بين "طوفان الكرامة" ومساعي باشاغا.. متى يسقط الغرب الليبيي؟

دخلت حكومتا باشاغا والدبيبة في مفاوضات على أمل التوصل إلى حل يجنّب البلاد الانقسام الحاصل، إلا أن التدخلات الخارجية والطموحات الشخصية ومصالح الميلشيات وعصابات المال في استمرار الفوضى كانت كفيلة بعرقلة أي مساعٍ للتفاهم.

  • بين
    في شباط/فبراير 2022، كلف مجلس النواب الليبي فتحي باشاغا تأليف "حكومة الاستقرار" الجديدة

خلال عامي 2019 و2020 سعى القائد العسكري الليبي خليفة حفتر لإخضاع العاصمة طرابلس وعموم مناطق غربي ليبيا وضمّها إلى المناطق الشرقية الخاضعة لسيطرة الجيش، الذي بدوره يستمد شرعيته من مجلس النواب المنعقد في طبرق والمنتخب منذ أغسطس/آب عام 2014. أطلق مؤيدو العملية العسكرية عليها اسماً دعائياً وهو "طوفان الكرامة"، فيما عرفت إعلامياً بـ"حملة غربي ليبيا". تمتع حفتر وأنصاره بدعم من دول عربية تتقدمها مصر والإمارات والسعودية، إضافة إلى عون عسكري من جانب قوات فاغنر الروسية، وتحدثت تقارير إعلامية عن مساندة فرنسية.

في بدء الحملة العسكرية، نجح الجيش الوطني الليبي في إحراز عدد من النجاحات، على حساب حكومة الوفاق الوطني بقيادة فائز السراج، التي كانت تدير الأمور في العاصمة على مدار الثلاث سنوات الماضية على الاشتباكات، وتحظى بدعم واعتراف غربي.

إلا أن الأمور تبدّلت سريعاً مع الاشتباك المكثف للتشكيلات العسكرية ذات التوجه الإسلامي، ثم دخول تركيا بشكل رسمي على خط المعركة في مطلع عام 2020، وذلك دعماً لحلفائها من "الإسلاميين" ولحكومة السراج. وقد حظي التدخل التركي بضوء أخضر من واشنطن، حيث تحوّلت ليبيا حينذاك إلى ساحة لتصفية صراعات المحاور الدولية والإقليمية على حدٍ سواء.

كان التدخل التركي المصحوب بالدعم الدبلوماسي الأميركي مؤثراً، واستطاعت أنقرة تدبير نقل عديد من المقاتلين "الجهاديين" من مناطق شمالي سوريا إلى غربي ليبيا، وانحسر اشتباك القوات الروسية الحليفة لحفتر في المعارك، ما أدى إلى تراجع تدريجي لقوات "الجيش الوطني" باتجاه الشرق، ما أثار حفيظة القاهرة، خشية أن تسقط مناطق شرقي ليبيا مرة أخرى في قبضة جماعة الإخوان وحلفائها، وهو ما استدعى إعلان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن خط سرت/الجفرة خط أحمر، يُحظر على القوات التركية تخطيه.. وانتهت الحملة العسكرية ببقاء ليبيا مُقسّمة بين شرق وغرب، تخضع لحكومتين، فيما يعجز الجيش ومجلس النوب عن فرض سلطته على عموم البلاد.

آمال ليبيّة معلقة 

بحسب مراقبين للشأن الليبي، فإن المواطن المُنزّه عن التوجهات الأيدولوجية، يبحث بالأساس عن ارتفاع معدل الأمان في الشارع، بالشكل الذي ينعكس بالإيجاب على تحسّن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية عموماً، وهو يطمح إلى أن تستعيد الدولة الليبية وحدتها وتنتهي حال التفتت والانقسام القائمة منذ عام 2011، حينما شنّ طيران حلف شمال الأطلسي ضرباته على البلاد محطّماً جميع مؤسسات الدولة وفارضاً على البلاد حالاً من الفوضى والتبعثر والفشل.

وفي كل مرة تتشكل إدارات وحكومات جديدة لتسيير الأمور في البلاد، سواء في المناطق الشرقية أو الغربية، يتجدد الجدل من جهة، والآمال من جهة أخرى في إمكان توحّد تلك الكيانات السياسية في حكومة تصريف أعمال واحدة، وبالتالي وضع كلمة النهاية لنحو عقد أو أكثر من التشرذم والمعاناة.

