الصين... أسرار الهويّة والثقافة والانتماء

لقد باتت الصين لغزاً محيّراً لأعدائها، ومصدراً للأمل بالخلاص من الغطرسة الأميركية للعديد من دول العالم. ونجح الحزب الشيوعي الصيني بتقديم نموذج لنظام يتمتع بالجدارة السياسية.

  • استطاعت الصين تاريخياً الحفاظ على هويتها الثقافية والحضارية المتميّزة.
    استطاعت الصين تاريخياً الحفاظ على هويتها الثقافية والحضارية المتميّزة.

استطاعت الصين تاريخياً الحفاظ على هويتها الثقافية والحضارية المتميّزة، عبر انكفائها على ذاتها وعدم الاختلاط بالحضارات الأخرى، أو التقليل من هذا التمازج ما أمكن. لكنها وبعد سياسة الإصلاح والانفتاح وجدت نفسها بحاجة إلى الانطلاق نحو العالم، مع التركيز على ثقافتها الوطنية وقيمها الحضارية الراسخة.

المجتمع الصيني مجتمع محافظ، متمسّك بعاداته وتقاليده، فخور بها، يقدّس الكبار ويحترمهم، وهو ما نمّى في شخصية المواطن الصيني احترام الآخر، ومعرفة مكانته وقدره. فاحترام الأجداد نابع من كونهم هم الآباء الفعليون الذين يقومون بتربية أحفادهم نتيجة لانشغال الأبوين في تفاصيل الحياة العملية القاسية.

سياسة الطفل الواحد رتّبت التزامات كبيرة على الأبناء حيث لا معيل لوالديهم أو أجدادهم سواهم، بمعنى ليس هناك أخ آخر يجعلك تستند عليه للقيام بهذه المهمة. وتميّزت الشخصية الصينية بالتسامح النابع من التعاليم الكونفوشيوسية کاحترام العائلة، والقيم الأسرية، وتوقير الكبير، والتمسّك بالأخلاق.

كونفوشيوس (الزعيم الروحي للصين) يرى أن المجتمع يقوم على نظام مقدّس يجب احترامه. وهذا النظام مبنيّ على 5 قواعد أساسية، هي: علاقة الحاکم بالرعية، علاقة الزوج بزوجته، علاقة الوالد بولده، علاقة الأخ بأخيه الأصغر، علاقة الصديق بصديقه. 

في العلاقات الأربع الأولى يجب الطاعة من دون مناقشة، بينما حتّم على الحاکم العدل، والرحمة، والإخلاص للوطن. كما يؤمن الصينيون بمبدأ "النسبية"، فالقيم نسبية، والقوانين نسبية والأحكام نسبية، لذا فقد ترسّخت فكرة "النسبية السياسية"، بمعنى أنهم يرون إيجابيات السلطة ويبرّرون سلبياتها إلى حد كبير، باعتبار أنه لا يمكن اعتبار الخطأ خطأً مطلقاً.

 احترام السلطة وطاعتها، أمر مقدّس في الصين، ويبدو أنه عائد إلى طبيعة المجتمع الصيني، فهو مجتمع زراعي يدرك أهمية السلطة ومكانتها والحاجة إليها. وتقديس العمل نابع من ازدراء المجتمع لمن لا يعمل، بل ربما أيضاً لعدم وجود فكرة قيام الآخرين بمساعدة الإنسان طالما أنه قادر على العمل، خاصة وأن فرص العمل يبدو أنها متاحة للجميع، مع اختلاف نوعيتها ومردودها بالتأكيد.

ظاهرة التسوّل لا تبدو موجودة في المجتمع الصيني، ولم يتسنَّ لي رؤيتها إلا في شارع يسمّونه "شارع العرب" في غوانجو، حيث يوجد فيه الكثير من العرب والمسلمين.

