زيارة يلين إلى بكين... أجندات اقتصادية وإملاءات سياسية

في ظل الانكماش والضعف الذي يعاني منه الاقتصاد العالمي، حاولت الولايات المتحدة إلقاء اللوم على الصين، متهمة إياها بتصدير أزماتها الاقتصادية إلى العالم كله، وهذا غير صحيح.

  • تعدّ يلين على الصعيد الشخصي من
    تعدّ يلين على الصعيد الشخصي من "الحمائم" في إدارة الرئيس بايدن.

تشهد العلاقات الصينية الأميركية توتراً كبيراً واختلافاً في التوجّهات السياسية والاقتصادية، لدرجة أننا لا نجد ربما نقاطاً مشتركة يمكن البناء عليها بين البلدين. 

هذا الاختلاف نقل العلاقات بين البلدين من حالة المنافسة والتحدّي، إلى مرحلة من التهديد واحتمالات المواجهة، التي بدأت سياسياً وتجارياً، وبات من غير المستبعد أن تصل حد المواجهة العسكرية، في ظل ما تشهده المنطقة من توترات. 

رغم الحديث المتكرر والتأكيدات التي يطلقها مسؤولو البلدين حول رغبتهما في المضي قدماً في تطوير علاقاتهما وتنحية الخلافات، إلا أن هناك نقاطاً جوهرية لا يمكن إيجاد حل لها.

خلافات سياسية جوهرها اقتصادي، وخلافات اقتصادية جوهرها سياسي، هذه هي حقيقة الواقع في الخلافات القائمة بين البلدين، رغم إدراكنا لترابط السياسي والاقتصادي بكل تأكيد.

انعدام الثقة والاختلافات في التوجّهات السياسية والتي تصل حد التضاد في فلسفة السياسة الخارجية لكلا البلدين، يزيدان الأمر تعقيداً، وتجعلان التعويل على عدم المواجهة يعود فقط إلى حكمة القيادة الصينية وبراعتها في عدم الانجرار إلى حرب لا تطيقها.

التداخل الكبير بين اقتصادي البلدين يسهم وبشكل كبير في حثّهما على التعاون، باعتباره الطريق الأفضل لكليهما، فالمواجهة لو حدثت فسيكون العالم كله غير قادر على تحمّل تبعاتها.

الوقت بالنسبة لبكين "مكسب صلب"، بمعنى أن كلّ تأجيل في المواجهة يقلل من حجم الخسائر التي يتوجّب على الصين تكبّدها، لذا فهي منفتحة على الحوار رغم قناعتها ربما بصعوبة نجاحه.

الولايات المتحدة من جهتها تجد في الصين "معضلة" حقيقية، فاحتواؤها لم يعد ممكناً، والتعاون معها يفضي إلى نتيجة وحيدة، وهي المزيد من الخسائر للاقتصاد الأميركي.

الرغبة في الحوار هي السياسة المعلنة لكلا البلدين، لكن نتائجه كثيراً ما تكون عكسية، فتزداد حدة الاتهامات والتصريحات بعد لقاءات الرئيسين أو مسؤولي البلدين. يشذّ عن هذه القاعدة ربما، وإلى حد بسيط، لقاءات وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، والتي تقوم بزيارة إلى الصين، هي الثانية لها خلال ثمانية أشهر.

فبعد زيارتها الأولى تمّ وضع أسس للتعاون بين البلدين، لكن التطبيق على أرض الواقع يبدو أمراً صعباً، لكنها بكل تأكيد نجحت في خفض وتيرة التوتر بين البلدين. وتعدّ يلين على الصعيد الشخصي من "الحمائم" في إدارة الرئيس بايدن، وهي تؤمن بحتمية الحوار مع الصين، وتقرّ بصعوبته.

تعرّضت يلين خلال زيارتها الأولى لبكين في تموز/يوليو 2023 إلى انتقادات واسعة، نتيجة للانحناءات المتكررة والمبالغ فيها، والتي قامت بها الوزيرة خلال لقاءاتها بالمسؤولين الصينيين.

الصحافة الأميركية، وفي دفاعها عن الوزيرة يلين، عزت الأمر إلى تناولها طبقاً يحتوي على "الفطر السحري"، المعروف بأنه يسبّب الهلوسة، خلال زيارتها لبكين. لكن يلين نفت ذلك لاحقاً، مشيرة إلى أنها تناولت الفطر مع عدد من الأصدقاء، وأنه كان مطبوخاً جيداً، ولم تعانِ هي أو غيرها من أي أعراض أو هلوسة.

"شيطنة الصين" باتت أمراً مألوفاً بالنسبة للولايات المتحدة، حيث عملت واشنطن على التشكيك في كلّ ما هو صيني، من طعام وتكنولوجيا وسيارات وغيرها.

