خيارات اليابان التسليحية أمام الصين وكوريا الشمالية
التجارب الكورية الشمالية الصاروخية المتعاقبة منذ في مطلع هذا العام، وكذا التجارب الصاروخية الصينية الأخيرة في محيط تايوان، أعادت طرح مسألة الاستراتيجية اليابانية حيال التهديدات الصاروخية.
في خضم التطورات الدولية المتسارعة، سواء فيما يتعلق بالحرب الأوكرانية، أو التوترات المتكررة حول تايوان وبحر الصين الجنوبي، تجد اليابان نفسها أمام وضع جيواستراتيجي متطور على نحو أسرع في وتيرته مما كانت عليه الحال في العقود الماضية، خصوصاً في ظل تعاظم القدرات الصاروخية لكوريا الشمالية والصين، على نحو يدفع اليابان، مثلها في ذلك مثل كوريا الجنوبية ودول أخرى، إلى البحث حثيثاً في كيفية التعامل مع هذا الوضع المتطور، خصوصاً على مستوى الردع العسكري.
حجم التحديات الحالية أمام اليابان فيما يتعلق بالجانب العسكري، عبّر عنه بوضوح تحليق صاروخ باليستي كوري شمالي فوق الأراضي اليابانية في مطلع تشرين الأول/أكتوبر، للمرة الأولى منذ عام 2017، قبل أن يسقط في المحيط الهادئ، على بعد نحو 3 آلاف و200 كيلومتر من الساحل الياباني، ليقطع بذلك هذا الصاروخ (وهو من نوع "هواسونج-12" متوسط المدى) مسافة تصل إلى 4 آلاف و600 كيلومتر، وهي أطول مسافة قطعها صاروخ كوري شمالي على الإطلاق.
أهمية هذه التجربة الصاروخية بالنسبة إلى اليابان فاقت مسألة نوعية هذا الصاروخ وخصائصه، لتشمل حقيقة أن هذه التجربة قد جرت على نحو مباغت، من دون وجود أي مؤشرات واضحة إلى إمكانية قيام بيونغ يانغ بها، فضلاً عن شمولها عبور الأجواء اليابانية، وعلى نحو محدد أجواء مدينة "أوموري"، التي حلق الصاروخ الكوري الشمالي في أجوائها مدة دقيقة واحدة، بسرعة تعدت سرعة الصوت بنحو 17 مرة، ما دفع السلطات اليابانية، إلى تفعيل منظومة الإنذار المبكر، وإصدار تعليمات تقضي بوقف حركة القطارات ولجوء السكان في بعض المناطق إلى الملاجئ.
المفارقة فيما يتعلق بمنظومة الإنذار المبكر اليابانية المعززة بالأقمار الصناعية، التي تسمى "جي-أليرت"، أن التجربة الصاروخية الكورية الشمالية أظهرت قصوراً واضحاً فيها، تمثل في أنها تسببت بحدوث خلل في هذه المنظومة، نتج عنه إصدار سلسلة من الإنذارات شملت أجهزة التلفزيون والراديو والهواتف الذكية في 9 مدن وقرى يابانية، مع أن الصاروخ الكوري الشمالي لم يحلّق إلا في أجواء مدينة واحدة فقط.
إعادة طرح مدى نجاعة الاستراتيجية الدفاعية اليابانية
وبصرف النظر عن هذه النقطة، إلا أن التجارب الكورية الشمالية الصاروخية المتعاقبة منذ مطلع هذا العام، وكذا التجارب الصاروخية الصينية الأخيرة في محيط تايوان، أعادت طرح مسألة الاستراتيجية اليابانية حيال التهديدات الصاروخية من كلا الجانبين، خصوصاً أن اليابان تضع ضمن السيناريوهات المحتملة للتهديدات الموجهة إلى أراضيها، احتمالية هجوم الصين على الجزر اليابانية الجنوبية الغربية، بالتزامن مع هجوم صيني أساسي على تايوان، وهو سيناريو يرتكز على ضربة صاروخية صينية أساسية، تجد طوكيو من الصعب الحد منها أو التأثير في القدرات الصينية على تنفيذها، وهو ما جعل الذهنية الصينية في هذا الإطار، ترتكز على محاولة ضمان التفوق الجوي والبحري، سواء عبر امتلاك سلاح جو متفوق، أو العمل لتطوير أنواع عدة من الصواريخ المضادة للقطع البحرية.