الانضباطية العالية التي يتمتع بها المجتمع الصيني مثيرة للدهشة والاستغراب، وربما هي عائدة من وجهة نظري لكثرة الكاميرات التي تستطيع مراقبة الإنسان في عمله وسلوكياته. هذه الرقابة على المدى الطويل، شكّلت شعوراً داخلياً لدى الإنسان بأنه لا يمكنه مخالفة القانون، فتحوّلت حالة الرقابة إلى حالة انضباط ذاتي، قوّمت سلوك الفرد وحوّلته إلى مواطن ناجح.

إتمام العمل وبشكل دقيق أدّى إلى غياب الاجتهاد الشخصي والمزاجية. وبالتالي، عدم استطاعة أي شخص مساعدتك في القضايا الإدارية وغيرها. وربط الدخل بالإنتاج ليس مجرّد شعار، حيث استطاعت الحكومة الصينية إيجاد الكثير من الطرق لمكافأة المجدّ، ومحاسبة المقصّر. ففي الصين لا يمكنك الحديث عن دخل شهري ثابت، فالدخل متغيّر وفقاً لما تنتجه كفرد، وما تحقّقه المؤسسة التي تنتمي إليها من أرباح. فليست هناك مساواة في الأجور بين العاملين، والعامل الحاسم في التقييم هو الإنجاز، أما التقرّب من رئيسك في العمل فلا فائدة عملية منه، لذا قد تعمل عدة أشهر من دون أن تحتاج إلى مقابلته.

التقييم الشامل للعاملين عامل هام جداً، وعنصر من عناصر نجاح المؤسسات، بمعنى أنه من حقّ عميد الكلية مثلاً تقييم العاملين، لكن بالمقابل يقوم العاملون جميعاً بتقييم العميد أيضاً، وهي حالة لطالما افتقدناها في دولنا العربية. تقييم الزملاء لك في نهاية العام عنصر هام من عناصر التقييم العامّ لعملك، لذا تجد الموظف يسعى للفوز بمحبة زملائه في العمل، وبالتالي تحقيق نوع من الولاء للمؤسسة والأشخاص العاملين فيها.

حب الوطن أمر لافت وكبير، وإن بدا للوهلة الأولى أمراً طبيعياً (بمعنى أن كل إنسان يحب وطنه)، لكن المميز في ذلك هو تعبير المواطن الصيني عن هذا الحب. وقبل يومين (في الأول من تشرين الأول/أكتوبر) كان العيد الوطني للصين، فحين تشاهد الجميع يرفع علم بلاده لتتزيّن الشوارع والساحات وحتى المزارع والأرياف، فعليك أن تتوقّف عند هذه الظاهرة.

علم الوطن ولا شيء سواه، حيث لن يختلف اثنان على ذلك، وبالتالي المزيد من التماسك والقوة والمنعة، بدلاً من الدخول في انقسامات سياسية وولاءات غير وطنية تفضي عادة إلى نتائج غير مفيدة. فحبّ الوطن ليس كلاماً فقط، بل هو انضباط والتزام بالقانون، وحفاظ على الممتلكات العامة، وغيرها من السلوكيات التي تجسّد ذلك الحب بعيداً عن الكلام العاطفي الذي لا قيمة له.

تكريس فكرة "النموذج والقدوة" أمر هام وكبير، ولطالما نجحت الحكومة الصينية في جعل سلوكيات مسؤوليها تكون بمثابة السلوك النموذجي، وهو ما استوجب المحاسبة الصارمة لأي مسؤول إذا ما حدث انحراف في سلوكياته المهنية.

أن تكون مواطناً عادياً فلك هامش كبير من الحريات الشخصية، لكن أن تكون مسؤولاً في الحزب الشيوعي الصيني فعليك الالتزام بأخلاقيات الحزب وسلوكياته المنسجمة مع عادات الشعب الصيني وتقاليده وقيمه. تلك التفاصيل الصغيرة والعميقة استطاعت جعل الحزب الشيوعي الصيني أحد أبرز الأحزاب في العالم، نظراً لنجاح تجربته الفريدة في الانتقال ببلد بحجم الصين من بلد فقير ومتخلّف، إلى دولة عظمى لا يفصلها عن قمة الهرم الدولي سوى بعض الوقت.

