انقلاب أيلول/سبتمبر في بوركينا فاسو وما يعنيه لغرب أفريقيا

يلاحظ من خلال تصريحات إبراهيم تراوري مدى استياء الضباط من داميبا الذي اتهموه برفض إصلاح الجيش في ظل تفاقم هجمات المسلحين التي تحصد أعداداً متزايدة من أرواح المواطنين والجنود.

  • انقلاب أيلول/سبتمبر في بوركينا فاسو وما يعنيه لغرب أفريقيا
    انقلاب أيلول/سبتمبر في بوركينا فاسو وما يعنيه لغرب أفريقيا

شهدت دولة بوركينا فاسو في 30 أيلول/سبتمبر الماضي ثاني انقلاب عسكري خلال عام، إذ أطيح القائد العسكري، الرئيس بول هنري داميبا، الذي قاد انقلاب يناير، وتولى النقيب إبراهيم تراوري منصبه مع حل الحكومة الانتقالية ووقف العمل بالدستور. وفي حين ساهمت عوامل كثيرة في هذا الانقلاب الأخير، إلا أنه يؤشر إلى اتجاهات جديدة تقبل عليها منطقة غرب أفريقيا بشكل عام، ودولة بوركينا فاسو التي تشترك في الحدود مع مالي في الشمال الغربي والنيجر في الشمال الشرقي وبنين من الجنوب الشرقي وتوغو وغانا من الجنوب وساحل العاج من الجنوب الغربي، بشكل خاص.

من هو إبراهيم تراوري قائد الانقلاب؟

كان النقيب إبراهيم تراوري، قائدُ انقلاب سبتمبر الماضي، ضابطاً منخفض الرتبة نسبياً وغير معروف قبل أيلول/ سبتمبر 2022؛ وُلِد في عام 1988 وينتمي إلى بلدية "بوندوكوي" في محافظة "موهون"، والتحق بالمدرسة الثانوية في "بوبوديولاسو"، العاصمة الاقتصادية لبوركينا فاسو الواقعة غرب البلاد حيث حصل على البكالوريا في عام 2007 وغادر إلى واغادوغو، عاصمة بوركينا فاسو وأكبر مدنها، لدراسة الجيولوجيا في جامعة "جوزيف كي-زيربو". ولنجابته، انضم في عام 2010 إلى السلك العسكري والتحق في مدينة "بو" جنوب بوركينا فاسو بأكاديمية "جورج ناموانو العسكرية" التي تدرب فيها النخبة العسكرية الوطنية البوركينابية.

وفي عام 2012، تخرّج إبراهيم تراوري من الأكاديمية العسكرية وانضم إلى فوج المدفعية في مدينة "كايا" الواقعة شمال شرق العاصمة "واغادوغو". وتمت ترقيته إلى رتبة ملازم أول بعد عامين. وتدرّب أيضاً في المغرب حيث حضر دورتين لفوج المدفعية، وشارك في العمليات الميدانية ضد الجماعات المسلحة في المنطقة الحدودية الثلاثية التي تجمع بين بوركينا فاسو ومالي والنيجر، إضافة إلى عملية "أوتابوانو" في عام 2019 شرق البلاد، وأصبح نقيباً في عام 2020.

 ويلاحظ من خلال التقارير المحلية والإقليمية أن لمشاركة إبراهيم تراوري في دورية "كايا" الأمنية بانتظام أثراً بالغاً، إذ لاحظ وضباط معوزون عدمَ قدرة رئيس الدولة والمسؤولين المدنيين على احتواء التهديد الإرهابي الذي انتشر في جميع أنحاء البلاد. وفي كانون الثاني/يناير 2022، انضم تراوري إلى "الحركة الوطنية للحماية والاستعادة" (MPSR) التي يرأسها بول هنري داميبا، وشارك في الانقلاب ضد الرئيس المنتخب، روش مارك كريستيان كابوري. وعُيّن تراوري في مارس رئيساً للمدفعية في فوج الدعم والقيادة العاشر في "كايا".

عوامل انقلاب أيلول/سبتمبر

لقد كشف انقلاب سبتمبر الانقسام القائم بين الضباط العسكريين في بوركينا فاسو وتباين مواقفهم بعد انقلاب كانون الثاني/يناير؛ إذ دعم ضباط الجيش انقلاب يناير بقيادة بول هنري داميبا الذي تولى السلطة، ووعد بهزيمة الإرهابيين ووضعِ حدٍّ للأوضاع الأمنية المتدهورة. ولكنّ الضباط المقربين من الميدان والواقع الأمني سرعان ما استاؤوا مما اعتبروه تخاذلاً لدى كبار الضباط في العاصمة حيث أصبحوا يعيشون حياة ترف مريحة مع الاهتمام بالسلطة السياسية أكثر من الوعد الذي قطعوه للمواطنين عندما انقلبوا على الرئيس المدني كابوري. بل وتجرّأ داميبا على السماح لـ "بليز كومباوري"، الرئيس البوركينابي السابق، بالعودة إلى البلاد ضمن "إطار المصالحة الوطنية"، بالرغم من الحكم بالسجن المؤبد الصادر ضده لاغتياله الزعيم الشعبي توماس سانكارا.

