (انسحاب إسرائيل من غزة وشمال الضفة الغربية في عام 2005). ومن المحتمل أن يكون الهدف من هذا الإجراء هو إعادة احتلال الجزء الشمالي من الضفة الغربية، كما يتضح من عودة المستوطنين إلى حومش. وبحسب المتحدث باسم حزب "القوة اليهودية"، تسبيكا فوجل، فإن المهمة التالية هي العودة إلى "غوش قطيف" في غزة. والعامل الآخر هو زيادة هجمات المستوطنين على الفلسطينيين (سياسة هجمات تدفيع الثمن) التي أسفرت عن مقتل 200 فلسطيني في العام الحالي (قبل أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر)، كما قُتل 30 إسرائيلياً نتيجة الهجمات الفلسطينية.

على المستوى الإقليمي، تحظى عملية تطبيع العلاقات بين "إسرائيل" والمملكة العربية السعودية بأهمية كبيرة. ومن المخطط أن يتم التطبيع من خلال انضمام السعودية إلى الاتفاقيات الإبراهيمية. وهذا أمر مهم ليس فقط من حيث الانعكاسات الاقتصادية والاستثمارية، بل أيضاً من الناحية الرمزية، حيث تعتبر السعودية رائدة العالم العربي والسني. ومن المهم الإشارة إلى أن هذا التطبيع أصبح شرطاً لتنفيذ مشروع كبير لبناء ممر نقل سيربط الهند بأوروبا عبر السعودية و"إسرائيل"، وهو مشروع ينافس المشروع الصيني "حزام واحد وطريق واحد" (الاسم الرسمي للمشروع هو الممر الاقتصادي "الهند – الشرق الأوسط – أوروبا"، 2023). 

إن توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية لتشمل السعودية أمر لا يتوافق مع رغبات الفلسطينيين. خلال المفاوضات بين العرب والأميركيين والإسرائيليين، اقترحت "إسرائيل" تغييرات على المبادرة العربية 2000، التي صاغها السعوديون ذات يوم. والتغييرات في الواقع تلغي الأحكام الرئيسة للمبادرة. وقد اقترح الأميركيون والإسرائيليون على وجه الخصوص إنشاء اتحاد كونفدرالي بين الأردن والضفة الغربية، مع الحفاظ على المستوطنات اليهودية تحت السيادة الإسرائيلية.

بالإضافة إلى ذلك، اقترحوا إنشاء كونفدرالية بين قطاع غزة ومصر، مع حل القوات المسلحة للمنظمات الفلسطينية. وستكون مصر والأردن مسؤولتين عن الأمن، وستبقى القدس موحدة تحت السيادة الإسرائيلية. وتعكس هذه التغييرات فعلياً التقدم الذي تم إحرازه منذ حرب عام 1967 وتحول المسؤولية عن غزة والضفة الغربية إلى الدول العربية، ما يسمح لـ "إسرائيل" بالاحتفاظ بمستوطناتها والقدس. إن تبني هذا الاقتراح يمثل مشكلة كبيرة بالنسبة للفلسطينيين، لأننا في الواقع نتحدث عن نزع الطابع الفلسطيني عن الصراع.

تجدر الإشارة إلى أن فلسطين حققت خلال السنوات القليلة الماضية بعض التقدم في الدفاع عن مكانتها على المستوى العالمي، أي على مستوى المنظمات والمحاكم الدولية. في البداية تم تعديل مسار الجهود السياسية والقانونية الفلسطينية بشكل كبير عبر اللجوء إلى قانون المسؤولية الدولية. والرسالة الرئيسة هنا هي أنه بدلاً من توثيق الانتهاكات التي ترتكبها "إسرائيل" في الأراضي المحتلة ومحاولة التوصل إلى حل تفاوضي، يجب تحديد "إسرائيل" بوضوح على أنها المعتدي الذي ينتهك حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير. وينبغي أن يستلزم ذلك تطبيق العقوبات والإجراءات المضادة عليه من قبل جميع الدول (حالياً لا تطبق الدول الغربية مثل هذه العقوبات).

الإنجاز المهم الآخر هو إضفاء الطابع القضائي على الصراع، أي تحويله إلى المحاكم الدولية. في عام 2018، استأنفت فلسطين أمام محكمة العدل الدولية، دعوى اتهام الولايات المتحدة بأن نقل سفارتها إلى القدس ينتهك اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961. وتناولت المحكمة الجنائية الدولية الوضع في فلسطين وأصدرت في عام 2021 قراراً يؤكد اختصاصها. ومطلع عام 2023، قبلت محكمة العدل الدولية طلباً من الجمعية العامة بشأن التبعات القانونية لممارسات "إسرائيل" غير القانونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

إن عملية حماس تقضي على احتمال التوصل إلى حل تفاوضي للصراع، وكذلك على محاولات تحقيق حق الفلسطينيين في تقرير المصير في الهيئات السياسية التابعة للأمم المتحدة أو في المحاكم الدولية، التي لن تتمكن بالطبع من تجنب الضغط السياسية. أما بالنسبة للعقوبات والإجراءات المضادة، فلا يمكن الحديث عنها من الآن فصاعداً.

*** 

يقوض الوضع المستجد في غزة الأجندة الفلسطينية، ويضع إطاراً سياسياً يخدم المصالح الأميركية والإسرائيلية. وحتى الآن، ونتيجة للقصف المكثف الذي تشنه القوات الإسرائيلية، أصبح ما يقرب من نصف مليون شخص من سكان المنطقة الشمالية لقطاع غزة نازحين داخلياً. إن خطاب "إسرائيل" المتمثل في تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم ​واعتبارهم شراً مطلقا يصبح أساساً مبرراً لارتكاب الإبادة الجماعية ضد شعب غزة.

تجدر الإشارة إلى أن هذا الخطاب ليس جديداً، ويستخدم في العقيدة الإسرائيلية لمقارنة "إسرائيل" كدولة ديمقراطية وقانونية مع "المنظمات الإرهابية الفلسطينية". كل هذا يعيد إلى الأذهان تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق أبا إيبان حول القانون الدولي الذي لا يطبقه "الأشرار" ويتجاهله "الأخيار".

المشكلة الأساسية هنا هي أن المقترحات الخاصة بحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي (وبشكل أكثر عموماً، الخطاب السياسي والقانوني الذي يحدد المواقف تجاه هذا الصراع) تصاغ حصرياً من قبل الولايات المتحدة و"إسرائيل". ويجب على المجتمع الدولي والأمم المتحدة، التي تمثل مصالحه، أن تتحمل مسؤولية أكبر تجاه الشعب الفلسطيني في هذا الصدد.

 

نقلها إلى العربية: عماد الدين رائف.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.