"كبير القوم خادمهم"، على الرغم من أنها مقولة عربية، إلا أنها باتت أبعد ما تكون عن عالمنا العربي وثقافته التي كرّست الكثير من الناس عبيداً ووظّفتهم خدمة للسيد. لكنني ومن تجربتي ومشاهداتي للحياة في الصين، فإنك تجد الكبير مسؤولاً عن خدمة من هو أصغر منه، فالطالب أولاً على سبيل المثال، ثم الموظف، فالأستاذ ليكون عميد الكلية هو الأخير.

ثقافة أخرى يبدو أنها حقّقت نتائج كبيرة وكرّست حالة من الولاء للحزب الشيوعي الصيني، والانتماء للدولة ومؤسساتها التي استطاعت جعل الموظف يشعر أنه شريك في النجاح. فالتنمية المتوازنة جعلت أبعد المدن في الصين تتمتع بالخدمات ذاتها التي تتمتع بها العاصمة بكين، بل ربما تتميز عنها بحكم أنها مدن حديثة، بينما بكين عاصمة عريقة.

بعد أن طرحت الصين مشروع الحزام والطريق في العام 2013، أصبحت أمام المزيد من التحديات الثقافية والحاجة إلى تعزيز هويتها الوطنية نتيجة للاختلاط المتوقّع بينها وبين باقي الدول. كذلك الأمر بالنسبة لمنظمة البريكس، التي قادت الصين عملية توسيعها لتضم 11 دولة تمثّل حضارات العالم السبع (الصينية والهندية والغربية والروسية والأفريقية والإسلامية والأميركية اللاتينية).

الهوية بالنسبة للشعب الصيني هي "الذات"، والتفرّد هو الذي يميّزهم عن غيرهم من الحضارات، وهو ما رسخ لديهم. احترامك لذاتك وثقافتك وهويتك هي الخطوة الأولى لجعل الآخرين يحترمونك. أما الخطوة الثانية والأهم والأبرز، فتتمثّل في كيفية تعاطيك مع الآخر، فاحترامك للآخر هو انعكاس لاحترامك لذاتك. 

يتمّ بناء الهوية الثقافية والحفاظ عليها من خلال عملية تبادل المعرفة الجماعية مثل: العادات والتقاليد، والتراث، واللغة، والجمال، والقواعد...إلخ. فللصين حساسية كبيرة لجهة احترام الهوية الثقافية للشعوب الأخرى، وهو ما انعكس بشكل إيجابي على علاقاتها وخصوصاً مع الدول العربية، ودول القارة الأفريقية.

تأثّرت الهوية الثقافية الصينية بثلاث شخصيات، هم: (بوذا، ولاهوتسي، وکونفوشيوس)، تلك الشخصيات قدّمت مبادئ أخلاقية عديدة، تحاول الصين تسويقها، ولأنها في ذاتها تمثّل مُثلاً عليا، فقد جذبت العديد من الدول للاهتمام بالثقافة الصينية.

"لا تحقّر ديناً أنت لا تعبده"، عبارة كتبت باللغة الآرامية على أحد المعابد في مدينة تدمر السورية قبل ألفين وخمسمئة عام تقريباً. تلك العبارة وإن كانت سورية، إلا أنها تبدو راسخة ومتجذرة في الثقافة الصينية، التي تحترم كل الأديان والطوائف والمعتقدات التي تؤمن بها الشعوب.

لذا فقد حظيت الزيارة التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد إلى معبد لينغين (معبد بوذي شهير يقع في مدينة هانغتشو) باهتمام كبير من قبل الشعب الصيني. حيث قدّم صورة عن الإسلام المعتدل الذي يحترم جميع الأديان والطوائف والمعتقدات. 

بعد النهضة الاقتصادية الكبيرة التي حقّقتها الصين، اعتمدت بكين وبشكل كبير على قوّتها الناعمة كوسيلة للنفاذ إلى باقي دول العالم. فركّزت على العامل الثقافي لخلق صورة إيجابية وبنّاءة عنها لدى شعوب العالم.