انقسام جديد تُغذّيه الأمم المتحدة

 في شباط/فبراير من العام الجاري 2022، كلف مجلس النواب الليبي فتحي باشاغا تأليف "حكومة الاستقرار" الجديدة. وباشاغا وزير داخلية سابق في حكومة فائز السراج، بمعنى أنه كان حتى عامين مضيا في الفريق الخصم لحفتر وعمليته "طوفان الكرامة" وتعرض عام 2019 لمحاولة اغتيال، لكن الأمور تبدلت والتأم شمل باشاغا وحفتر أمام عدسات الصحافيين ما إن تولى الأول مسؤولية الحكومة، التي لن تمارس مهامها بحكم الواقع إلا في المناطق الشرقية، أما مناطق غربي ليبيا فكانت وقت تكليف باشاغا تحت إدارة "حكومة الوحدة" بقيادة عبد الحميد الدبيبة، الذي آلت إليه رئاسة الوزراء في طرابلس في آذار/مارس 2021 خلفاً للسراج.

دخلت حكومتا باشاغا والدبيبة في مفاوضات على أمل التوصل إلى حل يجنّب البلاد الانقسام الحاصل، إلا أن التدخلات الخارجية والطموحات الشخصية ومصالح الميلشيات وعصابات المال في استمرار الفوضى كانت كفيلة بعرقلة أي مساعٍ للتفاهم. وقد أدى إعلان الأمم المتحدة، في 10 من شباط/فبراير 2022، استمرار دعمها لحكومة الوحدة، ثم تشكيكها في شفافية جلسة مجلس النواب التي جرى فيها تكليف باشاغا، إلى تقوية شوكة عبد الحميد الدبيبة ودفعه مع أنصاره نحو التشبث بمناصبهم وعدم إبداء المرونة اللازمة عند التفاوض، في الجهة المقابلة، يرى باشاغا أن حكومته شرعية وأنها تتمتع بدعم مجلس النواب الليبي المنتخب، وأن الأمم المتحدة تستمع إلى دول أخرى أكثر من استماعها إلى الليبيين أنفسهم، وأنها ربما تسعى للسيطرة والتحكم بالوضع الليبي.

اشتباكات مسلحة.. وموقف حيادي للجيش.. ونداءات سلام

كان من الطبيعي أن يُولَد العنف الميداني من رحم فشل المفاوضات بين "الاستقرار" و"الوحدة"، وتشبث كل (طرف/رئيس حكومة) بموقفه، وبما يدّعي أنه مسوغاته الشرعية لإدارة الأمور في ليبيا كلها شرقها وغربها.

بحلول آب/أغسطس، كانت الأمور في العاصمة طرابلس مهيأة لتجدد الاشتباكات المسلحة بين العناصر والمجموعات المؤيدة للأطراف المتنازعة، وفي نهاية الشهر كانت المعارك قد اندلعت فعلاً، ما تسبّب بجرح أكثر من 160 شخصاً، ومقتل ما يزيد على 32 من بينهم الفنان الكوميدي الليبي مصطفى بركة، الذي أثارت وفاته تفاعلاً واسعاً عبر مواقع التواصل، وتسببت الاشتباكات بفرار كثير من السكان وحدوث أضرار بممتلكات عامة وخاصة.

وقد استخدمت القوات المتناحرة أسلحة خفيفة ومتوسطة، إضافة إلى طائرات مسيرة نجحت الميليشيات الحليفة لحكومة الوحدة الوطنية في استخدامها لصد هجوم التشكيلات المناصرة لباشاغا، مثل اللواء 217 الذي يقوده سالم جحا والذي تحرك من مدينة مصراتة في اتجاه طرابلس، والأمر نفسه ينطبق على قوات أسامة الجويلي آمر غرفة العمليات المشتركة في المنطقة الغربية المؤيد لباشاغا.

بحلول اليوم الثامن والعشرين من آب/أغسطس كانت الأمور قد بدأت تزحف نحو الهدوء إلا أن الوقود ما زال يبلل التربة في طرابلس، والأمور مهيأة للاشتعال من جديد.

في المعارك بدا واضحاً غياب دور الجيش الوطني الليبي التابع لخليفة حفتر، وهذا ما بيّنه المتحدث باسم الجيش أحمد المسماري، الذي أعلن أنه لا يدعم أي طرف على حساب آخر في الأزمة التي تشهدها طرابلس، واصفاً ما يجري في العاصمة بأنه "صراع سياسي".

