الاستراتيجية الصينية الجديدة.. من عقد اللؤلؤ إلى جزر سليمان

تدرك بكين أهمية السيطرة على الممرات البحرية. لذلك، تعمل على توسيع نفوذها البحري في المحيط الهندي ومناطق حيوية في العالم.

  • تهدف استراتيجية
    تهدف استراتيجية "عقد اللؤلؤ" إلى تطويق الهند، من خلال الحفاظ على قواعدها الاستراتيجية وتطويرها في البلدان المجاورة لها وحماية طرق إمداد الطاقة إلى الصين.

لم يسمع الكثير منا ربما بدولة اسمها جزر سليمان إلا في الآونة الأخيرة، حين ضجت وسائل الإعلام الغربية بخبر توقيع اتفاقية للتعاون الأمني بين بكين وهونيارا. وقد أشارت بعض الأنباء إلى أنَّها تتيح للصين لاحقاً نشر عدد من جنودها وقوات من الشرطة الصينية لحماية مصالحها في تلك المنطقة.

 أمّا بكين، فقد حاولت كعادتها التقليل من خطر تلك الاتفاقية على الآخرين وإعطاء إشارات بأنها مجرد اتفاقية متواضعة لا تحمل رسائل لأحد، وتهدف إلى مساعدة الحكومة المركزية للجزر على استعادة الأمن والقضاء على الاحتجاجات التي شهدتها العاصمة هونيارا للمطالبة باستقالة رئيس الوزراء ماناسيه سوجافاري، لأنه قرر تطوير علاقات بلاده مع الصين بدلاً من تايوان، وهو ما جعل بكين تتشجّع ربما على حمايته، بعد أن حاول تحويل ولائه من تايوان إلى بكين في العام 2019.

الجيوبوليتيك الصيني الجديد (عقد اللؤلؤ String of Pearls)

شكّلت مبادرة "الحزام والطريق" التي أعلنها الرئيس الصيني شي جين بينغ نقلةً في الرؤية الصينية العالمية، وإعادةً لتعريف دورها وموقعها في النظام الدوليّ، وهي مبادرةٌ قامت على فكرة إحياء طريق الحرير الذي كان قائماً في القرن التاسع عشر من أجل ربط الصين بباقي دول العالم، لتكون أكبر مشروع بنيةٍ تحتيةٍ في تاريخ البشرية.

تنطوي هذه المبادرة على تطوير البنية التحتية والاستثمارات على طول طرق النقل الحيوية للصين برياً وبحرياً، وربط الصين بدول الخليج العربيّة والبحر الأبيض المتوسط عبر آسيا الوسطى والمحيط الهنديّ، حيث تم تصميم طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين للانتقال من ساحل الصين إلى أوروبا عبر بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي في اتجاهٍ واحد، ومن ساحل الصين عبر بحر الصين الجنوبي إلى جنوب المحيط الهادئ في الجانب الآخر. 

هذه الرؤية الصينية العالمية كانت بحاجةٍ إلى حمايةٍ عسكريةٍ وتشبيكٍ دبلوماسيّ وتعاونٍ اقتصاديّ، عملت بكين على تأمينه عبر استراتيجية "عقد اللؤلؤ" (الانتقال من الدفاع الساحليّ إلى أعالي البحار والانتشار العسكريّ البحريّ البعيد المدى)، والتي تشير إلى شبكةٍ من المنشآت والعلاقات العسكرية والتجارية الصينية على طول خطوط الاتصال البحرية، والتي تمتدّ من البر الرئيسيّ الصينيّ إلى القرن الأفريقي. 

تهدف استراتيجية "عقد اللؤلؤ" إلى تطويق الهند من خلال الحفاظ على قواعدها الاستراتيجية وتطويرها في البلدان المجاورة للهند، وحماية طرق إمداد الطاقة إلى الصين برياً وبحرياً، وبالتالي كلّ لؤلؤةٍ -نقطة ارتكازٍ عسكرية- تُمثل منطقة نفوذٍ جيوبوليتكيةٍ صينيةٍ.