وهم الشراكة البنّاءة بين البلدين...

خلال اللقاء بين الرئيسين بايدن وشي على هامش قمة مجموعة العشرين في بالي في تشرين الأول/نوفمبر 2022، جرى وضع أسس للحوار والتعاون بين البلدين. بعد أيام شنت الولايات المتحدة حملة ضد الصين، وضد الرئيس الصيني شخصياً، فوصفه الرئيس بايدن بـ "الديكتاتور"، وهو ما لقي انتقادات واسعة من قبل الحكومة الصينية. 

الرئيس شي من وجهة نظر الولايات المتحدة أسهم في زيادة التوتر والخلافات بين البلدين، من زاوية سعيه الدائم إلى تطوير بلده سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. فعمل على تطوير علاقات الصين مع عدد كبير من الدول، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، والتي كانت تاريخياً منطقة نفوذ أميركي.

كما نجح شي في تطوير علاقاته مع روسيا وإيران وكوريا الشمالية وسوريا، وهي دول مدرجة على اللائحة السوداء بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية. إضافة إلى صداقته المتميّزة مع الرئيس بوتين، والذي بات اليوم العدو الأول للولايات المتحدة، والغرب عموماً. 

لقد حقّقت الصين قفزات كبيرة في عهد الرئيس شي، حيث طرح أكبر مشروع اقتصادي في التاريخ (الحزام والطريق)، وأصبحت بكين أكبر شريك تجاري لأكثر من 150 دولة في العالم. والصين ثالث أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة الأميركية، والمصدر الأول لها، وهو ما يعكس حجم المخاوف الأميركية من تنامي الاقتصاد الصيني، والذي بات يسعى نحو أن يصبح الاقتصاد الأول على مستوى العالم. 

وفي ظل الانكماش والضعف الذي يعاني منه الاقتصاد العالمي، حاولت الولايات المتحدة إلقاء اللوم على الصين، متهمة إياها بتصدير أزماتها الاقتصادية إلى العالم كله، وهذا غير صحيح.

الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ومحرّك أساسي من محركات الاقتصاد العالمي، تتأثر بما يجري في العالم وتؤثر به، بمعنى أن المشكلات التي يعاني منها الاقتصاد العالمي انعكست على الصين، وليس العكس، والدليل الأرقام التي تشير إلى حجم النمو في الاقتصاد الصيني مقارنة بباقي دول العالم، ومنها الولايات المتحدة الأميركية.

تأثّر الاقتصاد الصيني بأزمة كوفيد 19، ثم جاءت الحرب الأوكرانية، والحرب في غزة وأزمة البحر الأحمر، وما ترتّب عليها من نتائج. فالحرب الأوكرانية التي تسبّبت بها الولايات المتحدة، أثّرت وبشكل كبير على جميع دول العالم، نتيجة لزيادة التداخل في الاقتصاد العالمي، والذي أصبح شبيهاً بـ "الأواني المستطرقة".

الانكماش في الاقتصاد العالمي وضعف الطلب أدى إلى زيادة في العرض، ترافق مع تراجع في الطلب داخل الصين على المنتجات نتيجة لما يعانيه الاقتصاد الصيني من أزمات داخلية، كان آخرها أزمة العقارات في الصين. مع الإشارة هنا إلى أن أزمة العقارات في الصين لم تنتقل تأثيراتها إلى باقي دول العالم، نظراً لقلة التداخل بين النظام المالي الصيني مع النظام المالي العالمي.

بينما الأزمة العقارية التي حدثت في الولايات المتحدة في العام 2008، أصبحت أزمة مالية عالمية، حيث نقلتها الولايات المتحدة إلى العالم، الذي وجد نفسه معنياً بتحمّل تبعاتها.

تعافي الاقتصاد الصيني...

الاقتصاد الصيني فيه الكثير من النقاط المضيئة التي قد لا تتوافر في أي اقتصاد آخر، فهو اقتصاد مركزي مع مرونة شديدة، ولديه وفرة مالية كبيرة، كما تستطيع الحكومة الصينية السيطرة على البنوك، والتدخّل عند الضرورة، كما أنه اقتصاد مفتوح، يقدّم منتجات متنوعة من أدنى جودة إلى أعلى جودة.

وضعت الحكومة الصينية خطة تحفيزية أدت في النهاية إلى تعافي الاقتصاد، حيث اعتمدت على وضع السياسات الدقيقة والناجحة، والانتقال إلى الاستثمار في التكنولوجيا فائقة الجودة، والسيارات، وبطاريات الليثيوم، وألواح الطاقة الشمسية، والأدوية، وغيرها.