على الصعيد العربي والدولي، تعالت الدعوات إلى وقف الاشتباكات وحقن الدماء، والعودة إلى طاولة المفاوضات لبحث إمكانية التفاهم ورأب الصدع بين الجهات السياسية المتنافسة.

هل تنجح مساعي باشاغا؟ 

مع تقدم حلفاء باشاغا في كل مرة نحو طرابلس، ونجاحهم في السيطرة على بعض الأماكن قبل الانسحاب أو التورط في الاشتباكات.. يتساءل المراقبون: هل آن سقوط غربي ليبيا في قبضة حكومات الشرق؟، وهل ينجح باشاغا فيما أخفق فيه حفتر؟، وهل آن لليبيا أن تعود موحّدة؟

الحقيقة أنه ما لم تدخل حكومة باشاغا لتمارس مهامها على نحو طبيعي من طرابلس، وتتمكن من إخضاع الميلشيات المؤيدة لعبد الحميد الدبيبة، فمن الطبيعي أنها ستكون حكومة ناقصة الصلاحيات، وستكون هناك حكومتان لإدارة الأمور في البلاد، وستتمكن القوات غير النظامية من السيطرة على الشارع الليبي ونشر الذعر بين المواطنين.

غير أن باشاغا، وهو رجل يتمتع بخبرة سياسية واسعة، قد ينجح فيما أخفق فيه حفتر، خصوصاً أنه يتمتع بشرعية أكثر رسوخاً، بحكم كونه رئيساً للحكومة، كما أنه يطرح نفسه على الرأي العام المحلي والدولي بصفة كونه رجل سياسة لا رجلاً عسكرياً يريد فرض الأمور بالقوة فقط، إضافة إلى ذلك فإنه قد نجح في اكتساب ولاء عدد من التشكيلات العسكرية في طرابلس وفي المدن المؤدية إليها، ما يمكّنه من السيطرة عاجلاً أو آجلاً على العاصمة، حتى إنه بشّر ذات مرة في أحد تصريحاته بأن "دخوله طرابلس قد اقترب ومن دون قطرة دماء".

لكن، عبد الحميد الدبيبة، من جهة أخرى يتمتع بدعم عدد من الميليشيات القبلية، فهو من مواليد مصراته ويملك علاقات جيدة بقيادات في الزنتان والزاوية ، ونجح عبر ورقة المال في شراء عدد من الولاءات، وذلك بالتحالف مع محافظ البنك المركزي المُقال، وهناك أيضاً حلفاء الدبيبة من التيار الإسلامي، الذي يتمتع بخبرة قتالية عالية، مثل "ميليشيا النواصي" التي تضم مقاتلين من "الجماعة الليبية المقاتلة"، وتحظى بدعم القيادي الإخواني علي الصلابي، وكذلك ميليشيا البقرة التي تنشط في منطقة تاجوراء بالناحية الشرقية من طرابلس، وتربطها علاقات وثيقة بقوى الإسلام السياسي، وكذلك ميليشيا الردع التي تعد أكثرها ضراوة في طرابلس، ويقودها عبد الرؤوف كارة.

الثابت في معادلة القوة في ليبيا منذ سنوات أن من يسيطر على شرقي ليبيا يمكنه -رغم الصعوبات- التقدم وفرض النفوذ على العاصمة طرابلس ومناطق الغرب، لولا التدخل الخارجي المتكرر، سواء أكان عسكرياً كما هي الحال في موقف تركيا خلال حملة "طوفان الكرامة" أم دبلوماسياً كما هي الحال اليوم في عدم الاعتراف الأممي الكافي بشرعية حكومة "فتحي باشاغا"، وعدم دعم القوات الحليفة لها عند محاولة السيطرة على العاصمة، وهذا تحديداً ما يطمح باشاغا إلى تغييره بالقوة على الأرض ثم استغلال سلطة "الأمر الواقع" والدعم العربي لفرضه دولياً.

ولا شك تالياً في أن الأسابيع المقبلة ستكون فاصلة في تاريخ ليبيا الحديث، وربما تكون الفرصة الأهم في الـ 12 عاماً الماضية لإعادة الوحدة إلى البلاد مرة أخرى، وكبح عمل الميليشيات، واستعادة شكل الدولة الحديثة من جديد بمؤسساتها المعهودة.