هذه الاستراتيجية على الرغم من وجاهتها، إلا أنها لا تتضمن آليات محددة للردع، خصوصاً في ظل التفوق الصاروخي الصيني والكوري الشمالي، وهو ما بدأت طوكيو خلال الفترة الأخيرة التنبه له، وبدأت العمل للتخلي التدريجي عن استراتيجيتها الموجهة حصراً للدفاع، وبدأت في الميل نحو استراتيجية أكثر هجومية، سواء فيما يتعلق بتكتيكات نشر الأسلحة، أو عمليات تطوير وشراء أسلحة جديدة، وكذا محاولة تقليل الفجوة بينها وبين كوريا الشمالية والصين فيما يتعلق بالقوة الصاروخية، عبر آليات عدة، من بينها إعطاء مزيد من الاهتمام للتسليح المتعلق بالطائرات المسيرة، وهو مضمار لم تولِه اليابان الاهتمام المطلوب في العقد الأخير.
طوكيو ونظرتها إلى التجربة "المسيرة" في أوكرانيا
هذا التوجّه تمثّل في بدء الحكومة اليابانية في أيلول/سبتمبر الماضي، ببحث إمكان امتلاك طائرات مسيرة هجومية -أو ما يعرف بالذخائر الانتحارية الجوالة- وهو توجّه لا يمكن فصله عن دروس العمليات العسكرية الجارية حالياً في أوكرانيا، فقد أدرجت وزارة الدفاع اليابانية في ميزانيتها المقترحة للعام المقبل، بنوداً تتعلق بهذا الموضوع، خصوصاً أن الترسانة اليابانية من الطائرات المسيرة، لا تتضمن أي أنواع محلية الصنع، وتتضمّن فقط طائرات المراقبة والاستطلاع الأميركية "غلوبال هوك" و"سكان إيغل".
أهمية هذا التوجّه تكمن في أنه سيكون في إطار خطة يابانية للردع، تتضمن نشر عدد كبير من الطائرات الهجومية المسيّرة من دون طيار، في جزر يابانية محددة، خصوصاً جزر "ريوكيو" القريبة من تايوان، لتكون بذلك جزءاً من الجهد الأولي للتصدي لأي هجوم برمائي أو بحري صيني، وتتضمن هذه الخطة بحث أنواع عدة من الطائرات المسيرة من دون طيار والذخائر الجوالة، مثل الذخيرة الإسرائيلية الجوالة "هاروب"، والطائرة التركية الهجومية "بيرقدار"، والذخيرة الهجومية الأميركية "سويتش بلايد"، كما أن وزارة الدفاع اليابانية وضعت بنداً في ميزانيتها المقترحة، للحصول على تمويل أبحاث تتعلق بإنتاج طائرات محلية من دون طيار.
اليابان وموعد قريب مع الصواريخ الفرط صوتية
على المستوى الصاروخي، كانت طوكيو منذ فترة طويلة تهتم بالتقنيات الصاروخية الفرط صوتية، لكن تزايد هذا الاهتمام منذ عام 2018، بعدما بدأت طوكيو ببحث إمكانية امتلاكها أنواعاً من الصواريخ الجوالة، والصواريخ الباليستية المزودة مركبات انزلاقية فرط صوتية، بهدف الوصول إلى معادلة ردع يكمل فيها كل نوع الآخر، بحيث تتّسم الصواريخ الجوالة المطلقة من منصات أرضية بدقتها وتكلفتها المحدودة وإمكانية استخدامها في إطلاق هجمات متعددة الاتجاه، في حين تمتلك الصواريخ الباليستية المزوّدة مركبات انزلاقية عالية السرعة، قدرات تمكنها من اختراق منظومات الدفاع الجوي المعادية، وتنفيذ هجمات دقيقة بقوة تدميرية عالية.
هذه المعادلة تعد مكملة للاستراتيجية الدفاعية اليابانية الأساسية، التي كانت ترتكز في السنوات السابقة على نشر صواريخ بحرية جوالة من نوع "تايب-12"، خصوصاً في نطاق الجزر الجنوبية الغربية اليابانية.