ويلاحظ من خلال تصريحات إبراهيم تراوري مدى استياء الضباط من داميبا الذي اتهموه برفض إصلاح الجيش في ظل تفاقم هجمات المسلحين التي تحصد أعداداً متزايدة من أرواح المواطنين والجنود، ما عزز انعدام الثقة لدى الجنود الذين لم تتغير حالاتهم وأوضاعهم عن فترة ما قبل الانقلاب، خاصة وأنهم كانوا يواجهون بعد شهور من الانقلاب (يناير) الصعوبات اللوجستية نفسها المتعلقة بعمليات مكافحة الإرهاب والتي اشتكوا منها تحت الحكم المدني. وهذا الشعور وفقدان الشعبية لدى المواطنين حفّزا تراوري على تنفيذ انقلاب سبتمبر بدعم من مجموعة كبيرة من الضباط، بينما واصلت مجموعة أخرى من أعضاء المجلس العسكري وقوفها إلى جانب داميبا. وهناك مجموعة أخرى من الضباط لم تشارك في أيٍّ من الانقلابَين. ومع ذلك، برّر تراوري انقلابه قائلاً إنه سيعيد الأمن ويحوّل مجرى الأمور إلى الأحسن.

ويضاف إلى ما سبق أنه إذ وقع الانقلاب في 30 أيلول/سبتمبر الماضي؛ إلا أن إبراهيم تراوري ورجاله أظهروا خلال الـساعات الـ 48 التالية حسمهم بالقضاء على قائدهم داميبا الذي اتهموه في 1 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي على التلفزيون الوطني باللجوء إلى قاعدة "كامبوينسين" العسكرية الفرنسية للتحضير لهجوم مضاد. وبهذا، بدا الوضع في بوركينا فاسو كصراع أو منافسة بين مجموعة عسكرية موالية لفرنسا بقيادة داميبا ومجموعة أخرى معادية لها ومائلة إلى روسيا. وقد نفت باريس دورها في الوضع السائد بينما خرج آلاف المتظاهرين البوركينابيين إلى الشوارع ضد الوجود الفرنسي مع الهجوم على السفارة الفرنسية والمعهد الفرنسي في العاصمة البوركينابية.

وقد أعقب الانقلاب تطورات سريعة ترجح كفة القول بأن تراوري يحاول تفادي أخطاء سلفه من حيث المماطلة والتأخير؛ إذ نظم المجلس العسكري بقيادته منتدى وطنياً لمدة يومين في 14 و15 تشرين الأول/أكتوبر وعُيِّن هو رئيساً انتقالياً واحتفظ المجلس العسكري بسلطة كبيرة في ميثاق الحكم الانتقالي. ويتوافق ميثاق المجلس العسكري الجديد إلى حد كبير مع الميثاق الذي تبناه عهد داميبا، ويلتزم بالشروط التي حددتها "المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا" (ايكواس) المتمثلة في ألا يترشح الرئيس الانتقالي لمنصب رئيس الدولة وأن تُجرَى الانتخابات بحلول 2 تموز/يوليو 2024.

ما الذي يعنيه لغرب أفريقيا؟

إن لانقلاب سبتمبر الأخير في بوركينا فاسو مؤشرات كثيرة ومعاني متعددة الأوجه سياسياً وأمنياً واقتصادياً وعلى المستوى المحلي والإقليمي والدولي. ويمكن إيجاز هذه المؤشرات في النقاط التالية:

أ-من الناحية السياسية: يدخل هذا الانقلاب ضمن نطاق العمليات التي توصف بمحاولة لإنقاذ الوطن نتيجة فشل الإدارة التي أطاحتها. وقد شهدت أفريقيا عودة هذه العمليات في السنوات الثلاث الماضية، والتي فاقمت من زعزعة الاستقرار السياسي والأوضاع الأمنية. وقد سار انقلابا بوركينا فاسو الأخيران على نمط انقلابي مالي الأخيرين في عامي 2020 و2021، ما جعل بوركينا فاسو في مصاف دول مثل غينيا التي نجح فيها الانقلاب في أيلول/سبتمبر عام 2021. وهذا الاتجاه يخلق ذريعة خطرة لأي مجموعة عسكرية قوية لإطاحة السلطة الحاكمة لمجرد قدرتها على القيام بذلك ولعدم وجود عواقب حقيقية أو لقلة فاعلية العقوبات الاقتصادية ضد مدبريها.