لذلك، إن مبادرة "الحزام والطريق" واستراتيجية "عقد اللؤلؤ" تمثلان رؤيةً جيوبوليتكيةً صينيةً للعالم، تجمع بين أفكار ألفرد ماهان عن القوة البحرية، وجيبوتيتيك العولمة الذي يعتمد السيطرة من خلال القوة الذكية والناعمة في آن، وبالتالي فهي تهدد السيطرة الأميركية على جنوب شرق أسيا، وتُمثل تحدياً لها في قناة ملقا الاستراتيجية، كما تُعد تهديداً كبيراً لبريطانيا التي تعول على الكومنولث البريطانيّ، فهي تطوق الهند، وتعمل على احتواء باكستان (الممر الباكستانيّ- الصينيّ) من جهة، وتتبع دبلوماسية القروض من جهةٍ أخرى، ما يضعف النفوذ البريطانيّ في المحيط الهندي وجنوب آسيا.

الاتفاقية بين الصين وجزر سليمان تأتي رداً على اتفاق أوكوس الثلاثي

ترى النظرية الواقعية أنَّ الدولة لا يمكن أن تصبح قوة عظمى إلا إذا كانت قوة إقليمية مسيطرة على محيطها الإقليمي كله. بعد ذلك، تنتقل إلى التوسع خارج نطاق الإقليم إلى مناطق النفوذ الحيوية بالنسبة إليها. انطلاقاً من هذه الفكرة، ومن أهمية تأمين البيئة الإقليمية للصين، وخصوصاً في منطقة بحر الصين الجنوبي، والذي يتمتع بأهمية كبيرة جداً بالنسبة إلى بكين، نظراً إلى موقعه الاستراتيجي على طريق التجارة الدولية، حيث يمر حوالى 40% من التجارة الدولية من هذا البحر، وتعبر 30% من تجارة النفط حول العالم من هذا البحر، إضافة إلى احتوائه ثروات هائلة تقدر بـ23 مليار برميل من النفط، وحوالى 190 تريليون قدم مكعب من الغاز، إضافة إلى الثروة السمكية الكبيرة...

 والأهم من ذلك كله أن 80% من النفط الذي تحتاجه الصين يأتي من هذه المنطقة، وعبر مضيق ملقا الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة، وهو ما يشكل معضلة أمنية حقيقية بالنسبة إلى بكين، حيث يوجد أكبر أسطول بحري أمريكي في هذه المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. 

وعلى الرغم من محاولات الصين تطوير قوتها الحرية، فإنَّ الأسطول البحري الأميركي يبقى متفوقاً عليها، وهو ما جعل بكين تبدأ فعلياً برسم خطة طموحة وسريعة لتطوير قوتها البحرية انطلاقاً من إدراكها خطورة هذا الموقف. 

وانطلاقاً من أهمية تعزيز قوتها وسيطرتها على منطقة بحر الصين الجنوبي في أية مواجهة قد تحصل مع تايوان والغرب، وخصوصاً بعد توقيع اتفاق أوكوس الثلاثي بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في أيلول/سبتمبر من العام الماضي، أي بعد وصول بايدن إلى السلطة بتسعة أشهر فقط، بدا وضحاً أنَّ الاتفاق موجه ضد الصين، إذ تمَّ تزويد أستراليا بثماني غواصات نووية متطوّرة غير موجودة إلا في 6 دول في العالم، هي الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا والهند. 

هذه الدول قامت بتصنيع تلك الغواصات بنفسها، في حين حصلت عليها أستراليا من الولايات المتحدة. تتمتع هذه الغواصات بتقنيات متطورة، أهمها عدم الحاجة إلى التزود بالوقود، ما يسمح لها بالمرابطة والحركة في منطقة بحر الصين الجنوبي، وبالتالي تهديد الأمن القومي لبكين. 