في عام 2004 قامت الحكومة الصينية بافتتاح معاهد كونفوشيوس لتعليم اللغة الصينية ونشر الثقافة الصينية حول العالم، وهي مؤسسات غير ربحية للتعليم والتبادل الثقافي. تنتشر هذه المعاهد في أكثر من مئة دولة موزّعة على كل القارات في العالم، حيث يوجد أكثر من 400 معهد كونفوشيوس في الجامعات، وأكثر من 500 مركز لتدريس اللغة الصينية خارج الجامعات.

وصلت تلك المعاهد إلى دول أميركا اللاتينية منذ العام 2006، حيث باتت موجودة في 23 دولة في أميركا اللاتينية ودول الكاريبي، حتى أن بعض الدول بات فيها أكثر من معهد. تلك المعاهد وإضافة إلى تعليمها اللغة الصينية، تقوم بتنظيم المعسكرات الصيفية في الصين، وتقيم الاحتفالات في المناسبات الثقافية الصينية. 

تقوم الحكومة الصينية بتوفير المواد الدراسية للمعلمين والطلاب، وتقدّم المنح الدراسية لمن يتمكّن من إتقان اللغة الصينية. وهو ما يثير مخاوف الولايات المتحدة الأميركية، التي ترى أن الصين تسعى إلى خلق جيل من "قادة المستقبل" في أميركا اللاتينية، قريب من الثقافة الصينية ومحبّ لها.

استطاعت الصين الاستثمار في تاريخها الطويل الخالي من السلوك الاستعماري، فهي لم تكن إمبراطورية استعمارية تعيش على نهب ثروات الشعوب، أو الاتجار بالبشر، وتدمير البلدان الأخرى كما فعل الاستعمار الغربي. وركّزت على نموذجها الفريد في بناء الدولة، إضافة إلى العديد من العوامل الأخرى التي تلقى قبولاً لدى العالم. ورفعت الصين العديد من المبادئ التي لقيت قبولاً كبيراً لدى الدول الأخرى، مثل: عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول، والمساواة بين الدول بغض النظر عن حجمها، وكذلك تقديم نفسها على أنها دولة نامية. 

لطالما اعتبرت الدراسات أن التكنولوجيا والانفتاح على الآخر تضعف الهوية الوطنية للشعوب، لكن الصين (بلد التكنولوجيا) استطاعت الحفاظ على هويتها وثقافتها وقيمها، بل ربما نجحت في توظيف التكنولوجيا في سبيل تحقيق هذا الهدف.

لقد باتت الصين لغزاً محيّراً لأعدائها، ومصدراً للأمل بالخلاص من الغطرسة الأميركية للعديد من دول العالم. ونجح الحزب الشيوعي الصيني بتقديم نموذج لنظام يتمتع بالجدارة السياسية، كونه استطاع التفوّق على النماذج السياسية الأخرى التي تتبنّى النمط الديمقراطي الليبرالي القائم.

ذلك أن الديمقراطية وسيلة لإدارة شؤون الدولة، وليست هدفاً بحد ذاته. فالمشكلة في الدول الغربية أنها تريد من دول العالم أن تبدأ من حيث انتهت هي. متناسية أن "الديمقراطية" ليست سوى منتج حضاري وصلت إليه الشعوب الغربية بعد تجارب كثيرة عاشتها وطوّرتها وصولاً إلى ما يناسبها. كما أن هذه القيم "الديمقراطية" التي تعود إلى مئات السنين، لا بدّ وأنها لم تعد مناسبة لما يعيشه العالم اليوم من تطورات متسارعة.

وإذا كانت العبرة بالنتائج، فقد استطاع النظام السياسي الصيني بناء الدولة والمجتمع، والقضاء على الفقر لأكثر من 800 مليون مواطن صيني، وفقاً لتقارير الأمم المتحدة ذات الصلة.