ومن وجهة نظر أخرى؛ يعني الانقلاب أن بوركينا فاسو كغيرها من دول عديدة تعاني من ظاهرة "الرجل القوي"؛ إذ استولى القائد العسكري داميبا على السلطة بإزاحة الرئيس المنتخب، روش مارك كريستيان كابوري، بدعوى فشله في تجهيز الجيش وتوجيهه بشكل صحيح. واستغلّ تراجع شعبية الرئيس كابوري وسط الهجمات المستمرة من قبل الجماعات المسلحة وتزايد التظاهرات الجماهيرية التي تطالبه بالاستقالة. ومع ذلك، اتضح لاحقاً أن داميبا نفسه غير قادر على تحويل الوضع حيث فقدت البلاد تحت حكمه العسكري بين كانون الثاني/يناير وأيلول/سبتمبر أراضي إضافية لمصلحة المسلحين. واستغلالاً لتراجع شعبية داميبا وأخطائه؛ برّر تراوري تدخله الانقلابي بدعوى أنه مضطر إلى فعل ذلك، مشيراً في بيان متلفز أنه "في مواجهة الوضع المتدهور، حاولنا عدة مرات إقناع داميبا بإعادة تركيز المرحلة الانتقالية على المسألة الأمنية. (وقد) أقنعتنا تصرفاته.. إن طموحاته (السياسية) كانت تحول بعيداً عما يجب علينا القيام به".

ب-من حيث التنافس الدولي: اتبع انقلاب بوركينا فاسو النموذج الذي رأيناه في مالي، وما تبع ذلك من اضمحلال للنفوذ الفرنسي وتصاعد النفوذ الروسي. ويعني السيناريو المالي مكسباً جديداً ونقطة مهمة لروسيا في منطقة الساحل وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث سعت موسكو لتوثيق علاقاتها من خلال توفير الدعم العسكري والأسلحة للدول الأفريقية التي تعاني من انعدام الأمن. ومن التهم الموجهة إلى داميبا أنه يوالي فرنسا إذ لم يظهر رغبة حقيقية في قبول عرض روسيا تدريب قوات بوركينا فاسو. ولذلك، لوّح بعض أنصار تراوري بالأعلام الروسية في واغادوغو إثر انقلاب سبتمبر نتيجة الاستياء العام ضد القوة الاستعمارية السابقة فرنسا، وترحيباً بالميل إلى روسيا.

وفي حين أبدى تراوري استعداده لقبول الدعم الروسي والأميركي ومساعدات قوى خارجية أخرى ستساهم في تحسين التحديات الأمنية في البلاد؛ إلا أن الفترة القادمة قد تشهد تعاوناً مع تركيا التي زادت مبيعاتها العسكرية لأفريقيا مؤخراً. ومع ذلك، يظهر من خلال تحركات تراوري عدم رغبته في تعزيز الوجود الفرنسي في بلاده. وهذا يعني أن مستقبل العلاقات بين بوركينا فاسو والغرب تحت قيادته سيعتمد على كيفية التعامل الغربي مع السلطات العسكرية الجديدة ومدى الاستعداد الغربي لتحمل عمليات الميل البوركينابي نحو روسيا، وتعاون البلاد المحتمل مع مجموعة "فاغنر" العسكرية التي يرى البعض في دول مثل جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي أنها حققت نجاحات في استعادة الأراضي من الميليشيات المسلحة، ومنع المتمردين من إطاحة الحكومة.

ج-من الناحية الأمنية: أن طبيعة الهياكل السياسية في عدد من دول غرب أفريقيا وتزايد المشاكل الأمنية في ظل ضعف الحكومات المدنية وقوة المؤسسات العسكرية تعني احتمال حدوث انقلابات إضافية في المنطقة وانقلابات مضادّة، ما يخلق عدم الاستقرار السياسي وزيادة التدهور الأمني. وبما أن منطقة غرب أفريقيا متاخمة جغرافياً لمنطقتي شمال أفريقيا ووسطها؛ فإن عدم الاستقرار فيها سيؤثر في المنطقة المجاورة، وخاصة أن انقلاب يناير في بوركينا فاسو كشف عن تصاعد وتيرة الاضطرابات داخل البلاد وأماكن أخرى عبر منطقة الساحل. وتلمس المخاوف من خطورة الوضع عبر ردّ الهيئات الإقليمية للانقلابات في المنطقة مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ايكواس) التي ضاعفت جهودها في التفاوض مع المجالس العسكرية في مالي وغينيا وبوركينا فاسو.

وأخيراً؛ لا يزال الوقت مبكراً لتحديد ما يمكن توقعه من القائد الجديد تراوري وما إذا كان سيبقى في السلطة أم يلتزم بالشروط الانتخابية وموعد العودة إلى الحكم المدني، إذ أعلن أن غرضه البقاء فقط لفترة كافية "لتسريع" معالجة الشؤون الأمنية. ومما لا شك فيه أنه قد يواجه غضباً شعبياً في الأشهر القادمة بسبب ضعف إنتاج المحاصيل الزراعية وتزايد التحديات الاقتصادية والمعيشية، مع ضغوط إقليمية في ظل طموح القوى الخارجية للتأثير في الشؤون الوطنية والاستفادة من انقسام الضباط وولائهم.