لقد أدركت بكين خطورة تلك الاتفاقية، فبدأت بالعمل على إفشالها أو تدارك خطرها. وقد نجحت، كما يبدو، بإقامة اتفاق شبيه إلى حد ما باتفاق أوكوس، ووقعت اتفاقية أمنية وعسكرية مع جزر سليمان القريبة من أستراليا. 

جزر سليمان وأهميّتها الحيوية والاستراتيجية

هي عبارة عن 990 جزيرة تقع جنوب المحيط الهادئ. تبلغ مساحتها حوالى 28500 كم مربع. اكتشفت في العام 1568، وأطلق عليها اسم جزر سليمان، لغناها بالذهب القريب من سطح الأرض، فكان الاعتقاد حينها بأنها جزيرة النبي سليمان التي تحتوي على ثرواته.

وفي العام 1886، تقاسمتها بريطانيا وألمانيا، ثم استولت عليها بريطانيا بشكل كامل. وفي الحرب العالمية الثانية، تعرضت جزر سليمان للغزو من قبل اليابان، لكنَّها عادت للسيطرة البريطانية في العام 1945. وفي العام 1976، أصبحت هذه الجزر ذاتية الحكم، وحصلت على استقلالها في العام 1978، رغم بقائها تحت التاج البريطاني وسلطة الملكة إليزابيت الثانية (مالكة جزر سليمان). وكان يمثلها في جزر سليمان حاكم عام، في حين يدير البلاد رئيس الحكومة، والديانة السائدة هي المسيحية، مع تنامٍ كبير للإسلام.

تشكّل الغابات الاستوائية حوالى 80% من المساحة، ويبلغ عدد سكانها حوالى 800 ألف نسمة. يتميز سكانها بلون البشرة السوداء والشعر الأشقر، ولا يزالون يعملون بالزراعة، ويتبعون نظام المقايضة، لا النقود، إذ يستخدمون نوعاً من الصدف (شيل موني).

تتكوَّن من سلسلة من الجزر البركانية والمرجانية، ما يجعلها مقصداً لعشرات الآلاف من السياح سنوياً. تنتشر الكثافة العالية في 6 جزر فقط، وهناك حوالى 300 جزيرة هي ملكيات خاصة لبعض الأسر. أما باقي الجزر الـ600 الأخرى، فهي غير مأهولة على الإطلاق. المناخ في جزر سليمان استوائي وحار ورطب في الوقت نفسه. اللغة الرسمية لجزر سليمان هي الإنكليزية، ولا يتحدث بها إلا حوالى 2%، وهناك أكثر من 70 لغة محلية يتحدَّث بها السكان. 

قلق أميركي وأسترالي

لعل حجم القلق الأميركي والأسترالي والغربي يعكس مدى خطورة تلك الاتفاقية التي ستتيح لبكين موطئ قدم في جزر المحيط الهادئ على مقربة من أستراليا ونيوزلندا، وهو ما تصفه واشنطن بسعي بكين لعسكرة جزر بحر الصين الجنوبي، فجزر سليمان وفيجي وفانوانو وباباوا غينيا الجديدة هي مناطق استراتيجية مهمة تتسابق أميركا والصين للوصول إليها. 

تحوَّلت تلك الجزر إلى ساحة تنافس سياسي وعسكري بين الصين والولايات المتحدة وحلفائها. لذا، عملت واشنطن على افتتاح سفارة لها في جزر سليمان في شباط/فبراير 2022 بعد 29 عاماً على إغلاقها، وأعربت عن قلقها من الاتفاق الموقع بين بكين وجزر سليمان، وأرسلت مبعوثين مهمين، هما أكبر مسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية عن الملف الآسيوي، لمناقشة تلك الاتفاقية الأمنية بين جزر سليمان وبكين.