هذه التوجهات آتت ثمارها مبدئياً في أواخر عام 2020، حين قدمت وزارة الدفاع اليابانية خطة لتطوير نوعين من الأسلحة التي تفوق سرعة الصوت، هما: الصاروخ الجوال "HCM"، والمركبة الانزلاقية "HVGP" التي تطلق من على متن الصواريخ الباليستية. هذه الصواريخ ستمثل في حال بدء إنتاجها الكمي، تحدياً جادّاً للدفاعات الجوية الصينية، خصوصاً أن خطة تصنيعها تتضمّن نشر شبكة من الأقمار الصناعية، ستكون المسؤولة عن توجيه هذه الصواريخ. وفقاً للخطة اليابانية، ستبدأ اختبارات النماذج الأولية لهذه الصواريخ مبدئياً بعد عام 2024، على أن تدخل الخدمة بحلول عام 2030، علماً أن الاختبارات الأولية على محركات هذه الصواريخ، بدأت فعلاً في تموز/يوليو الماضي.
يرجّح أن يكون مدى الصاروخين الجديدين أكثر من 1000 كيلومتر، وأن تتراوح سرعتهما بين 5 و6 أضعاف سرعة الصوت، مع إمكان إطلاقهما من على متن السفن البحرية أو الطائرات المقاتلة، ليحقق بذلك الهدف الياباني الرئيس من هذه الخطة، الذي أعلن في آب/أغسطس الماضي، وهو امتلاك ونشر أكثر من 1000 صاروخ جوّال وباليستي حول جزر "نانسي" الجنوبية، بحيث تكون لها القدرة على الوصول إلى المناطق الساحلية في كوريا الشمالية والصين.
يذكر هنا، أن طوكيو تفاوض الولايات المتحدة الأميركية منذ عام 2018، على شراء نوعين من الصواريخ الجوالة التي تُطلق من الجو، يشكّلان معاً إضافة نوعية إلى قدرات مقاتلات "أف-35" الشبحية في الترسانة اليابانية، الأول هو صاروخ الضربة المشتركة النرويجي الصنع "JSM" البالغ مداه 500 كيلومتر، وصاروخ "JASSM-ER" جو-أرض الذي تنتجه شركة "لوكهيد مارتن" الأميركية، والبالغ مداه 1000 كيلومتر.
المدافع الكهرومغناطيسية كحل للدفاع الجوي ضد الصواريخ
الجهود اليابانية في إطار مواجهة التفوق الصاروخي الكوري الشمالي والصيني، شملت أيضاً جانباً أساسياً من جوانب التسليح وهو الدفاع الجوي، خصوصاً بعد أن أدّت تعقيدات دولية وإقليمية ومالية، إلى تعليق وزارة الدفاع اليابانية في حزيران/يونيو 2020، عملية نشر نظام الدفاع الصاروخي "إيجيس"، في محافظتي "أكيتا" و"ياماغوتشي"، وهي خطوة تبعها تأليف فريق حكومي لمراجعة سياسة الدفاع الصاروخي اليابانية، الذي يعتمد على نحو أساسي على منظومة "باتريوت" وصواريخ "SM-6" الأميركية، علماً أن هذه الأخيرة قامت واشنطن في تشرين الأول/أكتوبر، بالموافقة على بيع اليابان نحو 32 صاروخاً إضافياً منها، إضافة إلى معدات أخرى خاصة بها، بقيمة إجمالية بلغت 450 مليون دولار.
من البدائل التي طرح للتعامل مع الصواريخ الصينية والكورية الشمالية، تطوير مدافع كهرومغناطيسية، وهي تقنية تمتلك طوكيو باعاً طويلاً في تطويرها، وقد خصصت الحكومة اليابانية في الميزانية الدفاعية الحالية، نحو 56 مليون دولار أميركي، لبرامج الأبحاث المتعلقة بهذه المدافع، التي تعد خياراً مهماً للتصدي للصواريخ الباليستية والجوالة.
والخلاصة أن التحديات التي يفرضها تعاظم القوى الصاروخية لكوريا الشمالية والصين، وكذا التحرّكات المصاحبة لهذا التعاظم من جانب كلا البلدين، أثّرت بوضوح في الذهنية اليابانية التي كانت كثيراً ما تفضل الالتزام بالاستراتيجية الدفاعية التي كانت متّبعة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي السنوات القليلة المقبلة سيطرأ على معادلات الردع في بحر الصين الجنوبي، وفي نطاق المحيط الهادئ، تغيرات جذرية قد ترسم معالم جديدة للخريطة الجيوسياسية في هذا النطاق.