كما شجّعت الصين الاستثمار الأجنبي عبر برنامج "استثمر في الصين"، الذي وضع في العام 2021، وتمّ من خلاله تقديم التسهيلات كافة التي يحتاجها المستثمر الأجنبي، وتبديد كلّ المخاوف لديه، عبر توفير بيئة قانونية واستثمارية متكاملة. 

قبل أيام من زيارة يلين استقبل الرئيس الصيني في قصر الشعب في بكين عدداً من رؤساء الشركات الأميركية، في خطوة لتشجيعهم على الاستثمار في الصين، وتبديد المخاوف التي تكوّنت لديهم نتيجة لحجم الشائعات الكبيرة التي تستهدف بكين.

التوترات الجيوسياسية التي تجري في منطقة بحر الصين الجنوبي، تسهم وبشكل كبير في زعزعة البيئة الاستثمارية في الصين، وتعمل على إثارة المخاوف لدى المستثمرين. وتلك التوترات هي نتيجة للتدخلات الأميركية في شؤون المنطقة، حيث سعت واشنطن إلى نسج طوق من التحالفات حول بكين.

من هذه التحالفات كواد (أميركا ـــــ بريطانيا ـــــ الهند ـــــ اليابان) وأوكس (أميركا ـــــ أستراليا ـــــ بريطانيا)، حيث يجري اليوم الحديث عن إمكانية ضمّ دول أخرى إلى تحالف أوكس، ومن هذه الدول اليابان والفلبين وكوريا الجنوبية.

سبقت زيارة يلين مكالمة هاتفية بين الرئيسين الصيني والأميركي استمرت مئة دقيقة، جرت خلالها مناقشة العديد من القضايا والأزمات الدولية. كما التقى مسؤولون عسكريون أميركيون، بنظرائهم الصينيين الأسبوع الماضي في سلسلة من الاجتماعات النادرة في هاواي تركّزت على سلامة العمليات والاحترافية، وضرورة التواصل والتنسيق بين الجانبين.

الحديث عن "نمو متوازن" بين البلدين...

كانت المطالب الأميركية هذه المرة اقتصادية أكثر منها سياسية، وتتعلّق بالعلاقات الثنائية بين البلدين، من دون التدخّل في القضايا الداخلية للصين، وهو الموضوع الأكثر حساسية بالنسبة لبكين.

لم يجرِ الحديث عن "قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان"، وهو المدخل الذي تستخدمه واشنطن عادة للضغط على الحكومات والتدخّل في الشؤون الداخلية للدول، كما لم يجرِ الحديث عن قضية تايوان، باعتبار أن هذا الأمر محسوم من قبل القيادة الصينية.

بمعنى أن هذه المحادثات كانت أقرب إلى الواقعية، حيث عبّرت يلين عن مخاوف الولايات المتحدة من نمو الاقتصاد الصيني، وكثافة التصدير ونوعيته، وهو ما بات يهدّد الكثير من الصناعات الأميركية، وفي مقدمتها صناعة السيارات الكهربائية وألواح الطاقة الشمسية وبطاريات الليثيوم وغيرها.

بمعنى أن المطلوب من بكين خفض إنتاجها، وزيادة سعره، والمزيد من الاعتماد على السوق الداخلية بدلاً من التصدير، أي أن يصبح الاقتصاد الصيني اقتصاداً مبنياً على الاستهلاك لا التصدير. 

تنتج الصين ما يعادل ثلث الإنتاج العالمي، لكنها تمثّل سدس الاستهلاك العالمي فقط، وهذا الواقع يهدّد بكسر النظام التجاري العالمي، وفقاً للرؤية الأميركية. والمطلوب من الصين هو إبطاء نموّها وتخريب اقتصادها، لأن هذا النمو بات يهدد الاقتصادات الأميركية والأوروبية، خاصة وأن العديد من مصانع السيارات الكهربائية في تلك الدول باتت مهدّدة بالإغلاق.

كما أكدت يلين ضرورة ابتعاد بكين عن موسكو، والتعهّد بعدم تزويدها بالأسلحة، وهو مطلب لا يمكن لبكين أن تقبله بكل تأكيد. فهزيمة موسكو أو إضعافها يعني التفرّغ لمواجهة الصين، لذا فقد تمّ الإعلان عن زيارة مرتقبة لوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى بكين تمهّد للزيارة المنتظرة للرئيس الروسي إلى الصين منتصف الشهر المقبل، وهي الزيارة الأولى التي يقوم بها بعد إعادة انتخابه.

بكين تسعى للعب على عامل الوقت، وتدرك أنه لا مجال للدخول في مفاوضات حقيقية وعميقة مع الإدارة الأميركية، خاصة وأن الانتخابات الأميركية باتت على الأبواب. كما أنها تدرك أن "التشدّد مع الصين"، يدغدغ مشاعر الناخب الأميركي، لذا تسعى إلى تجنّب التصعيد مع الإدارة الأميركية الحالية.