وقامت أستراليا بإرسال قوات عسكرية لوقف الاحتجاجات، وهي ليست المرة الأولى التي ترسل فيها أستراليا قواتها إلى جزر سليمان؛ ففي العام 2003، أرسلت قوات في إطار بعثة لحفظ السلام بعد اندلاع اضطرابات 1998-2003.

ماذا تريد بكين؟

ستسمح هذه المعاهدة لبكين بانتشار أمني وعسكري صيني في الجزيرة. وقد تضمنت مقترحاً يقول: "يمكن للصين، وفقاً لحاجاتها، وبموافقة جزر سليمان، إجراء زيارات للسفن، والقيام بعمليات تموين لوجستية، والتوقف والعبور في جزر سليمان".

كما تسمح أيضاً للشرطة الصينية المسلحة بالانتشار بناء على طلب من جزر سليمان لإرساء "النظام الاجتماعي". وسيُسمح لـ"قوات الصين" بحفظ "سلامة الأفراد الصينيين" و"مشروعات كبرى في جزر سليمان". ومن دون الموافقة الخطية للطرف الآخر، لا يمكن لأيٍّ منهما الكشف عن المهمات والإجراءات والاتفاقيات الموقعة. 

وكانت الصين قد انتهجت منذ الحرب العالمية الثانية سياسة قائمة على عدم التدخل أو المشاركة في أية عمليات عسكرية خارج حدود الدولة، ولكن في العام 2004 حدث تطور في الاستراتيجية الصينية، إذ دعا الرئيس الصيني هو جين تاو اللجنة العسكرية المركزية إلى تكليف الجيش بمهمات جديدة للدفاع عن المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية للصين في الخارج. 

وفي العام 2006، قامت الحكومة الصينية بإجلاء عشرات الآلاف من تيمور الشرقية بعد اندلاع أعمال العنف فيها. وفي العام 2013، ناقش الكتاب الأبيض للدفاع دور جيش التحرير الشعبي في حماية المصالح الصينية في الخارج. وفي العام 2008، أرسلت الصين 3 سفن حربية على متنها 800 مقاتل إلى السواحل الصومالية لمكافحة القرصنة، في أول مهمة حماية تقوم بها البحرية الصينية في الخارج منذ عدة قرون.

وكانت هذه هي المهمة الخارجية الأولى لجيش التحرير الشعبي الصيني الذي تأسَّس في العام 1927، وللبحرية الصينية منذ إنشائها في القرن الخامس عشر في عهد أسرة مينغ. وفي العام 2011، قامت الصين بإجلاء أكثر من 35 ألف مواطن من ليبيا، وهي أكبر عملية إجلاء خارجية تقوم بها الصين منذ تأسيس الصين الجديدة في العام 1949.

أما الكتاب الأبيض للعام 2019، فقد أكد دور جيش التحرير الشعبي الصيني في حماية المصالح الصينية فيما وراء البحار، باعتبارها جزءاً لا يتجزّأ من المصالح الحيوية والاستراتيجية للبلاد. من هنا، أصبح الجيش الصيني مطالباً بحماية المصالح الصينية في الخارج، وخصوصاً في المحيط الهندي وجنوب شرق آسيا والخليج والبحر الأبيض المتوسط.

تدرك بكين أهمية السيطرة على الممرات والمضائق البحرية. لذلك، ستعمل على توسيع نفوذها البحري، ليس في المحيط الهندي فحسب، بل في جميع المناطق الحيوية في العالم أيضاً، في حال استطاعت ذلك.

 من هنا، يمكن أن نفهم حرص الصين على إقامة نقاط ارتكاز استراتيجية حول العالم، مثل إقامة موانئ كبرى مجهّزة بكابلات بحرية وشبكات رقمية وغيرها من التقنيات والخدمات اللوجستية الحديثة والمتطورة، والتي يمكن أن تتطور لتصبح نافعة للاستخدامات العسكرية، فيما لو اقتضت الضرورة ذلك.